الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وأَحْسَنُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ۝﴾ [المائدة: ٩٣]. نزَلَتْ هذه الآيةُ في أقوامٍ شَرِبُوا الخمرَ قبلَ نزولِ تحريمِه، وفي حُكْمِهم: الأقوامُ الذين شَرِبوا الحرامَ وطَعِمُوهُ ثمَّ دخَلُوا الإسلامَ تائبينَ، فتساءَلُوا عمّا شَرِبُوهُ وطَعِمُوهُ ونبَتَتْ أجسادُهُمْ منه، فأنزَلَ اللهُ هذه الآيةَ، رفعًا للحَرَجِ، ودفعًا له عن نفوسِهم. روى الشَّيْخانِ، مِن حديثِ أنسٍ، قال: «كُنْتُ ساقِيَ القَوْمِ فِي مَنزِلِ أبِي طَلْحَةَ، وكانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الفَضِيخَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُنادِيًا يُنادِي: (ألا إنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ)، قالَ: فَقالَ لِي أبو طَلْحَةَ: اخْرُجْ، فَأَهْرِقْها، فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُها، فَجَرَتْ فِي سِكَكِ المَدِينَةِ، فَقالَ بَعْضُ القَوْمِ: قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ وهِيَ فِي بُطُونِهِمْ؟! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَيْسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا﴾»[[أخرجه البخاري (٢٤٦٤) (٣ /١٣٢)، ومسلم (١٩٨٠) (٣ /١٥٧٠).]]. ويدخُلُ في حُكْمِهم: كلُّ مؤمنٍ فيما يَطعَمُهُ ويَشرَبُهُ مِن الحلالِ مِن بابِ أوْلى، ولذا قال النبيُّ ﷺ لابنِ مسعودٍ: (أنْتَ مِنهُمْ) [[أخرجه مسلم (٢٤٥٩) (٤ /١٩١٠).]]. وهذه الآيةُ نزَلَتْ بعدَ آيةِ تحريمِ الخمرِ السابقةِ، فرفَعَ اللهُ بها الحَرَجَ الموجودَ في نفوسِ الصحابةِ رضي الله عنهم. وكثيرًا ما تَنزِلُ الأحكامُ في القرآنِ، ثمَّ يَرفَعُ اللهُ الحَرَجَ الذي يجدُهُ الناسُ مِن فَواتِ شيءٍ مِن الامتثالِ السابقِ قبلَ الحُكْمِ، فلمّا أمَرَ اللهُ بالقِبْلةِ والاتِّجاهِ إلى الكعبةِ، وجَدَ الناسُ حَرَجًا في صلاتِهِمُ السابقةِ وصلاةِ مَن مات منهم إلى بيتِ المَقدِسِ، فأنزَلَ اللهُ: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣]، ومِثلُهُ: لمّا حرَّمَ اللهُ في أولِ المائدةِ المحرَّماتِ وعَدَّها في أكثرِ موضعٍ لعَدَدِ المحرَّماتِ المأكولةِ في القرآنِ، سأَلَ الصحابةُ عن الحلالِ وظَنُّوهُ ضيِّقًا، فأنزَلَ اللهُ: ﴿يَسْأَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ [المائدة: ٤]، ثمَّ عَدَّ الطيِّباتِ عليهم، حتى لا يَستكثِرُوا الخبائثَ المحرَّمةَ، فيَغلِبَهم الشيطانُ عليها. المؤاخَذَةُ على الحلالِ: وظاهرُ آيةِ البابِ: أنّ اللهَ لا يُؤاخِذُ المؤمِنينَ فيما استمتَعُوا به مِن الشرابِ والمَطعَمِ الحلالِ ما أقامُوا الواجباتِ وأدَّوُا الفرائضَ التي عليهم، وإنّما لم يُؤاخِذْهُمُ اللهُ، لأنّه أنزَلَ الطيِّباتِ لهم ليَستمتِعوا بها ويَنتفِعوا منها، ولم يَستثنِ منها إلاَّ عَيْنًا أو وصفًا حرَّمَهُ اللهُ، وهو قليلٌ نادرٌ، ولذا أطلَقَ إباحةَ الأكلِ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ [البقرة: ١٧٢]، وقولِهِ: ﴿فَكُلُوا مِنها حَيْثُ شِئْتُمْ﴾ [البقرة: ٥٨]، وقولِهِ: ﴿كُلُوا واشْرَبُوا مِن رِزْقِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٦٠]. وإذا استمتَعَ العبدُ بالطيِّباتِ مَأْكَلًا ومَشْرَبًا، ولم يُؤَدِّ ما عليه مِن الواجباتِ وعملِ الصالحاتِ، وتَرْكِ المحرَّماتِ، فالأصلُ أنّه مُؤاخَذٌ ومُساءَلٌ ومحاسَبٌ على مُتْعَتِهِ تلك، وعِلَّةُ السؤالِ والمؤاخَذةِ: أنّ تلك المتعةَ لم تُشكَرْ، فمِن شُكْرِها عدمُ العُدْوانِ على ما حرَّمَ اللهُ معها، كما قال تعالى: ﴿كُلُوا واشْرَبُوا مِن رِزْقِ اللَّهِ ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ۝﴾ [البقرة: ٦٠]، وقال تعالى: ﴿كُلُوا مِمّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ [البقرة: ١٦٨]، فإنّ كـمـالَ الاستـمـتـاعِ إمّا أنْ يُصاحِبَهُ شُكْرٌ وعملٌ صالحٌ، أو يُصاحِبَهُ كفرٌ وعملٌ فاسدٌ، فإنّ لَذَّةَ الحلالِ ومُتعتَهُ تُنسِي بعضَ العبادِ ما شَرَعَ اللهُ، وتذكِّرُ بعضَ العِبادِ شُكْرَ نعمةِ اللهِ، ولمّا كان أكلُ الحلالِ سببًا للبَغْيِ ونِسْيانِ نعمةِ اللهِ عندَ الكافِرِينَ والظالِمِينَ آخَذَهُم اللهُ به وحاسَبَهُم عليه، لهذا قلَّما يذكُرُ اللهُ في كتابِه أكلَ الطيِّباتِ إلاَّ ويَقرِنُهُ بأحدِ اللازمَيْنِ منه: الأمرِ بالشُّكْرِ والطاعةِ، أو التحذيرِ مِن الكُفْرِ به واتِّخاذِهِ سبيلًا لمعصيتِه، والنهيُ لا لِذاتِه، فإنّه حلالٌ، وإنّما لِما أدّى إليه مِن عملٍ حرامٍ، وغَفْلةٍ عن الطاعةِ، وانشغالٍ بالمعصيةِ، فإنّ الأُمَمَ الكافرةَ ما غفَلتْ عن اللهِ إلاَّ بسببِ الاستمتاعِ بالطيِّباتِ، فشغَلَتْهُمْ عن حقِّ اللهِ عليهم، كما قال تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ۝﴾ [الحجر: ٣]، وقال عنهم: ﴿كُلُوا وتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ۝﴾ [المرسلات: ٤٦]. ولهذا فسَّرَ غيرُ واحدٍ مِن الصحابةِ هذه الآيةَ: ﴿لَيْسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا﴾: بالتَّقْوى واجتنابِ المحرَّماتِ، كما في ظاهرِها: ﴿إذا ما اتَّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾، كما جاء ذلك عن عمرَ بنِ الخطّابِ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٤ /١٢٠٢).]]. ومِن السلفِ والفُقَهاءِ: مَن ذكَرَ بعضَ أنواعِ التَّقْوى الواجِبةِ في المالِ، كالزكاةِ والصدقةِ والهديةِ والصِّلةِ. ومِن علامةِ اتِّخاذِ الطيِّباتِ سبيلًا إلى الحَرامِ الإسرافُ في الاستمتاعِ بها، كما قال تعالى: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: ٣١].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب