الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ياأَيُّها النَّبِيُّ قُلْ لأَزْواجِكَ وبَناتِكَ ونِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أدْنى أنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ۝﴾ [الأحزاب: ٥٩]. لمّا جاء الخِطابُ السابقُ خاصًّا بأُمَّهاتِ المؤمنينَ، ويَشترِكُ في أصلِ الحُكْمِ عامَّةُ المؤمناتِ، جاء اللهُ بخِطابٍ للنبيِّ ﷺ يبيِّنُ حاجةَ جميعِ نساءِ المؤمنينَ إلى ذلك، حتى لا تُظَنَّ خَصُوصيَّةُ نساءِ النبيِّ ﷺ باللِّباسِ. قال تعالى: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ﴾: أمَر اللهُ بإدناءِ الجِلْبابِ، والجِلْبابُ هو ما يكونُ مِن لِباسٍ فَضْفاضٍ فوقَ الخِمارِ يَستوعبُ أعلى البَدَنِ ووسطَه، ويُسدَلُ فيُغطّى به الوجهُ والصدرُ، ففي «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ عائشةَ رضي الله عنها، قالتْ: «فَخَمَّرْتُ وجْهِي بِجِلْبابِي»[[أخرجه البخاري (٤١٤١)، ومسلم (٢٧٧٠).]]. والجِلْبابُ قريبٌ مِن العباءةِ اليومَ لكنَّه غيرُ مفصَّلٍ، ويُسمّى: القِناعَ أو المُلاءةَ. والجِلْبابُ ليس غِطاءً خاصًّا بالوجهِ وحدَه، ولكنَّه للوجهِ وغيرِه، ولذا قال: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ﴾، يعني: تأخُذُ شيئًا مِن جِلْبابِها وتُنزِلُه على وجهِها، كما يأتي بيانُه. والفرقُ بينَ الخِمارِ والجِلْبابِ: أنّ الخِمارَ يكونُ تحتَ الجِلْبابِ، والخِمارُ تَلبَسُهُ المرأةُ وتشُدُّهُ على رأسِها وما دُونَه، ويكونُ ملاصِقًا للجسمِ مشدودًا، بخلافِ الجلبابِ، فهو غطاءٌ زائدٌ فوقَهُ فَضْفاضٌ يُرخى غالبًا ولا يُشَدُّ لا على الوجهِ ولا على الصدرِ بحيثُ يُبرِزُ حجمَ العضوِ، ولذا جاء في «صحيحِ مسلمٍ»، عن أمِّ سُلَيْمٍ: «أنّها خَرَجَتْ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمارَها»[[أخرجه مسلم (٢٦٠٣).]]، يعني: تُدِيرُهُ على رأسِها وتشُدُّه، والخِمارُ هو الذي تَصُرُّ بطرَفِه بعضُ النِّساءِ الأوائلِ دنانيرَها، لتَماسُكِهِ وثباتِهِ عليها. قال أبو نُعَيْمٍ الأصبهانيُّ: «الجلبابُ فوقَ الخِمارِ ودونَ الرِّداءِ تَستوثِقُ المرأةُ صدرَها ورأسَها»[[«المسند المستخرج على صحيح مسلم» (٢ /٤٧٤).]]. وقولُه تعالى: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ﴾: الإدناءُ مِن الدنوِّ، وهو القُرْبُ، ويكونُ مِن مكانٍ عالٍ أو مُوازٍ، والدنوُّ نزولٌ، فيسمّى أسفلُ الشيءِ وأقرَبُه: أدناهُ، ويسمّى النازلُ الهابطُ بالنسبةِ للعالي: أدْنى ودانيًا، كما في قولِه: ﴿فِي أدْنى الأَرْضِ وهُمْ مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ۝﴾ [الروم: ٣]. والأمرُ في الآيةِ هو لتغطيةِ المرأةِ وجْهَها، فالجِلْبابُ في الأَعلى، فأُمِرَتْ أن تُنزِلَهُ على وجهِها وتُرْخِيَهُ عليه، قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «يُقالُ إذا زَلَّ الثوبُ عن وجهِ المرأةِ: أدْنِي ثَوْبَكِ على وجهِكِ»[[«تفسير الزمخشري» (٣ /٥٦٩).]]. ويدُلُّ على أنّ الإدناءَ في الآيةِ يتضمَّنُ القُرْبَ مِن علوٍّ: قولُ ابنِ عبّاسٍ: تُدْلِي عَلَيْها مِن جَلابِيبِها، كما عندَ الشافعيِّ والبيهقيِّ[[«مسند الشافعي» (ص١١٨)، و«معرفة السنن والآثار» للبيهقي (٤ /٩).]]، ففسَّر (الإدْناءَ) بـ(الإدْلاءِ)، والإدْلاءُ يكونُ مِن الشيءِ العالي، ومنه قولُه: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوى ۝ذُو مِرَّةٍ فاسْتَوى ۝وهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلى ۝ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى ۝فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنى ۝﴾ [النجم: ٥ ـ ٩]، وهو قُرْبُ جبريلَ مِن النبيِّ ﷺ، فكان عاليًا ثمَّ دنا فتَدَلّى إليه، ومنه سُمِّيَ الدَّلْوُ دَلْوًا، لأنّه يُدْلى به مِن عُلْوٍ إلى أسفلِ البئرِ. وقد فسَّرَ إدناءَ الجلابيبِ بتغطيةِ الوجهِ في هذه الآيةِ وغيرِها جماعةٌ مِن الصحابةِ، صحَّ عن ابنِ عبّاسٍ وعائشةَ، ومِن التابعينَ: عَبِيدةُ السَّلْمانيُّ، ومحمدُ بنُ سِيرِينَ، وابنُ عَوْنٍ، ولا أعلَمُ أحدًا مِن الصحابةِ أو التابعينَ خالَفَ هذا المعنى: أمّا ما جاء عن ابنِ عبّاسٍ، فقولُه: «أمَرَ اللهُ نساءَ المؤمِنِينَ إذا خَرَجْنَ مِن بُيُوتِهنَّ في حاجةٍ أنْ يُغَطِّينَ وُجوهَهُنَّ مِن فَوْقِ رؤوسِهِنَّ بالجلابيبِ، ويُبدِينَ عَيْنًا واحدةً»، أخرَجَهُ ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ، عن عليٍّ، عن ابنِ عبّاسٍ[[«تفسير الطبري» (١٩ /١٨١)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١٠ /٣١٥٤).]]، وهي صحيفةٌ قوّاها أحمدُ، واحتَجَّ بها البخاريُّ[[ينظر: «فتح الباري» لابن حجر (٨ /٤٣٨ ـ ٤٣٩).]]. وأمّا ما جاء عن عائشةَ، فقولُها: «تُسدِلُ المرأةُ جِلْبابَها مِن فوقِ رأسِها على وجْهِها»، أخرَجَهُ سعيدُ بنُ منصورٍ في «سُنَنِه» بسندٍ صحيحٍ[[كما في «فتح الباري» لابن حجر (٣ /٤٠٦).]]. وأمّا ما جاء عن عَبِيدةَ السَّلْمانيِّ، فما رواهُ ابنُ عونٍ، عن محمدِ بنِ سيرينَ، قال: «سألتُ عَبِيدةَ السَّلْمانيَّ عن قولِ اللَّهِ تعالى: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ﴾، فغطّى وجْهَهُ ورأسَهُ، وأبرَزَ عينَهُ اليُسْرى»، وبهذا فسَّره ابنُ سِيرِينَ وابنُ عونٍ، رواهُ ابنُ جريرٍ وغيره[[«تفسير الطبري» (١٩ /١٨١)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١٠ /٣١٥٥)، و«تفسير ابن كثير» (٦ /٤٨٢).]]. وعلى هذا كان عملُ نساءِ الصحابةِ جميعًا في الصَّدْرِ الأولِ، كما في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ حفصةَ بنتِ سِيرينَ، عن أُمِّ عطيَّةَ وغيرِها، أنّ النبيَّ ﷺ لمّا أمَر بحضورِ النساءِ للعِيدَيْنِ، سُئِلَ: أعَلى إحْدانا بَأْسٌ إذا لَمْ يَكُنْ لَها جِلْبابٌ ألاَّ تَخْرُجَ؟ قالَ: (لِتُلْبِسْها صاحِبَتُها مِن جِلْبابِها، ولْتَشْهَدِ الخَيْرَ ودَعْوَةَ المُسْلِمِينَ) [[أخرجه البخاري (٣٢٤)، ومسلم (٨٩٠/١٢).]]. وقولُه تعالى: ﴿ذَلِكَ أدْنى أنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ۝﴾ تمييزٌ بينَ حِجابِ الحرائرِ والإماءِ، وذلك أنّ فُسّاقًا في المدينةِ كانوا يُؤذُونَ الحرائرَ يظُنُّونَهُنَّ إماءً، فأمَرَهُنَّ اللهُ بالحِجابِ، حتى يُعْرَفْنَ ويَتَمَيَّزْنَ بلِباسِهِنَّ عن غيرِهِنَّ، دفعًا للفتنةِ، ودفعًا للتعدِّي عليهِنَّ ممَّن في قَلْبِهِ مرضٌ. وعَدَّ جماعةٌ مِن الأئمَّةِ: أنّ آيةَ الأحزابِ نزَلتْ بعدَ آيةِ الزِّينةِ في النُّورِ في قولِه: ﴿ولا يُبْدِينَ زَينَتَهُنَّ إلاَّ ما ظَهَرَ مِنها﴾ [النور: ٣١]، كابنِ جريرٍ وغيرِه، ويُفسِّرونَ آيةَ النورِ على إبداءِ الزينةِ الظاهرةِ، ويُفسِّرونَ آيةَ الأحزابِ على الحِجابِ التامِّ وتغطيةِ المرأةِ وجْهَها، فيجدُ مَن ينظُرُ في كثيرٍ مِن كتُبِ التفسيرِ أنّ كلامَ المفسِّرِ الواحدِ في آيةِ النورِ يَخْتلِفُ عن كلامِه في تفسيرِ آيةِ الأحزابِ، فيُقرِّرُ هناك ما لا يُقرِّرُه هنا، كابنِ جريرٍ: في النورِ يقولُ كلامًا في إبداءِ الزينةِ وظهورِ الوجهِ[[«تفسير الطبري» (١٧ /٢٦١ ـ ٢٦٢).]]، وهنا في الأحزابِ يأمُرُ بتغطيتِه[[«تفسير الطبري» (١٩ /١٨١).]]، لأنّه يرى آيةَ النورِ قبلَ آيةِ الأحزابِ، فيُفسِّرُها على ما أُنزِلَتْ عليه، لا على ما استقَرَّ عليه الحُكْمُ، ومَن لا يفهمُ هذا، التَبَسَ عليه كلامُ الأئمَّةِ، حتى أصبَحَ كلامُ كثيرٍ مِن الأئمَّةِ عندَ تفسيرِ آيةِ النورِ محلًّا للتتبُّعِ والأخذِ بالمُشتبِهِ عندَ مَن يَجْهَلُ ذلك، وقَدْ بَسَطْنا الكلامَ على مسألةِ لباسِ المرأةِ وسترِها في كتابِ «الحِجاب في الشَّرع والفِطْرَة»، وفي آيَةِ الزِّينَةِ مِن سُورةِ النُّورِ مَزِيدُ كلامٍ في هذا الكتابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب