الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿وإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّ الكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ۝﴾ [النساء: ١٠١]. نزلَتْ هذه الآيةُ بعدَ إتمامِ الصلاةِ، وقد كانَتْ ركعتَيْنِ ركعتَيْنِ، فزِيدَ في صلاةِ الحضَرِ، وأُقِرَّتْ صلاةُ السَّفَرِ، كما في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ عائشةَ[[سيأتي تخريجه بإذن الله.]]، وهذا جُعِلَ لصلاةِ المُسافِرِ الصلواتِ رَكعتَيْنِ جميعًا، كما كانَتْ قبلَ إتمامِها، إلاَّ الصُّبْحَ، فإنّها لم تَزِدْ فتبقى على حالِها حضَرًا وسفَرًا بلا خلافٍ، والمغرِبَ، فهي ثلاثٌ حضَرًا وسفَرًا بلا خلافٍ، وحُكِيَ عنِ ابنِ دِحْيَةَ قَصْرُها، وهو كذِبٌ لا يصحُّ القولُ بهذا عن عالِمٍ مِن أهلِ الإسلامِ. قَصْرُ الصلاةِ للمسافِر: وقد رفَعَ اللهُ الحرَجَ بِقَصْرِ الرُّباعِيَّةِ في السَّفَرِ بقولِهِ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾، والجُناحُ: الحرَجُ، قالهُ ابنُ عبّاسٍ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠٥١).]]. وقد جاء رفعُ الحرَجِ في السفَرِ مقيَّدًا بخوفِ فتنةِ الكافِرِينَ للمؤمِنِينَ وكيدِهم بِهم، ثُم أمضاهُ رسولُ اللهِ لأمَّتِهِ تَوْسِعةً ورحمةً، ففي «الصحيحِ»، مِن حديثِ يَعْلى بنِ أُمَيَّةَ، قال: قلتُ لعمرَ بنِ الخطّابِ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، فقد أمِنَ الناسُ؟! فقال: عَجِبْتُ ممّا عجبتَ منه، فسألتُ رسولَ اللهِ ﷺ عن ذلكَ، فقال: (صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِها عَلَيْكُمْ، فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ)[[أخرجه مسلم (٦٨٦) (١/٤٧٨).]]. وكانَتْ هذه الآيةُ عندَما كَثُرَتِ السَّرايا والغزَواتُ، ثمَّ كانتْ في كلِّ سفَرٍ، لأنّ طولَ الصلاةِ مَظِنَّةُ تربُّصِ العدوِّ والتِفافِهِ بالمُسلِمينَ، روى ابنُ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ، أنّ الآيةَ نزَلَتْ لمّا كان النبيُّ ﷺ بِعُسْفانَ والمشرِكونَ بضَجْنانَ، فتوافَقُوا، فصلّى النبيُّ بأصحابِهِ صلاةَ الظُّهرِ أربعَ ركَعاتٍ، ركوعُهم وسُجودُهم وقيامُهم معًا جميعًا، فهَمَّ به المُشرِكونَ أنْ يُغِيرُوا على أمْتِعَتِهم وأَثْقالِهم، رَواهُ ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ[[«تفسير الطبري» (٧/٤١١)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠٥٢).]]. وقولُه تعالى: ﴿أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾، يَعني: بتخفيفِ الرُّباعِيَّةِ إلى ركعتَيْنِ، لا قَصْرِ كلِّ الصلواتِ، فإنّ الفجرَ والمغرِبَ لا يُقْصَرانِ بلا خلافٍ. أنواعُ تخفيفِ الصلاةِ في السَّفَرِ: وتخفيفُ الصلاةِ في السَّفرِ على نوعَيْنِ: الأوَّلُ: تخفيفُ الطُّولِ، فلا يُقرَأُ بالطِّوالِ مِنَ السُّورِ ولا بالأواسِطِ، وإنّما بالقِصارِ في كلِّ الصَّلواتِ، وهكذا كان فِعْلُ النبيِّ ﷺ وخُلَفائِهِ وأصحابِه، صحَّ هذا عن عُمَرَ وابنِ عُمرَ وأنَسٍ، وحكاهُ النَّخَعيُّ عنهم جميعًا، كما رواهُ ابنُ أبي شَيْبةَ، قال: «كان أصحابُ رسولِ اللهِ ﷺ يَقْرَؤونَ في السَّفَرِ بالسُّورِ القِصارِ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٣٦٨٤) (١/٣٢٢).]]. وهو وإن لم يَسمَعْ أحدًا مِنَ الصَّحابةِ إلاَّ أنّه صحَّ عن عمرَ أنّه قرَأَ في سَفَرِهِ للحجِّ بالناسِ في الفَجْرِ بالفيلِ وقريشٍ، وقرَأَ أيضًا فيها بالكافرونَ والإخلاصِ، رواهُ ابنُ أبي شيبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٣٦٨٢) و(٣٦٨٣) (١/٣٢٢).]]. وصلّى أبو بكرِ بنُ أنَسِ بنِ مالكٍ بأبيهِ الفَجْرَ، فقرَأَ بتَبارَكَ، فلمّا انصرَفَ، قال له أنَسٌ: «طوَّلْتَ عَلينا»، رواهُ عبدُ الرزّاقِ بسَنَدٍ صحيحٍ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٢٧٣٩) (٢/١١٩).]]. ولا مُخالِفَ لهم مِنَ الصَّحابةِ، وهو قولُ طاوسٍ والنَّخَعيِّ مِن التابعينَ. وهذا النوعُ مِن التخفيفِ في كلِّ الصلواتِ جميعًا. والنوعُ الثاني: تخفيفُ العَدَدِ، وهو في الرُّباعِيَّةِ فقَطْ، فتكونُ ركعتَيْنِ. وهذا النوعُ هو المقصودُ في الآيةِ مِن قَصْرِ الصلاةِ، والأوَّلُ يدخُلُ تبَعًا باللُّزومِ والأثَرِ. مراحِـلُ تشريعِ الصلاةِ: وقد شرَعَ اللهُ الصلاةَ للأمَّةِ على مراحِلَ مُجمَلةٍ ثلاثٍ: الأُولى: شرَعَ اللهُ الصلاةَ ركعتَيْنِ ركعتَيْنِ، ولا فرقَ بينَ الصَّلواتِ النَّهاريَّةِ والليليَّةِ، ولا بينَ الفريضةِ والرّاتبةِ، وذلك كما في حديثِ عائشةَ السابقِ في «الصحيحَيْنِ»: «فَرَضَ اللهُ الصَّلاةَ حِينَ فَرَضَها رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فِـي الحَـضَـرِ والسَّـفَـرِ، فَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ، وزِيدَ فِي صَلاةِ الحَضَرِ»[[أخرجه البخاري (٣٥٠) (١/٧٩)، ومسلم (٦٨٥) (١/٤٧٨).]]. المرحلةُ الثانيةُ: الزيادةُ في صلاةِ الفرضِ وجوبًا، وذلك في الظهرِ والعصرِ والمغربِ والعشاءِ، وإبقاءُ الصُّبْحِ والنوافلِ ـ الصبحِ فَرْضًا، والنوافلِ على السُّنَّةِ ـ أن تكونَ ركعتَيْنِ ركعتيْنِ، إلاَّ الوِتْرَ فواحدةً، أو وِترَ العددِ ممّا زاد. واختُلِفَ في التنفُّلِ بواحدةٍ مِن غيرِ الوترِ، ورُوِيَ ذلك عن عُمرَ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٥١٣٦) (٣/١٥٤)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (٦٢٤٩) (٢/٤٢)، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (٢/٣٢٢).]]، وقد جاء في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا: (صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنى مَثْنى، فَإذا خَشِيَ أحَدُكُمُ الصُّبْحَ، صَلّى رَكْعَةً واحِدَةً تُوتِرُ لَهُ ما قَدْ صَلّى) [[أخرجه البخاري (٩٩٠) (٢/٢٤)، ومسلم (٧٤٩) (١/٥١٦).]]، وفي روايةٍ: (صَلاةُ اللَّيْلِ والنَّهارِ)[[أخرجه أحمد (٤٧٩١) (٢/٢٦)، وأبو داود (١٢٩٥) (٢/٢٩)، والترمذي (٥٩٧) (٢/٤٩١)، والنسائي (١٦٦٦) (٣/٢٢٧)، وابن ماجه (١٣٢٢) (١/٤١٩).]]. المرحلةُ الثالثةُ: قَصْرُ صلاةِ السَّفَرِ الرُّباعِيَّةِ خاصَّةً ركعتَيْنِ ركعتَيْنِ، وهذا في هذه الآيةِ: ﴿وإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾. حكمُ قَصْرِ المسافِرِ للصلاةِ: واختُلِفَ في قصرِ الصلاةِ: هل هو رُخْصةٌ أو إحكامٌ؟: فمَن جعَلَهُ رُخْصةً، لم يُبطِلِ الصلاةَ بالزِّيادةِ في السَّفَرِ، لأنّ القصرَ رخصةٌ يجوزُ تَرْكُها. ومَن جعَلَ القصرَ حُكْمًا وإحكامًا، جعَلَ الزِّيادةَ على الركعَتَيْنِ في السفرِ ـ إلاَّ المغرِبَ ـ كالزِّيادةِ على الفرائضِ في الحضَرِ الرُّباعِيَّةِ خَمْسًا، والثُّنائيَّةِ ثلاثًا، والثلاثيَّةِ أربعًا. والسَّلَفُ مِن الصحابةِ والتابعينَ: على أنّها رخصةٌ، وهو قولُ أكثرِ الفقهاءِ، وهو قولُ الشافعيِّ وأحمدَ، بل قال مالكٌ: إنّها سُنَّةٌ. وخالَفَ أبو حنيفةَ وشيخُهُ حمّادٌ في ذلك، إذْ جعَلا القَصْرَ فرضًا في السَّفرِ، كالإتمامِ في الحضَرِ! وقد أخَذا بظاهرِ حديثِ عائشةَ السابقِ: «أُقِرَّتْ صلاةُ السَّفرِ»، وجعَلا صلاةَ السَّفَرِ لم تكُنْ أربعًا. وهذا مخالِفٌ لِظاهرِ القرآنِ، فاللهُ رفَعَ الحرَجَ عَنِ المُصلِّي إذا قصَرَ صلاتَهُ في سفَرِه، ورفعُ الحرَجِ يدلُّ على جوازِ القَصْرِ، ولا يدلُّ على وجوبِه، وفي لغةِ العربِ أنّ الحرَجَ يُرفَعُ لإباحةِ الشيءِ وليس لوجوبِه. ومَن نظَرَ في ظاهرِ القرآنِ والسُّنَّةِ، تيقَّنَ أنّ قصرَ الصلاةِ في السفرِ كان بعدَ صلاةِ النبيِّ ﷺ بأصحابِه صلاةَ الحضَرِ تامَّةً لسِنِينَ، وعائشةُ لم تُرِدْ أنّ القَصْرَ جاء مع زيادةِ الصَّلاةِ لأربعٍ، فهي أعلَمُ الناسِ بذلك، ولكِنْ لمّا كان الأصلُ في الناسِ الإقامةَ، لم يكُنِ التلبُّسُ بالسفرِ أصلًا، فحمَلَتِ القصرَ العارضَ على الأصلِ السابقِ للصَّلاةِ، وهو الرَّكْعتانِ، وكأنّ السفرَ سُكِتَ عنه، ثُمَّ أُقِرَّ على ما مَضى، وأنّ السكوتَ عنه يَجعلُهُ تابعًا للأصلِ، وهو الإتمامُ في الإقامةِ، فحُكْمُ السفرِ ثبَتَ تبَعًا للحضَرِ، ولَمّا جاء حُكْمُ القصرِ في السفرِ بالنصِّ، استقَلَّ بنفسِهِ بنصٍّ مستقلٍّ عمّا كان عليه مِنَ الثبوتِ تبَعًا لنصٍّ متعلِّقٍ بحالٍ أُخرى، وهي الإقامةُ، ولَمّا ثبَتَ بنفسِهِ، دلَّ على تغايُرِ حُكْمِهِ عنِ الحضَرِ، ولم تُرِدْ غيرَ ذلك. ولا يصحُّ أن نجعلَ مِن حديثِ عائشةَ قولًا لها في وجوبِ القَصْرِ وقد ثبَتَ عنها أنّها كانتْ تُتمُّ الصلاةَ في السفرِ، كما قال عطاءٌ: «لا أعلَمُ أحدًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ كان يُوفِي الصلاةَ في السَّفَرِ إلاَّ سعدَ بنَ أبي وقّاصٍ، وكانَتْ عائشةُ تُوفِي الصلاةَ في السفرِ وتصومُ»، رواهُ عبدُ الرزّاقِ والطَّحاويُّ وابنُ المُنذرِ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٤٤٥٩) (٢/٥٦٠)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/٤٢٤)، وابن المنذر في «الأوسط» (٤/٣٨٥).]]، وهو صحيحٌ. ورواهُ عنها عُرْوةُ، أخرَجَهُ عبدُ الرزّاقِ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٤٤٦١) و(٤٤٦٢) (٢/٥٦١).]]. وجاء عنها أيضًا أنّها كانَتْ تقصُرُ في السفَرِ، رواهُ عنها ميمونُ بنُ مِهْرانَ وعُرْوةُ، الأوَّلُ رواهُ عبدُ الرزّاقِ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٤٤٦٣) (٢/٥٦١).]]، والثاني رواهُ ابنُ جَريرٍ[[«تفسير الطبري» (٧/٤١٠).]]. وثبَتَ القصرُ بعدَ النبيِّ ﷺ عن الصحابةِ، كأبي بكرٍ وعُمَرَ وعثمانَ وعليٍّ وابنِ عمرَ وابنِ عبّاسٍ وجابرٍ وأبي موسى وأنَسٍ وأبي بَرْزَةَ وسَلْمانَ وغيرِهم. سببُ إتمامِ بعضِ السلفِ للصلاةِ في السَّفَرِ: وما ورَدَ عن بعضِهم مِن الإتمامِ في السفرِ، فليس هو على الخلافِ في أصلِ الرُّخْصةِ، وإنّما خِلافُهم في ذلكَ لسبَبَيْنِ: الأوَّلُ: لاختلافِهم في التفاضُلِ بين القصرِ والإتمامِ. الثاني: لاختلافِهم في تقديرِ حقيقةِ السفرِ الذي رُبِطَتْ به رُخْصةُ القَصْرِ ونوعُهُ، وتقديرُ الإقامةِ وحالِها ومُدَّتِها، وحالِ المسافرِ وقَصْدِه. وعلى هذا يُحمَلُ ما جاء عن عائشةَ وسعدٍ كما سبَقَ، وما جاء كذلك عن المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ، وعبدِ الرحمنِ بنِ عبدِ يَغوثَ. وأمّا ما جاء في الخبرِ عن عُمرَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨١٥٦) (٢/٢٠٣).]] وابنِه[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨١٦٧) (٢/٢٠٤).]]: «صلاةُ السَّفَرِ ركعَتانِ تمامٌ غيرُ قصرٍ»، وبنحوِه قال جابرٌ[[أخرجه أبو داود الطيالسي (١٧٨٩)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٣/٢٦٣).]]، فالمرادُ بذلك الأجرُ والثوابُ والجزاءُ وليس العَدَدَ، حتّى لا يظُنَّ أحدٌ أنّ أجْرَهُ يَنقُصُ فيَغلِبُهُ التعبُّدُ إلى الإتمامِ وتركِ السُّنَّةِ، وهذا المعنى الذي بيَّنَهُ ابنُ عبّاسٍ وابنُ عمرَ لرجلٍ أتَمَّ في السفرِ وصاحِبُه يَقصُرُ، فقالا له: «بل أنتَ الذي كنتَ تَقصُرُ، وصاحبُك الذي كان يُتِمُّ!»، رواهُ مجاهدٌ عنِ ابنِ عبّاسٍ، أخرَجَه ابنُ أبي شيبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨١٧٣) (٢/٢٠٥).]]، ورواهُ قتادةُ عنِ ابنِ عمرَ، عندَ عبدِ الرزّاقِ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٤٤٦٥) (٢/٥٦١).]]. ومُرادُهما تمامُ الاتِّباعِ وقصورُهُ، وليس المرادُ تشابُهَ الحُكْمِ وبطلانَ صلاةِ السفرِ بالزيادةِ، كبُطْلانِ صلاةِ الحضرِ بالنَّقْصِ والزِّيادةِ، ولم يثبُتْ عن أحدٍ مِن الصحابةِ: أنّه قال بذلك، وقد جاء عنِ ابنِ عبّاسٍ: «مَن صلّى في السَّفَرِ أربعًا، كان كمَن صلّى في الحضَرِ ركعتَيْنِ»[[أخرجه أحمد (٢٢٦٢) (١/٢٥١).]]، رواهُ الضحّاكُ بنُ مُزاحِمٍ عنه، ولم يَسْمَعْه منه، قال شُعْبةُ وابنُ المَدِينيِّ وأبو زُرْعَةَ وابنُ حِبّانَ: وقد سُئِلَ هو عن سماعِه مِن ابنِ عبّاسٍ، فنَفاهُ[[ينظر: «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (٤/٤٥٨)، و«تهذيب الكمال» (١٣/٢٩٤).]]. وقد جاء عندَ عبدِ الرَّزّاقِ، وعنه الطبرانيُّ، عنِ النَّخَعيِّ، عنِ ابنِ مسعودٍ، قال: «مَن صلّى في السَّفَرِ أربعًا، أعادَ الصلاةَ»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٤٤٦٦) (٢/٥٦١).]]. وهذا مُنكَرٌ، تفرَّدَ به غالبُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ، عن حَمّادٍ، عنِ النَّخَعيِّ، وغالبٌ متروكٌ. ونسَبَ بعضُ الفقهاءِ لعائشةَ وجوبَ الإتمامِ في كلِّ سفرٍ، ولا يصحُّ عنها إنكارُ القصرِ بكلِّ حالٍ، ولم يقُلْ به أحدٌ مِن فقهاءِ التابعينَ الذين عُرِفُوا بالأخذِ عنها. حكمُ اشتراطِ مفارقَةِ البنيانِ للقصرِ: وقد عُلِّقَ القَصْرُ بالضربِ في الأرضِ، كما في قولِه: ﴿وإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾، والضَّرْبُ في الأرضِ هو السفرُ، وأُطلِقَ في الآيةِ كما أُطلِقَ في السُّنَّةِ ولم يُقيَّدْ بنصٍّ صحيحٍ صريحٍ، إحالةً للعُرْفِ، ولاختلافِ البُلْدانِ، ولسابقِ عِلْمِ اللهِ بتغيُّرِ البُلْدانِ والمَراكِبِ، فلو قُيِّدَ بالأيّامِ ولو يومًا، لكان دَوَرانُ الأرضِ كلِّها اليومَ لا يُعَدُّ سَفَرًا لاختِلافِ المَراكبِ، ولو قُيِّدَ بمفارَقةِ البُنْيانِ، لسَقَطتْ أحكامُ السفرِ في كثيرٍ مِن بُلْدانِ الهندِ والصينِ، لطولِها مع اتِّصالِ بُنْيانِها، وفي الهندِ والصينِ اليومَ يَسيرُ الراكِبُ نهارًا كاملًا، ولا تنفَكُّ العينُ عن بناءٍ يَتْبَعُ بناءً، وأُطلِقَ الضَّرْبُ في الأرضِ، لأنّ السفرَ يتلبَّسُ به كلُّ أحدٍ، فلا يحتاجُ إلى تقييدٍ، لاتضاحِه في العُرْفِ عندَهم. ولم يُحفَظْ في زمَنِ النبوَّةِ أنّ أحدَ الصحابةِ سألَهُ عن مسافةِ القصرِ مع قيامِ الحاجةِ وعمومِ البَلْوى، ولم يَظهَرْ أنّ الصحابةَ اختَلَفُوا فيما بينَهم في حدِّ ذلك اختلافًا يرَوْنَهُ يُعارِضُ ظاهرَ القرآنِ، وإنّما تختلِفُ أقوالُهُمْ وأفعالُهُمْ بحسَبِ حالِهِمْ وحالِ السائلِ، وربَّما اختلفَتْ أقوالُهم لاختلافِهم في تفاضُلِ القصرِ والإتمامِ في السفرِ، لا في حقيقةِ السفرِ في ذاتِه. اختلافُ السلفِ في مسافةِ القصرِ... واعتبارُ العرفِ: وبعضُ الفقهاءِ يَحمِلُ تبايُنَ أقوالِهم في هذا على اختلافِهم في حدِّ السفَرِ نَفْسِهِ، لا فيما يحتَفُّ به مِن حالٍ وقصدٍ، ولذلك تَوَسَّعُوا في حكايةِ حدِّ مسافةِ القَصْرِ عنِ الصحابةِ، ووُضِعَتْ بعضُ الأقوالِ في غيرِ موضعِها، وجعَلُوا للواحدِ منهم أقوالًا متضادَّةً متعارضةً، ومَن نظَرَ إلى المرفوعِ إلى النبيِّ ﷺ وإلى الموقوفِ على الخلفاءِ الرّاشِدِينَ، وجَدَ أنّها حكايةُ حالٍ. وهذا وغيرُهُ مما يُحكى مِن تنوُّعِ أقوالِ الصحابةِ يعضُدُ أنّ الأمرَ يَرجِعُ إلى العُرْفِ، وإنّما خِلافُهم في حالِ المسافِرِ وما يَقترِنُ بسفَرِهِ مِن قرائنَ خارجةٍ عنه، يُنزِلونَ الحُكْمَ بعدَ معرفتِها على ذاتِ السَّفَرِ، فيُظَنُّ أنّ اختلافَهم على مسافةِ السَّفَرِ التي يصحُّ بها القَصْرُ. وقد صحَّ في مسلمٍ: أنّ عُمَرَ قصَرَ بذي الحُلَيْفةِ[[أخرجه مسلم (٦٩٢) (١/٤٨١).]]، وبينَها وبينَ المدينةِ اثنا عشَرَ كيلًا أو أقلُّ، واليومَ هي مِن المدينةِ أو أوشكَتْ، وصحَّ عنه أنّه قصَرَ الصلاةَ إلى خَيْبَرَ، كما رواهُ أسْلَمُ، وهي نحوٌ مِن مِئَةٍ وثمانينَ كيلًا، رواهُ البيهقيُّ[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٣/١٣٦).]]، وصحَّ عنه أنّه قصَرَ في ثلاثةِ أميالٍ، رواهُ اللَّجلاجُ العامريُّ عنه، أخرَجَه ابنُ أبي شيبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨١٣٧) (٢/٢٠٢).]]. ولم يُقيِّدْهُ عثمانُ بنُ عفّانَ مسافةً، وإنّما قيَّدَهُ بما يتَحقَّقُ معه السفَرُ عادةً في العُرْفِ، وهو الشخوصُ والبروزُ في الأرضِ، الذي يحتاجُ فيه معه إلى الزّادِ، فقال: إنّما يَقْصُرُ الصلاةَ مَن كان شاخِصًا أو بحضرةِ عدوٍّ، وهو صحيحٌ عنه، أخرَجَهُ عبدُ الرزّاقِ وغيرُهُ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٤٢٨٥) (٢/٥٢١)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨١٥١) (٢/٢٠٣)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٣/١٣٧).]]. وصحَّ عن عليٍّ: أنّه قصَرَ وهو منطلِقٌ إلى صِفِّينَ، رواهُ عنه عاصمٌ، أخرَجَهُ ابنُ المُنذِرِ[[أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (٣/٩٣).]]. وهذا الصحيحُ عنِ الخلفاءِ الراشِدِينَ في قصرِ الصلاةِ، ولا أعلَمُ عن أحدٍ منهم مَن حَدَّ السفَرَ الذي يُقصَرُ فيه بمسافةٍ زمنيَّةٍ، ولا طُوليَّةٍ، وإنّما هي أفعالٌ مجرَّدةٌ حُكِيَتْ عنهم، لا يُجزَمُ بأنّهم أخرَجوا ما دونَها، فلا يُترَخَّصُ فيها، وهي شبيهةٌ بالأفعالِ المحكيَّةِ عنِ النبيِّ ﷺ التي تدلُّ على عمومِ الترخُّصِ، لا حدِّ السَّفرِ بزمَنٍ ولا بطولٍ، وما ترَكُوا ذلك إلاَّ لأنّ السَّفَرَ لا يَنضبِطُ باطِّرادٍ على كلِّ زمنٍ ولا على كلِّ مَسِيرٍ. وقد جاء عمَّن دونَهُمْ مِن الصحابةِ أقوالٌ في حدِّ السفرِ بمَسِيرٍ أو بمكانٍ أو زمانٍ، ولكنْ ما مِن أحدٍ منهم صَحَّ الحدُّ عنه في قولٍ إلاَّ صحَّ عنه مِن وجهٍ آخَرَ ما يُخالِفُه، فقد صَحَّ عنِ ابنِ عبّاسٍ، أنّه قال: «لا تَقْصُرْ إلى عَرَفَةَ وبَطْنِ نَخْلَةَ، واقْصُرْ إلى عُسْفانَ والطّائِفِ وجُدَّةَ، ولا تَقْصُرُوا الصَّلاةَ إلاَّ فِي اليَوْمِ التّامِّ، ولا تَقْصُرْ فِيما دُونَ اليَوْمِ»، رواهُ عنه عطاءٌ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٤٢٩٦) (٢/٥٢٤)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨١٤٠) و(٨١٤٧) (٢/٢٠٢).]]، ورواهُ الشافعيُّ في الأمِّ[[«الأم» (١/٢١١).]]، وروى مجاهدٌ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٤٢٩٩) (٢/٥٢٤)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨١٣٥) (٢/٢٠١).]] وعِكْرِمةُ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨١١٩) (٢/٢٠٠).]] وأبو حِبَرَةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨١٣٣) (٢/٢٠١).]] عنه تَقيِيدَهُ باليومِ التامِّ. وتَرخَّصَ ابنُ مسعودٍ بالقَصْرِ مِن الكوفةِ إلى النَّجَفِ[[أخرجه البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (٢/٤٢٢).]]، وبينَهما بضعةَ عشَرَ كيلًا، وترخَّصَ أيضًا بأربعةِ فَراسِخَ[[ينظر: «الاستذكار» لابن عبد البر (٦/٩٧).]]، ولم يُرخِّصْ حذيفةُ بالقَصْرِ مِنَ الكوفةِ إلى المَدائنِ[[أخرجه البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (٢/٤٢٢).]]، معَ أنّه رُوِيَ عنه أنّه قصَرَ بنفسِه بينَهما[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨١١٨) (٢/٢٠٠).]]. وأمّا ابنُ عمرَ، فصحَّ عن نافعٍ قولُهُ: «كان ابنُ عمرَ أدْنى ما يَقصُرُ إليه الصلاةَ مالٌ له يُطالِعُهُ بخيبرَ»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٤٣٠٢) (٢/٥٢٥).]]، وهي نحوٌ مِن مِئَةٍ وثمانينَ كيلًا، وصحَّ عنه ما يُخالفُه، فقد قصَرَ في أقلَّ مِن ثلثِ مسيرِه هذا إلى خيبرَ، كما رواهُ عنه سالِمٌ، قال: «سافَرَ إلى رِيمٍ فقَصَرَ الصلاةَ، وهي مسيرةُ ثلاثينَ ميلًا»، رواهُ مالكٌ[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (١١) (١/١٤٧).]]. وصحَّ عنه القصرُ بما هو أقصرُ مِن ذلك فيما رواهُ سالمٌ أيضًا: أنّه قصَرَ بذاتِ النُّصُبِ، وهي سِتَّةَ عشَرَ فرسخًا، أخرَجَه مالكٌ[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (١٢) (١/١٤٧).]]، وهي نحوٌ مِن ثمانيةٍ وعِشرينَ كِيلًا، وصحَّ عنه القصرُ فيما هو أقصَرُ مِن ذلك، كما رواهُ محمدُ بنُ زيدِ بنِ خُلَيْدةَ: أنّ ابنَ عمرَ قال: «تُقصَرُ الصلاةُ في مسيرةِ ثلاثةِ أميالٍ»، رواهُ ابنُ أبي شَيْبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨١٢٠) (٢/٢٠٠).]]، وصحَّ عنه مِن حديثِ جَبَلةَ بنِ سُحَيْمٍ: أنّه قال: «لو خرَجْتُ مِيلًا، قصَرْتُ الصلاةَ»[[«فتح الباري» (٢/٥٦٧).]]، وصحَّ عنه مِن حديثِ مُحارِبِ بنِ دِثارٍ: أنّه قال: «إنِّي لَأُسافِرُ السّاعَةَ مِنَ النَّهارِ فَأَقْصُرُ»، رواهُ ابنُ أبي شيبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨١٣٩) (٢/٢٠١).]]، وصحَّ عنه مِن حديثِ نافعٍ: أنّه كان يُقِيمُ بمكَّةَ، فَإذا خَرَجَ إلى مِنًى قَصَرَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨١٨٤) (٢/٢٠٦).]]. وصحَّ عن أنَسٍ: «أنّه قصَرَ الصلاةَ وجمَعَ إلى أرضٍ له مسافةَ خمسةِ فراسِخَ»، رواهُ عنه حمادُ بنُ زيدٍ، عن أنسِ بنِ سيرينَ، عنه[[أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (٤/٤٠٧).]]، وهي على نحوِ خمسةٍ وعشرينَ كيلًا، وقد حُكِيَ ذلك عن أنسٍ، مع أنّ أنسًا يَرى القَصْرَ فيما هو دونَ ذلك، كما في «صحيحِ مسلمٍ»، مِن حديثِ يَحيى الهُنائِيِّ، أنّه سأَلَ أنسَ بنَ مالكٍ عنِ القَصرِ، فقال: «كان النبيُّ ﷺ إذا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أمْيالٍ، أوْ ثَلاثَةِ فَراسِخَ، صَلّى رَكْعَتَيْنِ»، والشكُّ فيه مِن شُعْبةَ[[أخرجه مسلم (٦٩١) (١/٤٨١).]]. اختلافُ أقوالِ النبي ﷺ وأصحابِهِ في مسافة القصرِ: ومُجرَّدُ فعلِ النبيِّ ﷺ، وكذا الصحابيُّ، للقصرِ: ليس مقيِّدًا لأَدْنى مسافةِ القصرِ، وإنّما مجوِّزٌ لها، ولِما هو أبْعَدُ مِنها مِن بابِ أوْلى، ولا ينفي ما دُونَها، وإنّما يُرجَعُ فيه إلى ضابطِهِ مِن عُرْفِ الناسِ، فقد يقصُرُ الصحابيُّ في موضعٍ، ولا يقصُرُ فيما هو أبعَدُ منه، وذلك لِعِلَّةٍ خارجةٍ عن مسافةِ القصرِ، كعِلَّةِ الذَّهابِ والرجوعِ مِن يومِه، أو قصدِ الإقامةِ في بلدٍ أتَمَّ بها، وربَّما قصَرَ في موضعٍ، لأنّه يُريدُ السيرَ أبعَدَ منه، فلا يُؤخَذُ القصرُ فيه حدًّا لأدنى مسافةٍ للقصرِ. وما جاء مِن أقوالٍ وأفعالٍ متبايِنةٍ عنِ الصحابةِ، لا يصحُّ أن يُعارَضَ القولُ بالآخَرِ، ولا يَنسَخَ قولٌ قولًا، لأنّهم أبصَرُ الناسِ وأفقهُهم بلُغَةِ الشَّرْعِ ومُرادِه، وهم أهلُ لسانٍ يَفهَمونَ عُرْفَ الشارعِ وعُرْفَ الناسِ، ولا بدَّ مِن حملِ اختلافِ أقوالِهم المتباينةِ على تنوُّعِ الحالِ، لا التضادِّ والتعارُضِ، ومَن تأمَّلَ هذا التنوُّعَ وتبايُنَهُ، وجَدَ أنّ أرجَحَ المَحامِلِ أن يُحمَلَ اختلافُهم على ما يحتفُّ بالسَّفَرِ، لا على مَسِيرةِ السفرِ وحدَها. حدُّ مسافةِ السَّفَرِ: وقد اختلَفَ الفقهاءُ مِن بعدِهم ـ مِنَ التّابعينَ وأَتْباعِهم والأئمَّةِ الأربعةِ ـ في حدِّ السفرِ الذي يصحُّ معه القصرُ والفِطْرُ، على أقوالٍ كثيرةٍ، وبعضُها قد يُلحَقُ ببعضٍ، وذلك تَبَعًا لاختلافِ الصحابةِ وتنوُّعِ أقوالِهم، ومِن هذه الأقوالِ: الـقـولُ ا&#١٣٣،لأولُ: قولُ أبي حنيفةَ وأصحابِه، أنّ السفرَ المُبِيحَ للقَصْرِ هو مسافةُ ثلاثةِ أيّامٍ. القولُ الثَّـاني: قولُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، أنّ حدَّ السفرِ المبيحِ للقصرِ أربعةُ بُرُدٍ، وهو مسيرةُ يومَيْنِ. القولُ الثالثُ: قولٌ لمالكٍ والشافعيِّ، وروايةٌ عن أحمدَ، أنّ حدَّ السفرِ المبيحِ للقَصْرِ هو مسيرةُ يومٍ تامٍّ. ولمالكٍ خمسُ رواياتٍ في حدِّ مسافةِ القصرِ. اشتراطُ الخروجِ من البلدِ للترخُّصِ بالسفر: وفي قولِه: ﴿وإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ﴾ إشارةٌ إلى أنّه لا يقصُرُ حتّى يَشرَعَ في السفَرِ، وهو الضَّرْبُ، ومَن نَوى السفَرَ وعزَمَ عليه أنّه لا يقصُرُ ولا يُفطِرُ ما دامَ لم يشرَعْ في السَّفَرِ، ومَن شرَعَ في السَّفرِ الصحيحِ، وسارَ بمَرْكَبتِه، جاز له القصرُ إنْ كان في بلدٍ كبيرٍ كثيرِ العُمْرانِ، فلا يجبُ عليه أن يَسْفِرَ مِنَ البيوتِ ويَبرُزَ عنها، ولو سُمِّيَ المسافِرُ مُسافِرًا، لإسفارِهِ وبروزِه مِن بلدِه، فأصلُ التسميةِ لا يتعلَّقُ به حُكْمٌ لازمٌ لا يُخرَجُ عنه، فإنّ الأسماءَ والمصطلَحاتِ في الشريعةِ لا يُناطُ بها حُكْمُ الشرعِ مِن كلِّ وجهٍ، وإنّما هي تدلُّ على حُكْمِ الشرعِ مِن بعضِ الوجوهِ أو أكثَرِها، فقد يَسْفِرُ الرجلُ مِن بلَدِهِ، ولا يُعَدُّ مُسافِرًا مع بُروزِه عنها، وإنّما ذكَرَ عامَّةُ الفقهاءِ قيدَ بُروزِ المسافرِ لتَرخُّصِهِ بالقَصْرِ والفِطْرِ، وذلك في البُلْدانِ الصغيرةِ، فهو أمرٌ يَنضبِطُ في زَمانِهم، لأنّ عمومَ البُلْدانِ على هذا. وقد يوجدُ اليومَ مِنَ البُلْدانِ التي لا يَنفكُّ البناءُ فيها عن المسافرِ ولو سار مَسيرةَ يومَيْنِ أو ثلاثةِ أيامٍ ماشيًا، كما في بعضِ بلادِ الهندِ والصِّينِ والقاهرةِ اليومَ، ولأنّ الحُكْمَ في القصرِ تعلَّقَ برفعِ الحرَجِ، فلا يتعلَّقُ الحُكْمُ بغيرِه ما وُجِدَ اسمُ السَّفَرِ وتحقَّقَ القصدُ له، ولذا كان بعضُ السلفِ مِن الصحابةِ والتابعينَ يقصُرُ بعد خروجِهِ مِن بيتِهِ وأهلِه، كما صحَّ عن ابنِ عُمَرَ، رواهُ عبدُ الرزّاقِ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٤٣٣١) (٢/٥٣٢).]]، وصحَّ عن طاوسٍ عندَ ابنِ أبي شَيبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨١٧٢) (٢/٢٠٥).]]، وكان عطاءٌ يوسِّعُ في هذا، ولا يُشَدِّدُ فيه، كما رواهُ عنه ابنُ جُرَيْجٍ، قال عطاءٌ: «إذا خَرَجَ الرَّجُلُ حاجًّا، فَلَمْ يَخْرُجْ مِن بُيُوتِ القَرْيَةِ حَتّى حَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَإنْ شاءَ قَصَرَ، وإنْ شاءَ أوْفى، وما سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٤٣٢٩) (٢/٥٣١).]]. وإنّما كان أكثرُ السلَفِ يُعلِّقونَ الأمورَ بالخروجِ مِنَ البلدِ، حياطةً للدِّينِ، ودفعًا لِما يَعرِضُ للإنسانِ مِن موانعِ السَّفَرِ، التي ربَّما تَعْرِضُ له قبلَ خروجِهِ مِنَ البلدِ، ويكونُ قد أفطَرَ وهو صائمٌ، وقد قصَرَ صلاتَه، فرجَعَ قبلَ بروزِه، ولذا فالقولُ بجوازِ قصرِ الصلاةِ لِمَن خرَجَ مِن دارِهِ وأهلِه، وسارَ في البُلْدانِ الكبيرةِ ـ يجري على مقاصدِ الشريعةِ أكثَرَ مِن تقييدِ ذلك بخروجِه من بلدٍ لا يخرُجُ مِنه إلاَّ بمسيرةِ اليومِ واليومَيْنِ. الخوفُ في السفرِ: وقولُ اللَّهِ تعالى: ﴿إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، رُوِيَ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ وأبي أيُّوبَ: أنّ قولَه: ﴿إنْ خِفْتُمْ﴾ نزَل بعدَ قولِه: ﴿أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ بعامٍ[[«تفسير الطبري» (٧/٤٠٦).]]، ولا يَصِحُّ. ومـنـهـم: مَن جعَلَ قولَه: ﴿إنْ خِفْتُمْ﴾ إلحاقَ شرطٍ بحُكْمٍ سابقٍ. ومنهم: مَن جعَلَهُ متعلِّقًا بما بعدَه، وهو صلاةُ الخوفِ، لتأخُّرِ النُّزولِ عن أوَّلِ الآيةِ، والصحيحُ: أنّها آيةٌ واحدةٌ. وذكَرَ الخوفَ تغليبًا للحالِ، لا تعليقًا للحُكْمِ به، فقد يخافُ المُقِيمُ ولا يقصُرُ، ويأمنُ المسافِرُ ولا يُتِمُّ، لأنّ اللهَ جعَلَ القصرَ للسفرِ كما في قولِه في أوَّلِها: ﴿وإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ﴾، يَعني: السَّفَرَ، وأمّا تقييدُهُ بالخوفِ في قولِه: ﴿إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، فقد كان لبيانِ الحرَجِ عندَ النزولِ ليُرفَعَ به هو وغيرُه، كما جاء في «الصحيحِ»، أنّ عُمَرَ سألَ النبيَّ ﷺ عن قيدِ الخوفِ في الآيةِ، فقال له: (صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِها عَلَيْكُمْ، فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ) [[سبق تخريجه.]]، ولم يُقيِّدْ أحدٌ مِن الصحابةِ قصرَ الصلاةِ في السفرِ بالخوفِ، وما جاء عند الطبريِّ عن عائشةَ[[«تفسير الطبري» (٧/٤٠٩).]]، فمُنكَرٌ جدًّا، وسندُهُ مجهولٌ، وثبَتَ عنها من وجوهٍ ما يُخالفُهُ. وقد جمَعَ النبيُّ ﷺ في مكَّةَ وهو آمِنٌ في حَجِّه ومعه عامَّةُ أصحابِهِ وخلفاؤُهُ مِن بعدِهِ في أمْنِهم، وقد صحَّ عنِ ابنِ عبّاسٍ، أنّه قال: «كُنّا نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بَيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ لا نَخافُ إلاَّ اللهَ عزّ وجل نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ»، رواهُ الترمذيُّ والنَّسائيُّ[[أخرجه الترمذي (٥٤٧) (٢/٤٣١)، والنسائي (١٤٣٦) (٣/١١٧).]]. والقولُ بخلافِ ذلك مخالَفةٌ صريحةٌ للسُّنَّةِ والأثَرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب