الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنكُمْ أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِن بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا ولَوْ كانَ ذا قُرْبى ولا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إنّا إذًا لَمِنَ الآثِمِينَ ۝فَإنْ عُثِرَ عَلى أنَّهُما اسْتَحَقّا إثْمًا فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أحَقُّ مِن شَهادَتِهِما وما اعْتَدَيْنا إنّا إذًا لَمِنَ الظّالِمِينَ ۝ذَلِكَ أدْنى أنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وجْهِها أوْ يَخافُوا أنْ تُرَدَّ أيْمانٌ بَعْدَ أيْمانِهِمْ واتَّقُوا اللَّهَ واسْمَعُوا واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ ۝﴾ [المائدة: ١٠٦ ـ ١٠٨]. ذكَرَ اللهُ الوصيَّةَ في مواضعَ مِن كتابِه، منها صريحةٌ في الحُكمِ، كما سبَقَ في سورةِ البقرةِ والنِّساءِ وهنا في المائدةِ، فبيَّنَ فيها شيئًا مِن أحكامِها، وذكَرَها إشارةً في سورةِ يس في قولِهِ تعالى: ﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ولا إلى أهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ۝﴾ [٥٠]، وذلك عندَ قيامِ الساعةِ تُباغِتُ الناسَ، فلا يَتمكَّنونَ ممّا يَتمكَّنُ منه المُحْتَضَرُ عادةً مِن الوصيَّةِ بما يُرِيدُ لمَن خَلْفَهُ، لمُسارَعةِ الأمرِ وانقضاءِ الأجَلِ. نزَلَتِ الآيةُ في الوصيَّةِ لِمَن حَضَرَهُ الموتُ وهو في أرضٍ غيرِ أرضِه، وبينَ سكّانٍ ليسوا مِن أهلِه، ومعه مالُهُ ونفقتُهُ ومَرْكَبُه، ومِن خَلْفِهِ مالٌ وعيالٌ، فيَحتاجُ إلى أنْ يُوصِيَ ـ أنْ يدفَعَ ذلك إلى عَدْلَيْنِ مِن المُسلِمينَ أو مِن غيرِهم. وهذا يدُلُّ على عِظَمِ الوصيَّةِ حتى على الغريبِ، فلم يُعذَرْ في تركِ المالِ والوَرَثةِ، ويُهمِلَ الحقوقَ التي عليه وله، فإنّ لصاحِبِ الحقِّ وللوارثِ حقًّا. وقيل بنسخِ هذه الآيةِ، رُوِيَ هذا عن ابنِ عبّاسٍ[[«تفسير الطبري» (٩ /١٠٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٤ /١٢٣٥).]]، وعن النخَعيِّ[[«تفسير الطبري» (٩ /١٠٧).]]، وابنِ زيدٍ[[«تفسير الطبري» (٩ /٦٧).]]، فجعَلُوها قضيَّةَ عَيْنٍ، ثمَّ نُسِخَتْ، والأكثرُ على إحكامِها، وهو الأظهَرُ، واللهُ أعلَمُ. وقولُه تعالى: ﴿اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنكُمْ﴾، فيه تقديمُ إشهادِ الشاهدَيْنِ مِن المُسلِمينَ على غيرِهم عندَ وجودِهم، قال ابنُ عبّاسٍ: «أمَرَهُ أنْ يُشهِدَ على وصيَّتِهِ عَدْلَيْنِ مِن المُسلِمينَ»[[«تفسير الطبري» (٩ /٧٣)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٤ /١٢٢٩).]]. وقولُه: ﴿مِنكُمْ﴾ حُمِلَ على معنيَينِ: أولُهما: أنّ المرادَ: مِن القبيلةِ وقرابتِكم المُسلِمينَ، وهو قولُ عِكْرِمةَ وعَبِيدَةَ وابنِ شهابٍ والحسنِ، وعلى هذا المعنى فيكونُ ما بعدَهُ في قولِه تعالى: ﴿أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ﴾ المرادُ به مِن المُسلِمينَ مِن غيرِ قبيلتِكم ولا قرابتِكم. ثانيهما: أنّ المرادَ بقولِه: ﴿مِنكُمْ﴾، يعني: مِن المُسلِمينَ، وبه يقولُ ابنُ عبّاسٍ وابنُ المسيَّبِ ومجاهِدٌ، وغيرُهم كثيرٌ مِن السلفِ، وهو الأرجَحُ. ويؤكِّدُ ذلك ويُبيِّنُهُ: قولُهُ تعالى بعدَ ذلك: ﴿أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ﴾، يعني: مِن غيرِ المُسلِمينَ، مِن غيرِ أهلِ مِلَّتِكم، وهو قولُ عامَّةِ السلفِ. وقولُه: ﴿أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ﴾ حُمِلَ على معنيَيْنِ: أولُهمـا: أنّ المرادَ: مِن المُسلِمينَ مِن غيرِ قبيلتِكم وعشيرتِكم، وهو قولُ عِكْرِمةَ وعَبِيدَةَ وابنِ شهابٍ والحسنِ [[ينظر: «تفسير الطبري» (٩ /٦٧ ـ ٦٩).]]. ثانيهمـا: أنّ المرادَ بقولِه: ﴿مِن غَيْرِكُمْ﴾، يعني: مِن غيرِ المُسلِمينَ، وبه يقولُ ابنُ عبّاسٍ وابنُ المسيَّبِ ومجاهدٌ، وغيرُهم كثيرٌ مِن السلفِ، وهو الأرجَحُ، وهو قولُ عامَّةِ السلفِ [[ينظر: «تفسير الطبري» (٩ /٦١ ـ ٦٧).]]. تاركُ الصلاةِ: وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى أنّ تارِكَ الصلاةِ بالكليَّةِ لا يكونُ مُسلِمًا، لأنّ المُسلِمَ هو الذي يَشهَدُ بعدَ صلاتِه، ومَن لم تكنْ له صلاةٌ، فليس بمُسلِمٍ، وقد فسَّرَ عامِرٌ الشعبيُّ قولَه تعالى: ﴿أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ﴾ قال: مِن غيرِ المُصَلِّينَ، كما رواهُ ابنُ وهبٍ في «جامِعِه». شهادةُ الذميِّ: وفيها أيضًا: إشارةٌ إلى عدمِ جوازِ شهادةِ الذميِّ إلا بشرطَيْها، وهما في مِثْلِ هذه الوصيَّةِ: أنْ يكونَ المُسلِمُ في سَفَرٍ، وألاَّ يجدَ شاهِدًا مُسلِمًا يَشهَدُ، فحتى لا يَضِيعَ حقُّهُ وحقُّ الناسِ مِن الوَرَثةِ وغيرِهم فيُشهِدُ الذِّمِّيَّيْنِ، وبهذا كان يَقضي السلفُ، وقد صحَّ عن شُرَيْحٍ، قال: «لا تَصِحُّ شهادةُ الذِّمِّيِّ إلاَّ في سفرٍ، ولا في السفرِ إلاَّ في الوصيَّةِ»[[«تفسير الطبري» (٩ /٦٤).]]، وبهذا يقولُ أحمدُ. وذهَبَ أبو حنيفةَ ومالكٌ والشافعيُّ: إلى عدمِ جوازِ شهادةِ الذميِّ على المُسلِمينَ، وجوَّزَ أهلُ الرأيِ شهادتَهم على أنفسِهم، وقد رُوِيَ عن الزُّهريِّ أنّه قال: «مضَتِ السُّنَّةُ أنّه لا تجوزُ شهادةُ الكافرِ على المُسلِمينَ لا في حضرٍ ولا في سفرٍ»[[«تفسير الطبري» (٩ /٦٨).]]. وإنّما خَصَّتِ الآيةُ السفرَ والوصيَّةَ لإشهادِ الكافرِ على حقِّ المُسلِمِ، بخلافِ غيرِها مِن الأحوالِ، كالبُيُوعِ والدُّيُونِ والرَّهْنِ للحاضرِ والمسافِرِ، لأنّ الاحتِضارَ في السفرِ يَعجِزُ معه الإنسانُ عن البحثِ عن شاهدٍ يَشهَدُ له في حقِّه، لكونِهِ عندَ غيرِ أهلِهِ وفي غيرِ بلدِه، بخلافِ ما لو كان بائعًا صحيحًا، فعندَهُ مِن فُسْحةِ الوقتِ وصِحَّةِ البدنِ ما يَقدِرُ على الإشهادِ على حقِّه مِن المُسلِمينَ، فكان الأمرُ للمُحتضَرِ المسافرِ في بلدِ كفرٍ بينَ أمرَيْنِ: الموتِ بلا وصيَّةٍ وتضييعِ المالِ والحقوقِ، أو الوصيَّةِ وإشهادِ كافرٍ عليها يَحتمِلُ صِدقُهُ وكذبُهُ، ويُجعَلُ للمسلِمِ مِن الوَرَثةِ الحقُّ في الطعنِ فيها وإسقاطِها عندَ قيامِ بيِّنةٍ وقرينةٍ على فسادِ تلك الشهادةِ، فكان أخَفَّ الحالَيْنِ وأقَلَّ المَفسدتَيْنِ إشهادُ الكافرِ على وصيَّتِه. وإنْ رَضِيَ أهلُ الميراثِ بشهادةِ الشاهدَيْنِ، وذلك لأنّهم يَعرِفونَ صِدْقَهما أو يَعرِفونَ مالَ المُوصِي كثرةً وقلةً ونوعًا، فإنّهم يَترُكونَهما، وإنْ شَكُّوا فيهما واتَّهَمُوهُما فيَدفَعُونَهما إلى السُّلْطانِ لِيَمتحنَهما ويَستحلفَهما. الحلفُ بعد الصلاة: وقولُه تعالى: ﴿تَحْبِسُونَهُما مِن بَعْدِ الصَّلاةِ﴾، فيه تعظيمُ الحَلِفِ بعدَ الصلاةِ، لكونِه مُنصرَفَ العبادةِ، وقريبَ العهدِ بالخضوعِ للخالقِ، وأقرَبَ لذِكْرِ المَعادِ وخَشْيةِ اللِّقاءِ، وقد خَصَّ بعضُ السلفِ الصلاةَ بصلاةِ العصرِ، كما قالهُ ابنُ عبّاسٍ وعَبِيدَةُ السَّلْمانِيُّ والشعبيُّ وابنُ جُبيرٍ والنخَعيُّ وقتادةُ[[ينظر: «تفسير الطبري» (٩ /٧٦ ـ ٧٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٤/١٢٣٠)، و«تفسير ابن كثير» (٣ /٢١٧).]]. وقال الزُّهْريُّ بعمومِ الصلاةِ في أيِّ وقتٍ أدرَكَها. وإن كان الشهودُ مِن غيرِ المُسلِمينَ، فيَحلِفانِ بعدَ صلاتِهما في دِينِهما، رُوِيَ هذا عن ابنِ عبّاسٍ[[«تفسير ابن كثير» (٣ /٢١٧).]]، لأنّ المرادَ تعظيمُ اليمينِ في نفسَيْهما، وحِفظُ الحقِّ بتخويفِهما وترهيبِهما مِن ربِّهما، وليس في ذلك إعانةٌ لهما على عِبادةِ غيرِ اللهِ، ودَعْوَتُهما لإقامةِ صلاةٍ غيرِ صلاةِ المُسلِمينَ، وعبادةِ ربٍّ غيرِ اللهِ، وإنّما هو حفظٌ لحقِّ المُسلِمينَ بعدَ صلاتِهم التي يُؤدُّونَها في دينِهم كما كانوا مِن قبلُ. استحلافُ الكافِرِ: وفي هذا: دليلٌ على جوازِ استحلافِ الكافرِ على ما يُعظِّمُهُ في دِينِه، والتنزُّلِ معه بما يُشعِرُهُ بِعَظَمةِ دِينِهِ ومَعبدِهِ مِن غيرِ تصريحٍ. ويُقسِمانِ على ما شَهِدا ويُبيِّنانِ أنّهما بيَّنا ولم يَكتُما لدُنيا ولا لرِشْوةٍ، ويكونُ ذلك عندَ الرِّيبةِ منهما، كما قال تعالى: ﴿فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا ولَوْ كانَ ذا قُرْبى﴾، ويُسقِطُ عنهما ذلك التُّهمةَ، لأنّه لا بيِّنةَ عليهما، والقولُ قولُهما. ولا يثبُتُ في الوحيِ: أنّ الشاهدَ يَحلِفُ على شهادتِهِ إلاَّ في هذا الموضعِ. وقولُه تعالى: ﴿فَإنْ عُثِرَ عَلى أنَّهُما اسْتَحَقّا إثْمًا﴾، وذلك بكتمانِهما للحقِّ، وأخذِ شيءٍ مِن مالِ الميِّتِ، ﴿فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ﴾، أيْ: يقومُ اثنانِ مِن أحَقِّ الورثةِ بالمالِ، ﴿فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أحَقُّ مِن شَهادَتِهِما﴾، أيْ: أحَقُّ بالقَبُولِ والأخذِ مِن كَذِبِهما وخيانتِهما، لعِلمِهما بحالِ الميِّتِ وما له وما عليه مما يجهلُ الكفّارُ حالَهُ، ويُبيِّنانِ أنّهما لم يَتعدَّيا عليهما ويَبهتاهُما بما ليس فيهما، وإنّما لبُطْلانِ قولِهما على الميِّتِ، فلا يَتضرَّرُ صاحِبُ الحقِّ في مالِ مورِّثِهِ، وصاحِبُ الحقِّ مِن مالِ الميِّتِ بدَيْنٍ أو رهنٍ أو هبةٍ وعطيةٍ، فإنّ ذلك مِن الظُّلْمِ العظيمِ، وبذلك تُرَدُّ شهادةُ الكافرَيْنِ لشهادةِ المُسلِمَيْنِ مِن الورثةِ، لأنّ اللَّهَ قال: ﴿فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما﴾، فجعَلَ المُسلِمَيْنِ بدَلَ الكافرَيْنِ. وإن كان الورثةُ قُصَّرًا صِغارًا واسْتُرِيبَ بشهادةِ الذِّمِّيَّيْنِ، فيقومُ مَقامَهما مِن عامَّةِ المُسلِمينَ ممَّن استرابَ بشهادةِ الذِّمِّيَّيْنِ، رُوِيَ هذا عن ابنِ عبّاسٍ وغيرِه[[«تفسير الطبري» (٩ /١٠٢).]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب