الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وإنْ تَسْأَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفا اللَّهُ عَنْها واللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ۝﴾ [المائدة: ١٠١]. نزَلَتْ هذه الآيةُ في سؤالِ الصحابةِ عمّا لم يكلَّفُوا به، وقد جاء ذلك في أحاديثَ، منها مِن حديثِ عليٍّ[[أخرجه أحمد (٩٠٥) (١ /١١٣)، والترمذي (٨١٤) (٣ /١٦٩)، وابن ماجه (٢٨٨٤) (٢ /٩٦٣).]] وابنِ عبّاسٍ[[أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ /٢٠).]] وأبي هريرةَ[[أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» (٢٥٠٨)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (٤ /١١٠)، وابن حبان في «صحيحه» (٣٧٠٤)، والدارقطني في «سننه» (٢٧٠٧) (٣ /٣٤٠)، والطبري في «تفسيره» (٩ /١٨).]] وأبي أُمامةَ[[أخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (٤ /١١٠)، والطبراني في «المعجم الكبير» (٧٦٧١)، والطبري في «تفسيره» (٩ /١٩).]]: أنّها نزلَتْ لمّا سأَلُوا عن الحَجِّ: «أفي كلِّ عامٍ؟»، وجاء مِن حديثِ ابنِ عبّاسٍ[[أخرجه البخاري (٤٦٢٢) (٦ /٥٤).]] وأبي هريرةَ[[أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ /١٧)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (٤ /١١٢).]]: أنّها نزلَتْ في سؤالِ الصحابةِ النبيَّ ﷺ عن آبائِهِمْ وضالَّتِهمْ، ونحوُهُ عن أنسٍ في «الصحيحَيْنِ»[[أخرجه البخاري (٤٦٢١) (٦ /٥٤)، ومسلم (٢٣٥٩) (٤ /١٨٣٢).]]. ورُوِيَ عن ابنِ عبّاسٍ: أنّ المسألةَ التي نُهِيَ عنها هي البَحِيرَةُ والسّائِبَةُ والوَصِيلَةُ والحامُ، لأنّ اللهَ ذكَرَها بعدَ ذلك[[التفسير من «سنن سعيد بن منصور» (٨٣٩) (٤ /١٦٣٣).]]، وقد تفرَّدَ به خُصَيْفٌ، وقد تُكُلِّمَ فيه. وقد نَهى اللهُ عن السؤالِ، رحمةً بالأمَّةِ وتوسعةً عليها، فإنّ السؤالَ يَلزَمُ منه الجوابُ، والجوابُ يُضيِّقُ سَعَةَ الحُكْمِ السابقِ، وكلَّما زاد السؤالُ، ضاق التكليفُ، فنَهى اللهُ عن السؤالِ رَحْمةً بالناسِ، وقد جاء النهيُ في السُّنَّةِ عن السؤالِ، كما في «الصحيحِ»، عن رسولِ اللهِ ﷺ، أنّه قال: (ذَرُونِي ما تَرَكْتُكُمْ، فَإنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤالِهِمْ، واخْتِلافِهِمْ عَلى أنْبِيائِهِمْ، فَإذا أمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ، فَأْتُوا مِنهُ ما اسْتَطَعْتُمْ، وإذا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَدَعُوهُ) [[أخرجه مسلم (١٣٣٧) (٢ /٩٧٥).]]، وفي الحديثِ الصحيحِ أيضًا، قال ﷺ: (إنَّ اللهَ عزّ وجل فَرَضَ فَرائِضَ فَلا تُضَيِّعُوها، وحَرَّمَ حُرُماتٍ فَلا تَنْتَهِكُوها، وحَدَّ حُدُودًا فَلا تَعْتَدُوها، وسَكَتَ عَنْ أشْياءَ مِن غَيْرِ نِسْيانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْها) [[أخرجه الدارقطني في «سننه» (٤٣٩٦) (٥ /٣٢٥).]]. واللهُ يُنزِلُ الحُكْمَ وفي اختيارِهِ أو صِفَتِهِ وزمانِهِ وعَدَدِهِ سَعَةٌ على الناسِ، والسؤالُ يضيِّقُ رحمةَ اللهِ تلك ويَشُقُّ على الناسِ، ولمّا نزَلَتِ الأحكامُ واستقَرَّ الدِّينُ، شُرِعَ السؤالُ، لأنّه لن يُزادَ في الحُكْمِ، لانقطاعِ الوحيِ، فكلُّ سؤالٍ في الدِّينِ، فالأصلُ أنّه لرفعِ الجهلِ وتحصيلِ العِلْمِ، ولذا قال تعالى: ﴿وإنْ تَسْأَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾، وفي هذا أنّ السؤالَ بعدَ ثُبُوتِ الحُكْمِ للاستيضاحِ مِن مُشكِلٍ، ولاستبانةِ مُشتبِهٍ: محمودٌ، وقد قال تعالى: ﴿فاسْأَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ۝﴾ [النحل: ٤٣، والأنبياء: ٧]، وقد أجاب اللهُ سؤالَ الصحابةِ لنبيِّهم في مواضعَ مِن القرآنِ مِن هذا النوعِ، ولم يُعاتِبْهم اللهُ على ذلك. وقد بَقِيَتْ أنواعٌ مِن السؤالِ مَنهِيٌّ عنها: مـنـهـا: السؤالُ عمّا سكَتَتِ الشريعةُ عن دقائقِهِ وأوصافِه، وطلَبُها مِن كلامِ الناسِ مِن الأممِ السابقةِ كبني إسرائيلَ، أو اللاحقةِ مِن سائرِ الفُقَهاءِ، فإنّ اللهَ لمّا نَهى عن سؤالِه هو، وجوابُهُ حقٌّ لا يأتيهِ الباطلُ مِن بينِ يدَيْهِ ولا مِن خَلْفِه، فإنّ سؤالَ غيرِهِ الذي يَحتمِلُ الحقَّ والباطلَ أشَدُّ في النهيِ، فيجبُ أن تُؤخَذَ الشريعةُ على ما ظهَرَ منها مِن غيرِ تكلُّفٍ. ومنها: السؤالُ مُغالَطةً لا طلبًا للحقِّ، كإيرادِ الرَّجُلِ المسائلَ لِيُبيِّنَ عجزَ غيرِهِ ويُظهِرَ عِلْمَه، ومنه المناظَرةُ لغيرِ قصدِ إظهارِ الحقِّ، وإنّما للإفحامِ والترفُّعِ، وقد رُوِيَ في «المسنَدِ» و«سُنَنِ أبي داود»، عن معاويةَ: نَهى رسولُ اللهِ ﷺ عن الغُلُوطاتِ[[أخرجه أحمد (٢٣٦٨٨) (٥ /٤٣٥)، وأبو داود (٣٦٥٦) (٣ /٣٢١).]]، فسَّرَهُ الأوزاعيُّ بشِدادِ المسائلِ وصِعابِها[[أخرجه أحمد (٢٣٦٨٧) (٥ /٤٣٥).]]، ومرادُهُ: التي يُلتمَسُ بها استِزلالُ الناسِ وليس تعليمَهُمْ، وهذه تَغلِبُ عندَ مَن قصَدَ العِلْمَ لغيرِ اللهِ. ومنهـا: السؤالُ عمّا لا يَملِكُ أحدٌ جوابًا عنه إلاَّ اللهُ، ككيفيَّةِ صِفاتِ اللهِ تعالى، ووقتِ عِلْمِ الساعةِ، وأَعْمارِ الناسِ، وحوادثِ المستقبلِ، وغيرِ ذلك مِن أمورِ الغيبِ، لأنّ كلَّ جوابٍ سيكونُ كَهانةً وخَرْصًا، وهذا منازَعةٌ للهِ في عِلْمِه، فلا يَعلَمُ الغيبَ إلاَّ هو. ومـنها: السؤالُ مِراءً وتزيُّدًا، كإكثارِ السؤالِ على العالِمِ عن جزئيّاتٍ مع عدمِ إدراكِ الكليّاتِ، أو السؤالِ عن فروعٍ مع الجهلِ بالأصولِ، فإنّ لطلبِ العِلْمِ مقاصدَ: فإنْ كان طلبُ العِلْمِ لأجلِ العملِ، فالعملُ بالأصولِ والكليّاتِ أوْلى، وإن كان لأجلِ البلاغِ، فتبليغُ الأصولِ والكليّاتِ أولى. ومِثلُ ذلك السؤالُ عن الواضحاتِ تكلُّفًا، والسؤالُ عن كلِّ ما يَرِدُ على النفسِ مِن غيرِ تمييزِ ما يُناسِبُ وما يَصلُحُ للحالِ والمَقامِ، وكثيرًا ما يُحرَمُ المتعلِّمُ عِلْمَ العالِمِ بسببِ مِرائِه، لأنّ العالِمَ يَحبِسُ عِلْمَهُ عن أهلِ المِراءِ، وربَّما كان مِن عادةِ العالِمِ التفصيلُ والبسطُ في المسائلِ والتفريعُ، ولكنَّه عندَ أهلِ المِراءِ يَختصِرُ، لأنّه يَعلَمُ أنّ المُمارِيَ يَلتقِطُ الجزئيّاتِ لِيُغالِطَ فيها ويُناظِرَ عليها، ومِن ذلك قولُ مَيْمونِ بنِ مِهْرانَ: «لا تُمارِ مَن هو أعلَمُ منك، فإذا فَعَلْتَ ذلك، خَزَنَ عنك عِلْمَهُ ولم تَضُرَّهُ شيئًا»[[«جامع بيان العلم وفضله» (١ /٥١٧).]]. وربَّما يقعُ المِراءُ ممَّن يُحسَنُ الظنُّ به، فيَخلِطُ بينَ المِراءِ وبينَ فضلِ السؤالِ والحاجةِ إلى كثرتِه لتحصيلِ العِلْمِ، قال الزُّهْريُّ: «كان أبو سَلَمَةَ يُماري ابنَ عبّاسٍ، فحُرِمَ بذلك علمًا كثيرًا»[[«جامع بيان العلم وفضله» (١ /٥١٨).]]. وكان أبو سلمةَ يقولُ بعدَ ذلك: «لو رَفَقْتُ بابنِ عبّاسٍ، لاستخرَجْتُ منه علمًا كثيرًا»[[«جامع بيان العلم وفضله» (١ /٥٢٠)، و«الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (١ /٢٠٩).]]. ومنهـا: السؤالُ عمّا لا يَنفَعُ المرءَ ولا يَعْنِيهِ، كالسؤالِ عمّا لا يحتاجُ إليه في عملٍ ولا تبليغٍ، أو السؤالِ عن أسرارِ الناسِ وما يُخبِّئونَ، فضلًا عن تتبُّعِ عيوبِهم وعَوْراتِهم، ويُروى في الخَبَرِ: (مِن حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ: تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيهِ) [[أخرجه الترمذي (٢٣١٧) (٤ /٥٥٨)، وابن ماجه (٣٩٧٦) (٢ /١٣١٥).]]. وقولُهُ تعالى: ﴿قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أصْبَحُوا بِها كافِرِينَ ۝﴾ [المائدة: ١٠٢]، يعني: كَفَرُوا، لأنّهم لم يُريدُوا الخيرَ والاسترشادَ، فحُرِمُوا التوفيقَ إلى العملِ، لأنّهم سأَلوا تكلُّفًا وتعنُّتًا. وكذلك في العِلْمِ، فمَن تكلَّفَ في السؤالِ وتعنَّتَ ولم يُرِدِ استرشادًا، حُرِمَ برَكةَ العِلْمِ، ولم يُوفَّقْ إلى العملِ، ولم يَنتفِعْ بسؤالِهِ في نفسِهِ، ولا في غيرِهِ. بَرَكةُ العِلْمِ بالعملِ والبلاغِ: وللعِلْمِ بَرَكةٌ لا يَنالُها إلاَّ مَن أخَذَهُ ليعمَلَ به أو يُبلِّغَهُ، وقد كان في بني إسرائيلَ مَن يَسألُ النبيَّ تعنُّتًا وعنادًا ومغالَطةً، فلمّا أُجِيبَ عن سؤالِهِ، لم يَعْمَلْ بما عَلِمَ، بل تولّى وكفَرَ، ومَن كَثُرَ عِلمُهُ وقلَّ عملُهُ، فلسُوءِ نيَّتِهِ وقصدِه. وفي هذه الآيةِ: إشارةٌ إلى ما يَسُوغُ السؤالُ عنه، وهو ما يَقتضي العملَ والبلاغَ، ولهذا فينبغي على مَن قصَدَ عِلمًا أنْ يَنظُرَ قبلَ سؤالِه إلى أمرَيْنِ: الأولُ: العملُ، فإنْ كان مِن أهلِ العملِ بما عَلِمَ مِن العِلْمِ السابقِ، وكلَّما تعلَّمَ عَمِلَ، فإنّ هذه أمارَةٌ على حُسْنِ قصدِه، وإنْ قَلَّ عملُهُ أو عُدِمَ مع كثرةِ سؤالِهِ، فهو يَستكثِرُ مِن حُجَجِ اللهِ عليه، والأَولى بمَن عَلِمَ شيئًا مِن العِلْمِ أنْ يعمَلَ به، وقد تتزاحَمُ العلومُ عليه، ويَستثقِلُ العملَ بكلِّ ما عَلِمَ، فلْيَعمَلْ بما عَلِمَ ولو مرَّةً، ليَنالَ بَرَكةَ عِلْمِه، وقد جاء عن أحمدَ بنِ حنبلٍ: «ما كتبتُ حديثًا عن النبيِّ ﷺ إلاَّ وقد عَمِلْتُ به، حتى مَرَّ بي الحديثُ أنّ النبيَّ ﷺ احْتَجَمَ وأَعطى أبا طَيْبَةَ دينارًا، فأعطَيْتُ الحَجّامَ دينارًا حينَ احتَجَمْتُ»[[«الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (١ /١٤٤).]]. والعاملُ الصادقُ يَعملُ بأَولى العِلْمِ وأَوْجَبِهِ عليه، فمَن أراد تعلُّمَ عِلْمٍ، فلْيَنظُرْ خلْفَهُ إلى ما وجَبَ عليه مِن أقرَبِ العِلْمِ الذي يَتْبَعُه، فإنْ كان مِن أهلِ العملِ به، فلْيتعلَّمْ ما بعدَه، فإنّ العِلْمَ مراتبُ بحسَبِ التكليفِ. الثاني: البلاغُ، وذلك أنّ العملَ قد لا يُطيقُهُ كلُّ أحدٍ، فمِن العِلْمِ ما لا يَلحَقُ المكلَّفَ تكليفٌ به، كطالبِ العِلْمِ الفقيرِ في أحكامِ الزكاةِ، والعاجزِ في الحجِّ والجهادِ، وغيرِ التاجِرِ في أحكامِ البيوعِ وغيرِها، فالبلاغُ لهذا العِلْمِ مِن مقاصدِ تعلُّمِه، والناسُ يختلِفونَ في مقامِهم في الناسِ، ولا يخلو أحدٌ مِن الناسِ مِن القُدْرةِ على البلاغِ ولو لأقرَبِ الناسِ إليه، فيَنصَحُ ويأمُرُ ويَنهى ويُعلِّمُ ولو خادمًا، أو زوجةً وولدًا، أو جارًا وصاحبًا، ولذا قال ﷺ: (بَلِّغُوا عَنِّي ولَوْ آيَةً) [[أخرجه البخاري (٣٤٦١) (٤ /١٧٠).]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب