الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ۝وكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ۝﴾ [المائدة: ٨٧ ـ ٨٨]. تقدَّمَ الكلامُ على أصلِ حِلِّ الطعامِ والشرابِ واللِّباسِ وجميعِ الطيِّباتِ، في مواضعَ كثيرةٍ مِن سورةِ البقرةِ وغيرِها. قد ذكَرَ اللهُ الطيِّباتِ ونَهى عن تحريمِها، ثمَّ نَهى عن الاعتداءِ على المحرَّماتِ، وفي ذلك: إشارةٌ إلى أنّ مَن ضيَّقَ على نفسِهِ الحلالَ، فإنّه يدفَعُ نفسَهُ إلى الحرامِ، وإنّما جعَلَ اللهُ الحلالَ سَعَةً، ليكونَ كفايةً وغُنْيةً للإنسانِ عن الحرامِ، ولا يكادُ يقعُ مسلِمٌ في حرامٍ إلاَّ بسببِ تركِهِ الحلالَ البديلَ له عنه، وتضييقِهِ على نفسِهِ فيه، سواءٌ في مَطْعَمٍ أو مَنكَحٍ أو مَلْبَسٍ، لأنّ النفسَ تُرِيدُ إشباعَ نَهَمِها وشهوتِها وقد جعَلَ اللهُ في الحلالِ لها كفايةً، والعُدْوانُ في الآيةِ هو الوقوعُ في الحرامِ. وقد نزَلَتْ هذه الآيةُ في بعضِ أصحابِ النبيِّ ﷺ، كما جاء عن أنسٍ أنّ نفَرًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ سأَلُوا أزواجَهُ عن عَمَلِهِ فِي السِّرِّ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: لا أتَزَوَّجُ النِّساءَ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لا آكُلُ اللَّحْمَ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لا أنامُ عَلى فِراشٍ، فَحَمِدَ اللهَ وأَثْنى عَلَيْهِ، فَقالَ: (ما بالُ أقْوامٍ قالُوا كَذا وكَذا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وأَنامُ، وأَصُومُ وأُفْطِرُ، وأَتَزَوَّجُ النِّساءَ، فَمَن رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي)، رواهُ الشيخانِ عن أنسٍ[[أخرجه البخاري (٥٠٦٣) (٧ /٢)، ومسلم (١٤٠١) (٢ /١٠٢٠).]]. التشريعُ من دون اللهِ: وتحريمُ الحلالِ كتحليلِ الحرامِ، فمَن فعَلَ ذلك تشريعًا لنفسِهِ أو للناسِ، فذلك كُفْرٌ، وإنّما لم يقَعْ ذلك في الصحابةِ في هذه النازلةِ، لأنّهم لم يَفعَلُوا ذلك تشريعًا، وإنّما فعَلُوهُ تزهُّدًا، للتفرُّغِ لِما يرَوْنَهُ أعظَمَ تعبُّدًا لله، فهم امتنَعُوا عنه للهِ، وحرَّمُوهُ على أنفُسِهِمْ للهِ لا لغيرِه، فلم يُصِيبُوا الحقَّ في ذلك. ومَن يَمتنِعُ عن الحلالِ أو يَمنعُ غيرَهُ مِن الحلالِ لمصلحةٍ دنيويَّةٍ، كالطبيبِ في حِمْيَتِهِ للمريضِ، أو ظلمًا كمَن يَمنعُ غيرَهُ فضلَ الماءِ والكَلَأِ ـ: فليس هذا مِن تحريمِ الحلالِ، وتشريعِ ذلك. ومِثلُ ذلك مَن يأذَنُ لغيرِهِ بالحرامِ، فيَسْقِي الخمرَ، ويضَعُ فراشًا وحصيرًا للقِمارِ، فهذا إذنٌ بفعل الحرامِ، لا تحليلٌ له، لأنّ الأفرادَ لا يُتصوَّرُ منهم غيرُ الفعلِ وتسويغِه، لا تشريعُه، ما لم يُحِلُّوهُ بنصٍّ منهم أو قرينة. وأمّا الحُكّامُ الذين يشرِّعونَ القوانينَ للناسِ، فيكتُبُونَ فيها تحليلَ الحرامِ، وتحريمَ الحلالِ، فذلك كفرٌ لا يجوزُ الخلافُ فيه، وقد تقدَّمَ الكلامُ في هذا في أوائلِ سورةِ النِّساءِ عندَ قولِ اللهِ تعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ﴾ [٢٢]. حكمُ تحريمِ الحلالِ وكفارتُهُ: وقد ذكَرَ اللهُ هذه الآيةَ قبلَ ذِكْرِهِ لِكفّارةِ الأَيْمانِ، إشارةً إلى فِعْلِ الصحابةِ، وأنّه يمينٌ، حيثُ حرَّمُوا على أنفسِهِمُ اللحمَ والنِّكاحَ والنومَ على الفُرُشِ. وقد اختلَفَ العلماءُ في اليمينِ التي يحرِّمُ بها الحالفُ على نفسِهِ مطعمًا وملبسًا ومسكنًا: هل تحرِّمُ فِعْلَ المحلوفِ عليه، وتجبُ عليه بها الكفّارةُ عندَ الحِنْثِ، أو لا؟ على قولَيْنِ: الأولُ: أنّها لا تحرِّمُ الحلالَ، كما أنّها لا تُحِلُّ الحرامَ، ولا يجبُ فيها كفّارةٌ، ورُوِيَ هذا عن ابنِ جُبَيْرٍ، وبه قال الشافعيُّ، واستثنى تحريمَ النِّساءِ، وذلك لظاهرِ الآيةِ، وأنّ النبيَّ ﷺ لم يأمُرِ الصحابةَ الذين حلَفُوا على تحريمِ الحلالِ على أنفسِهِمْ بالكَفّارةِ. الثاني: أنّ اليمينَ تحرِّمُ الحلالَ كما أنّها تُوجِبُهُ، لكنَّها لا تُحِلُّ الحرامَ، لأنّ الحرامَ يجبُ فيه التركُ، والحلالَ لا يجبُ فيه الفِعْلُ ولا التركُ، وإنّما استوَتْ أطرافُهُ فِعلًا وتركًا، فاليمينُ أكَّدتْ أحدَ الطرَفَيْنِ، وكلاهُما في الشريعةِ جائزُ الفِعْلِ والتَّرْكِ، وتحريمُ الحلالِ ليس تشريعًا عامًّا، وإنّما خاصٌّ دلَّ الدليلُ عليه وأنّه يكونُ تحريمًا، كما في سورةِ التحريمِ، وهذا قولُ أحمدَ. وعدمُ أمرِ النبيِّ ﷺ بالكفّارة للصحابةِ الذين حرَّمُوا على أنفسِهم اللحمَ والنِّكاحَ والنومَ: فيه نظرٌ، فإنّ الآيةَ نزَلَتْ فيهم، وعقَّبَها اللهُ بعدَ ذلك ببيانِ كَفّارةِ اليمينِ، والحُكْمُ متعلِّقٌ بهم ومَن شابَهَهُم، ثمَّ إنّه لا فرقَ بينَ تحريمِ الحلالِ في النِّكاحِ وفي الطعامِ وغيرِه، ولمّا حرَّمَ النبيُّ ﷺ على نفسِه، أُنزِلَ عليه قولُهُ: ﴿ياأَيُّها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاةَ أزْواجِكَ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝﴾ [التحريم: ١]، ثمَّ قال: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ [التحريم: ٢]، يعني بذلك الكفّارةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب