الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيامًا وارْزُقُوهُمْ فِيها واكْسُوهُمْ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ۝﴾ [النساء: ٥]. والنهيُ في هذه الآيةِ متوجِّهٌ للأولياءِ آباءً أو أزواجًا أو غيرَهم، والمقصودُ بالسَّفَهِ في الآيةِ: عدمُ إحسانِ التصرُّفِ، سواءٌ كان مِن الرجلِ أو المرأةِ، أو الصغيرِ أو الكبيرِ، وقد يكونُ سوءُ التدبيرِ في بابٍ دونَ بابٍ، فما لم يُحسِنِ التصرُّفَ فيه الإنسانُ، فيَدخُلُ في حُكْمِ الآيةِ، فمَن يُضارِبُ في سوقٍ لا يَعرِفُها ولا يعرفُ إقبالَها ولا إدبارَها، ولا مواضعَ الربحِ والخسارةِ فيها، ولو كان عاقلًا مكلَّفًا في نفسِه، فهو داخلٌ في الآيةِ. إعطاءُ المالِ مَن لا يُحْسِنُ تدبيرَهُ: والعلماءُ مِن المفسِّرينَ مِن السلفِ يُدْخِلُونَ في الآيةِ الصغيرَ والمرأةَ التي لا تُحسِنُ التدبيرَ في المالِ، قاله ابنُ عبّاسٍ وابنُ مسعودٍ والحسَنُ والحَكَمُ وغيرُهم[[«تفسير الطبري» (٦/٣٨٨ ـ ٣٩٤)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٨٦٣).]]. وقال أبو هُريرةَ: هم الخَدَمُ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٨٦٣).]]. وهذا كلُّه مِن التنوُّعِ، لا الحصرِ في نوعٍ، فربَّما كان السفيهُ كبيرًا، وربَّما كان امرأةً، وربَّما كان رجلًا. الحجرُ على السفيهِ: وهذه الآيةُ أصلٌ في الحَجْرِ على السَّفِيهِ، والحَجْرُ عليه محلُّ اتِّفاقٍ عندَ العلماءِ، قال ابنُ المُنذِرِ: «أكثرُ علماءِ الأمصارِ يَرَوْنَ الحَجْرَ على كلِّ مُضيِّعٍ لمالِه، صغيرًا كان أم كبيرًا»[[«الأوسط» (١١/١٠)، و«الإشراف على مذاهب العلماء» (٦/٢٣٧).]]. والسَّفَهُ: هو صرفُ المالِ في الحرامِ، أو السَّرَفُ في المباحِ، ومَن حُكِمَ عليه بالحجرِ، لا يصحُّ تصرُّفُه، لأنّ هذا هو مقتضى الحجرِ، فلا ينعقدُ شراؤُهُ ولا بيعُهُ ولا وقْفُه، ولا يصحُّ له إقرارٌ. وإقرارُ المحجورِ عليه على نفسِهِ صحيحٌ مجمَعٌ عليه، إذا كان بزنًى أو سرقةٍ أو شربِ خمرٍ أو قذفٍ أو قتلٍ، وحكى الإجماعَ على هذا ابنُ المُنذِرِ[[«الأوسط» (١١/٢٠)، و«الإشراف على مذاهب العلماء» (٦/٢٤٣).]]. وأكثرُ العلماءِ على أنّ الحدودَ تُقامُ عليه، وإنْ طلَّقَ، نفَذَ طلاقُهُ ومَضى. وجوبُ حفظِ الأموالِ وعدمِ السَّرَفِ: وحرَّمَ اللهُ إيتاءَ السفهاءِ المالَ، لأنّ المالَ ولو كان ملكًا بيدِ العبدِ، فهو حقٌّ للهِ، لا يجوزُ التخوُّضُ فيه بلا حقٍّ، ففي «الصحيحِ»، قال ﷺ: (إنَّ رِجالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النّارُ يَوْمَ القِيامَةِ)[[أخرجه البخاري (٣١١٨) (٤/٨٥).]]. واللهُ مَلَّكَ الإنسانَ مالَهُ لِيتدبَّرَهُ وينتفِعَ ويستمتِعَ به، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩]، وحَدَّ ذلك بالتدبيرِ وحُسْنِ التصرُّفِ، كما قال تعالى: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ۝﴾ [الأعراف: ٣١]. بل نَهى اللهُ عن السَّرَفِ حتى في النفقةِ إذا أضَرَّ بصاحِبِهِ وأهلِه في غيرِ ما ضرورةٍ عامَّةٍ بالأمَّةِ، قال تعالى: ﴿والَّذِينَ إذا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوامًا ۝﴾ [الفرقان: ٦٧]. وفي «السُّنَنِ»، قال ﷺ: (كُلُوا واشْرَبُوا وتَصَدَّقُوا والبَسُوا، ما لَمْ يُخالِطْهُ إسْرافٌ أوْ مَخِيلَةٌ)[[أخرجه ابن ماجه (٣٦٠٥) (٢/١١٩٢).]]. وفي الآيةِ: حفظٌ للمالِ حقًّا للهِ وحقًّا لصاحِبِ المالِ أنْ يُهدِرَهُ وهو في حاجة إليه، ولذا جعَلَ اللهُ الوِلايةَ والقِوامةَ، فأمَرَ بالإنفاقِ على السفيهِ والإحسانِ إليه، وأنّ النهيَ عن تصرُّفِه في المالِ في موضعٍ لا يُحسِنُهُ: لا يعني ظُلْمَهُ والتقصيرَ في حقِّه، وقد روى ابنُ جريرٍ، عن عليٍّ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال: «كُنْ أنْتَ الَّذِي تُنْفِقُ عَلَيْهِمْ فِي كِسْوَتِهِمْ ومُؤْنَتِهِمْ»[[«تفسير الطبري» (٦/٣٩٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٨٦٤).]]. وأمَرَ اللهُ ـ مع حبسِ المالِ عن تصرُّفِهم والإنفاقِ عليهم ـ بالإحسانِ إليهم حتى في القولِ، تطييبًا لنفوسِهم، وكسبًا لودِّهم، لأنّهم يَجْهَلُونَ مواضعَ النفعِ والضرِّ في أموالِهم، فربَّما كَرِهُوا الحجرَ عليهم إساءةً للظنِّ، وقولُ المعروفِ يَدفعُ ظنَّ السوءِ، ويُطيِّبُ النفوسَ. وقولُه: ﴿أمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيامًا﴾، أي: تَقُومُ الحياةُ بالمالِ، فلا يضعُفُ الإنسانُ بفقرٍ أو حاجةٍ لغيرِه، فبالمادَّةِ تقومُ الحياةُ الدُّنيا، وبالعبادةِ تقومُ الحياةُ الأُخرى. قِوامةُ الرجالِ على النساءِ: وفي قولِه تعالى: ﴿وارْزُقُوهُمْ فِيها واكْسُوهُمْ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ۝﴾ دليلٌ على قِوامةِ الرجالِ على النساءِ، فاللهُ أمَرَهُمْ بالإنفاقِ على النساءِ والصِّغارِ، وفيه أنّ العملَ والتكسُّبَ على الرجالِ لا على النساءِ، فاللهُ لم يأمُرِ النساءَ في الوحيِ بالتكسُّبِ والضَّرْبِ في الأرضِ، وهذه هي الفِطْرةُ التي جُبِلَ عليها البَشَرُ، كما قال تعالى لآدَمَ وحوّاءَ في الجَنَّةِ: ﴿فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقى ۝﴾ [طه: ١١٧]، فيَخرُجانِ جميعًا والشقاءُ لآدمَ، لأنّه مَكْفِيٌّ في الجنةِ مِن الضربِ في الأرضِ والعملِ والتكسُّبِ، وأمّا في الدُّنيا فسيَشْقى وحدَه، ومحلُّ حواءَ في قرارِها، واللهُ أمَرَ الرجالَ ولم يَنْهَ النساءَ عن التكسُّبِ إنِ احْتَجْنَ إليه مِن غيرِ تبرُّجٍ ولا اختلاطٍ بالرجالِ الأجانبِ. كفايةُ الأهلِ والزوجة بالنفقةِ: ولا حَدَّ للرزقِ والكسوةِ المأمورِ بها في الآيةِ، لعمومِ الآيةِ، ولظاهرِ السُّنَّةِ، كما في قولِ النبيِّ ﷺ لهندَ بنتِ عُتْبةَ: (خُذِي ما يَكْفِيكِ ووَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ)[[أخرجه البخاري (٥٣٦٤) (٧/٦٥)، ومسلم (١٧١٤) (٣/١٣٣٨).]]، فالواجبُ الكفايةُ مِن غيرِ سَرَفٍ ولا مَخِيلَةٍ، والكفايةُ تختلِفُ بحسَبِ الأشخاصِ والأزمانِ والأحوالِ، والعلماءُ يتَّفقونَ على عدمِ تحديدِ حَدٍّ للكِسْوةِ، ويَختلِفونَ في تحديدِ النفقةِ، والأرجحُ عدمُ تحديدِها أيضًا، وهو قولُ مالكٍ وأبي حنيفةَ وأحمدَ، خلافًا للشافعيِّ فيَرى تقديرَها اعتبارًا بكفارةِ اليمينِ، حيثُ قُدِّرَ الرزقُ فيها، ولم تُقدَّرِ الكِسْوةُ، وعلى مذهبِ الشافعيَّةِ يرَوْنَ على الزوجِ رزقًا واجبًا وهو مدينٌ ككفارةِ اليمينِ، وهذا قد يُقالُ به لو لم يكُنْ في البابِ حديثُ هندَ بنتِ عتبةَ، وحديثُ هندَ أصرَحُ وأوضَحُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب