الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ودُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنهُمْ أوْلِياءَ حَتّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وجَدْتُّمُوهُمْ ولا تَتَّخِذُوا مِنهُمْ ولِيًّا ولا نَصِيرًا ۝إلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أنْ يُقاتِلُوكُمْ أوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ۝سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أنْ يَأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ ما رُدُّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويُلْقُوا إلَيْكُمُ السَّلَمَ ويَكُفُّوا أيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وأُولَئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطانًا مُبِينًا ۝﴾ [النساء: ٨٩ ـ ٩١]. لمّا أمَرَ اللهُ بقتالِ المُشرِكِينَ، ومَن أظهَرَ الإسلامَ ثمَّ لَحِقَ بالمشرِكِينَ بمكةَ تاركًا للنبيِّ ﷺ، وبَقِيَ في سَوادِهم، أمَرَ بتحريمِ اتِّخاذِهِمْ أولياءَ: ﴿فَلا تَتَّخِذُوا مِنهُمْ أوْلِياءَ﴾ ما دامُوا مُكَثِّرِينَ لِسَوادِ المشرِكِينَ وفي وسَطِهم ولم يَنعزِلُوا عنهم، ولكنَّ اللهَ استثنى منهم طائفتَيْنِ: الأُولى: طائفةٌ لجأَتْ إلى قومٍ كافِرِينَ بينَهم وبينَ المؤمِنِينَ عهدٌ، فإنْ لم يُقاتِلوا لا يُقاتَلوا، فيَأخُذُونَ حُكْمَ القومِ الذين اتَّصَلُوا بهم، كما في قولِه تعالى: ﴿إلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ﴾. الطائفةُ الثانيةُ: قومٌ كَرِهُوا قتالَ النبيِّ ﷺ، وكرِهوا قتالَ قومِهم، فرَغِبُوا في السلامةِ مِن الأمرَيْنِ، وأَوْلى منهم الذين لَحِقُوا بالمُسلِمِينَ ورجَعُوا إليهم، ولكنَّهم استثقَلُوا القتالَ مع المُسلِمِينَ، لأنّهم سيُقاتِلونَ قَوْمَهم وقراباتِهم، واستثقَلُوا القتالَ مع المشرِكِينَ، لأنّهم سيُقاتِلونَ المُسلِمِينَ، ورغِبُوا في تركِ القتالِ والحيادِ، فهؤلاء يُترَكُونَ، وهم الذين قال اللَّهُ فيهم: ﴿أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أنْ يُقاتِلُوكُمْ أوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾. وهذه الآيةُ نزلَتْ في هلالِ بنِ عُوَيْمِرٍ الأَسْلَمِيِّ، وسُراقَةَ بنِ مالكٍ المُدْلِجِيِّ، وخزيمةَ بنِ عامرِ بنِ عبدِ منافٍ، قالهُ عِكرمةُ، عن ابنِ عبّاسٍ، رواهُ ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ[[«تفسير الطبري» (٧/٢٩٣)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠٢٧).]]. وقال جماعةٌ مِن السلفِ بنسخِ هذه الآيةِ، كما جاء عنِ ابنِ عبّاسٍ، قال: نَسَخَتْها براءةُ: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، رواهُ عن عطاءٍ عنه غيرُ واحدٍ، أخرَجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠٢٧).]]. وقال بالنسخِ جماعةٌ كقتادةَ وعِكْرِمةَ والحسنِ وابنِ زيدٍ، وأنّها نُسِخَتْ بآياتِ القتالِ في براءةَ. وقولُهُ تعالى: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾، يعني: كَرِهَتْ قتالَ قومِهم وضاقتْ به. رحمةُ اللهِ بعدمِ اجتماعِ الكفّار على المسلمين: وفي قولِه تعالى: ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ۝﴾ إشارةٌ إلى نعمةِ اللهِ وفضلِهِ على المُسلِمِينَ في عدمِ اجتماعِ الكفارِ على المُسلِمِينَ، وإنّما كَفى الأمَّةَ شرَّهم بتفرُّقِ أهوائِهم، فطائفةٌ تُقاتِلُ، وطائفةٌ تُسالِمُ، وطائفةٌ تُسلِّمُ وتُحايدُ في القتالِ، وفيه: أنّ مِن الحِكْمةِ والسياسةِ عدمَ اسْتِعْداءِ أُمَمِ الكُفْرِ، الذين لو اجتمَعُوا، لَما كان للمُسلِمِينَ قدرةٌ عليهم، فاللهُ جعَلَ كَفَّهُ لبعضِهم مِنَّةً وفضلًا منه، حتى يتفرَّغَ المُسلِمونَ لآخَرِينَ فيَأخُذُوا كلَّ فئةٍ وأمَّةٍ كفريَّةٍ وحدَها، ولا تنتصِرُ لها أختُها. المسلمُ بين المحارِبِينَ: ومَن كان مع الكافِرِينَ المُحارِبِينَ، وأُمِرَ بالخروجِ منهم فلم يَخرُجْ وهو قادرٌ، أخَذَ حُكْمَهم، وقد كان أقوامٌ مِن أهلِ مكةَ يَأْتُونَ إلى النبيِّ ﷺ يُسلِمُونَ ليَأْمَنُوهُ ويَأْبَوْنَ الهجرةَ فيَرجِعُونَ إلى مكةَ، وهم المقصودونَ بعدَ ذلك بقولِه: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أنْ يَأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ ما رُدُّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويُلْقُوا إلَيْكُمُ السَّلَمَ ويَكُفُّوا أيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وأُولَئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطانًا مُبِينًا ۝﴾، وقد صحَّ عن مُجاهدٍ، قال: «هم ناسٌ مِن أهلِ مكةَ يَأْتُونَ النَّبِيَّ ﷺ، فيُسلِمونَ رِياءً، ثمَّ يَرجِعُونَ إلى قريشٍ، فيَرْتَكِسُونَ فِي الأوثانِ، يَبتَغونَ بذَلِكَ أنْ يأمَنُوا هاهنا وهاهنا، فأَمَرَ بقتالِهم»[[«تفسير الطبري» (٧/٣٠١)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٨٢٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠٢٩).]]. وقد تقدَّمَ في سورةِ البقرةِ الكلامُ على مُسالَمةِ المُشرِكينَ ومُصالحتِهِمْ عندَ قولِهِ: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كافَّةً﴾ [٢٠٨]، وبيَّنّا أنّ المرادَ بالسِّلْمِ: الإسلامُ، وحمَلَهُ بعضُ المتأخِّرينَ على المُسالَمةِ والمصالَحةِ، وبيَّنّا هذا القولَ وفصَّلْنا في حُكْمِ المُهادَنةِ والمُوادَعةِ تَبَعًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب