الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿يانِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِلِيَّةِ الأُولى وأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكاةَ وأَطِعْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ إنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: ٣٢ ـ ٣٣].
خَصَّ اللهُ نساءَ النبيِّ ﷺ بالخِطابِ، وقال: ﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ﴾، وذلك لمَقامِ النبوَّةِ، فهنَّ قدوةٌ لنساءِ العالَمِينَ جميعًا، بخلافِ غيرِهِنَّ، ولأنّ أثرَ خَطَئِهِنَّ يتعدّى إلى الزوجِ، وهو رسولُ اللهِ ﷺ، فإنّ تُهَمَةَ المرأةِ في عِرْضِها تتعدّى إلى زوجِها في إقرارِه لها على ذلك، والأمرُ يتَّصلُ بعِرْضِه ونَسَبِه، بخلافِ الكفرِ، لهذا قدَّر اللهُ في نساءِ بعضِ الأنبياءِ الكفرَ كنُوحٍ ولُوطٍ، ولكنَّه سبحانَهُ لم يقدِّرِ العَهْرَ على امرأةِ نبيٍّ، لأنّ الشرفَ والعَهْرَ يتعدّى إلى النَّسَبِ.
وفي هذا: عِظَمُ منزلةِ القدوةِ على غيرِهِ في وجوبِ احتياطِهِ واحتياطِ أهلِ بيتِه، وذلك كلَّما كان قدوةً في قومِهِ وبلدِه، كان أولى بالاحتياطِ مِن غيرِه.
وقولُه تعالى: ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ﴾، يعني: لا تُرَقِّقْنَهُ ولو كان ذلك عن حُسْنِ قصدٍ، فإنّ النهيَ ليس لأَجْلِهِنَّ فقطْ، بل لأجلِ السامعينَ، فيَمِيلُ مَن في قلبِهِ طمعٌ ومرضٌ إلَيْهِنَّ، فيَتَسَبَّبْنَ في إهلاكِه.
وقولُه: ﴿وقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾، يعني: مِن الخيرِ الذي لو سَمِعَهُ الناسُ، ما استنكَرُوهُ، فيكونُ كلامُهُنَّ مع الواحدِ ككلامِهِنَّ مع الجماعةِ في خيرِهِ وعفافِه.
ومِن علامةِ الكلامِ المباحِ الذي يجوزُ للمرأةِ أنْ تتكلَّمَهُ مع الرجلِ الأجنبيِّ: أن تتكلَّمَ بكلامٍ لو سَمِعَهُ الناسُ منها معه، ما استنكَرُوهُ ولم تَسْتَحْيِ هي منه، فيَعرِفُهُ الناسُ ولا يستنكرونَه، وهكذا ينبغي أن تكونَ العفيفةُ في خِطابِها إنِ احتاجتْ إلى رجلٍ لا يسمعُها أحدٌ: أن تُخاطِبَهُ بحديثٍ لو سَمِعَهُ زوجُها وولدُها والناسُ، لم يستنكِروه، ولَعَدُّوهُ معروفًا.
وفي قولِ اللَّهِ: ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ جعَلَ الطمعَ في الرجلِ، مع احتمالِ ورودِهِ مِن جنسِ المرأةِ عامَّةً، وذلك تعظيمًا للنبيِّ ﷺ وتطهيرًا لنسائِه مِن أنْ يُظَنَّ بهنَّ ظَنُّ السَّوْءِ، ولبيانِ خَصوصيَّةِ الرجالِ بالجَسارةِ والميلِ أكثَرَ مِن النساءِ.
وقولُه تعالى: ﴿وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِلِيَّةِ الأُولى﴾، أمَرَهنَّ بالقَرارِ في البيوتِ وعدمِ الخروجِ إلاَّ لحاجةٍ، ونَهاهُنَّ عن تبرُّجِ الجاهليَّةِ مِن الاختلاطِ بالرجالِ، وإظهارِ المَفاتِنِ بالسُّفُورِ، ووصَفَ ذلك بأنّه جاهليَّةٌ لا عن عِلْمٍ وصلاحٍ.
وقد ذكَرَ بعضُ المفسِّرينَ كمُقاتلِ بنِ حَيّانَ[[«تفسير ابن كثير» (٦ /٤١٠).]]: أنّ تبرُّجَ الجاهليَّةِ الأُولى ـ قَبلَ وجودِ العربِ ـ الذي نَهى اللهُ عنه في قولِه: ﴿ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِلِيَّةِ الأُولى﴾: أنّهنَّ كُنَّ يُلقِينَ الخِمارَ على رُؤُوسِهنَّ ولا يَشْدُدْنَهُ، ومع ذلك نَهى اللهُ عنه، وشَدَّدَ عليه، وذكَرَهُ مثالًا لفعلٍ سَوْءٍ، وقد جاء عن بعضِ السلفِ كابنِ عبّاسٍ[[«تفسير الطبري» (١٩ /٩٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٩ /٣١٣٠).]] وغيرِه: أنّ تبرُّجَ الجاهليَّةِ الأُولى كان بينَ نوحٍ وإدريسَ، ولو كان هناك تبرُّجٌ عامٌّ في التاريخِ بعدَهُ أسوأُ منه، لذكَرَه اللهُ مثالًا.
قال تعالى: ﴿ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِلِيَّةِ الأُولى وأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكاةَ وأَطِعْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾: أمَرَ اللهُ أمَّهاتِ المؤمنينَ بإقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ، وطاعةِ اللهِ ورسولهِ، لبيانِ أنّ العفافَ لا يكمُلُ إلاَّ بعبادةٍ وطاعةٍ للهِ ورسولِه.
وفي هذه الآيةِ: إشارةٌ إلى أنّ الحِجابَ والعفافَ فِطْرةٌ، وما لم يُقرَنْ بعبادةٍ مِن صلاةٍ وزكاةٍ وغيرِ ذلك، فإنّه يكونُ عادةً يسهُلُ تحوُّلُها، ولهذا أمَرَ اللهُ أمَّهاتِ المؤمنينَ ونساءَهم بالعبادةِ مع العفافِ، وكثيرٌ مِن البُلْدانِ التي طرَأَتْ عليها عاداتٌ فاسدةٌ مِن تبرُّجٍ وسفورٍ تَرى أنّه ينسلِخُ مِن الحِجابِ فيها نِساءُ العاداتِ، ويثبُتُ نِساءُ العبادات، وهذا نظيرُ إعفاءِ اللِّحى، فقَد كانَتِ الرِّجالُ تَراهُ فِطرَةً، وجاءَ الإسلامُ العَرَبَ وهو يُعْفُونَ لِحاهُم عادةً لا عبادةً، ولم تَكُنِ اللِّحى علامَةً على دِيانَةٍ، لأنّها أصلٌ للمؤمِنِ والكافِرِ والصالِحِ والفاسِقِ، حتى اختَلَطَ العَرَبُ بالعَجَمِ، فتأَثَّرُوا بِهِم، فزالَتْ لِحى العُرُوبَةِ، لأنّها (عادةٌ)، وبَقِيَتْ لِحى الإسلامِ لأنّها (عِبادةٌ)، فأصبَحَتْ عندَ المتأَخِّرِينَ علامَةً على الدِّيانةِ، بخلافِ السابِقِينَ، فإنّمـا هـي شُعبةٌ مِن شُعَبِ الإيمـانِ ليسَتْ وحدَهـا علامَةً على شـيءٍ.
عمومُ أصلِ الخِطابِ بالحِجابِ وخَصُوصيَّةُ نساءِ النبيِّ ﷺ:
والخِطابُ في هذه الآيةِ وما قبلَها وما بعدَها وإنْ كان موجَّهًا لأمَّهاتِ المؤمنينَ، إلاَّ أنّه عامٌّ يشترِكُ معَهُنَّ فيه في عمومِ الحُكْمِ بقيَّةُ النِّساءِ، ولكنَّ نساءَ النبيِّ أشَدُّ وأعظَمُ تأكيدًا، ولهذا قال: ﴿مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَها العَذابُ ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب: ٣٠]، يعني: أنّ أصلَ العذابِ مشتَرَكٌ، ولكنَّ الفَرْقَ تضعيفُ الحُكْمِ وتشديدُه، ومِثلَ ذلك قالَهُ في الثوابِ: ﴿ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صالِحًا نُؤْتِها أجْرَها مَرَّتَيْنِ﴾ [الأحزاب: ٣١]، يعني: أنّ هناك ثوابًا مشتَرَكًا مع بقيةِ النِّساءِ، ولكنْ لَهُنَّ الثوابُ مضاعَفٌ.
وبيانُ عمومِ أصلِ الحُكْمِ في هذه الآياتِ، واشتراكِ عمومِ نساءِ المؤمنينَ به ـ مِن وُجُوهٍ:
أولًا: أنّ القرآنَ عامٌّ للناسِ بجميعِهِ، كما قال تعالى: ﴿وأُوحِيَ إلَيَّ هَذا القُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ ومَن بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩]، أي: مَن يَبْلُغُهُ ما فيه ممَّن يجيءُ بعدَكم، فهو حُجَّةٌ عليه، والعِبْرةُ بعمومِ حُكْمِه، وإنْ تمَّ تخصيصُ الخِطابِ لأَعلى البشرِ، وهم الأنبياءُ، فضلًا عن آحادِ الصحابةِ وأزواجِ الأنبياءِ، لقولِه ﷺ، كما في «صحيحِ مسلمٍ»: (إنَّ اللهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ، بِما أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ) [[أخرجه مسلم (١٠١٥)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، فإذا كان خِطابُ الأنبياءِ الواردُ في القرآنِ المخصوصونَ به عامًّا لأهلِ الإيمانِ، فكيف بخِطابٍ توجَّهَ لِمَن هو دونَهم؟! فإذا دخَلَ المؤمنونَ في خِطابِ الأنبياءِ، فدخولُ النِّساءِ في خِطابِ أمَّهاتِ المؤمنينَ أوْلى.
ثانيًا: أنّ تخصيصَ القرآنِ لأحدٍ بعينِهِ لمزيدِ اهتمامٍ فيه، وأنّه أولى بالاتِّباعِ مِن غيرِه، والخَصُوصِيَّةُ لا تثبُتُ إلاَّ بدليلٍ زائدٍ عن مجرَّدِ الخِطابِ، كما هي عادةُ القرآنِ في خصائصِ النبيِّ ﷺ، قال تعالى: ﴿خالِصَةً لَكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ [الأحزاب: ٥٠]، وقال تعالى: ﴿لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِن بَعْدُ﴾ [الأحزاب: ٥٢].
ثـالثًـا: أنّ آيةَ الحِجابِ جاء معها في الخِطابِ نفسِه أوامرُ أُخرى: ﴿واذْكُرْنَ﴾ ـ يعني: يا أزواجَ النبيِّ ـ ﴿ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آياتِ اللَّهِ والحِكْمَةِ﴾ [الأحزاب: ٣٤]، فالذِّكْرُ ليس خاصًّا بهنَّ، فلو قيل بالخَصُوصِيَّةِ، لم يُشرَعْ ذِكرُ ما يُتْلى في بيوتِهِنَّ مِن القرآنِ والسُّنةِ إلاَّ لأزواجِه! مع أنّ هذه الآيةَ أظهَرُ في الخَصُوصيَّةِ، حيثُ قال: ﴿ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آياتِ اللَّهِ والحِكْمَةِ﴾، وأمّا في آيةِ الحِجابِ الآتيةِ، فقال: ﴿مِن وراءِ حِجابٍ﴾ [الأحزاب: ٥٣]، فما قال: (حِجابِكُنَّ) كما هنا ﴿ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آياتِ اللَّهِ والحِكْمَةِ﴾، وهل يُفهَمُ مِن هذا التخصيصِ الزائدِ: ألاَّ يَدخُلَ فيه تلاوةُ الآياتِ والحِكْمةِ في بيوتِ غيرِكُنَّ، ولا تلاوةُ غيرِكنَّ في بيوتِهنَّ وبيوتِ غيرِهنَّ؟! وهذا لا يُقالُ به، ولا يَلتزِمُهُ مَن يقولُ بخَصُوصيَّةِ الحِجابِ، مع أنّه في نفسِ الآياتِ ونفسِ السِّياقِ.
رابـعًـا: ما أجمَعَ عليه العلماءُ: أنّ الأحكامَ تدورُ مع العللِ والمقاصدِ مِن التشريعِ، فاللهُ تعالى قال هنا: ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾، وقال في آيةِ الحجابِ مخاطِبًا الصحابةَ: ﴿ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٣]، والعلةُ موجودةٌ في عمومِ الجنسَيْنِ على اختلافِ مَراتبِهم، ثمَّ ما الشيءُ الذي يُريدُ اللهُ إبعادَهُ مِن قلوبِ الصحابةِ وأمَّهاتِ المؤمنينَ، ولا يُوجَدُ عندَ بقيَّةِ النساءِ وبقيةِ الرجالِ، إذا التقَوْا في المَجالسِ والبيوتِ والتعليمِ؟! وما الشيءُ الذي يَجِدُهُ الصحابةُ تُجاهَ أمَّهاتِهِمْ أمَّهاتِ المؤمنينَ ولا يجدونَهُ في بقيةِ النساءِ؟! فإذا كان الحجابُ أطهَرَ لقلوبِهم، فمَن بعدَهم أحوَجُ إلى هذه الطهارةِ.
خامسًا: أنّ اللهَ قال: ﴿أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ﴾، فجعَل طهارةَ قلوبِ الصحابةِ مَطْلَبًا بذاتِهِ، وهذا يحصُلُ في جميعِ النساءِ، بل هو في غيرِ أمَّهاتِ المؤمنينَ أكثَرُ، لأنّ نظرَ الصحابةِ لأمَّهاتِ المؤمنينَ نظرُ إجلالٍ وتعظيمٍ وتوقيرٍ.
سادسًا: أنّ قولَه تعالى: ﴿ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِلِيَّةِ الأُولى﴾ لا يُتصوَّرُ خَصُوصيَّةُ أمَّهاتِ المؤمِنِينَ به، فيُقالُ: إنّه يجوزُ لغيرِهِنَّ أنْ يتبرَّجْنَ تبرُّجَ الجاهليَّةِ الأُولى، وأمّا أمَّهاتُ المؤمنينَ، فيحرُمُ، والحقُّ أنه محرَّمٌ في حقِّ الجميع، ولكنَّ أمَّهاتِ المؤمنينَ أشَدُّ في التحريمِ.
سـابعًـا: أنّ الصحابيّاتِ اعتَدْنَ على تتبُّعِ أمَّهاتِ المؤمِنِينَ، فما فَعَلْنَهُ يَرَيْنَهُ تشريعًا لهنَّ مِن بابِ أولى، كما جاء في «الصحيحَيْن»، عن عمرَ، أنّ زوجتَهُ راجَعتْه، فقالتْ له محتجَّةً بأُمَّهاتِ المؤمنينَ: «ما تُنْكِرُ أنْ أُراجِعَكَ؟! فَواللهِ، إنَّ أزْواجَ النَّبِيِّ ﷺ لَيُراجِعْنَهُ، وتَهْجُرُهُ إحْداهُنَّ اليَوْمَ إلى اللَّيْلِ!»[[أخرجه البخاري (٢٤٦٨)، ومسلم (١٤٧٩).]].
ثـامنًـا: أنّ اللهَ يخصِّصُ في بعضِ السياقاتِ الأنبياءَ والصحابةَ تنبيهًا إلى دخولِ غيرِهم مِن بابِ أوْلى في الحُكْمِ، وهذا أسلوبٌ شرعيٌّ كثيرٌ في الأحكامِ، تنبيهًا إلى أنّه لمّا دخَلَ الأعظمُ والأجلُّ، فغيرُهُ أولى، لهذا قال ﷺ في بيانِ الحدودِ: (لَوْ أنَّ فاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَها) [[أخرجه البخاري (٣٤٧٥)، ومسلم (١٦٨٨)، من حديث عائشة رضي الله عنها.]]، وقال في تحريمِ الرِّبا: (أوَّلُ رِبًا أضَعُ رِبانا رِبا عَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ) [[أخرجه مسلم (١٢١٨)، من حديث جابر رضي الله عنه.]]، وقال في تحريمِ دماءِ الجاهليَّةِ: (إنَّ أوَّلَ دَمٍ أضَعُ مِن دِمائِنا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الحارِثِ) [[أخرجه مسلم (١٢١٨)، من حديث جابر رضي الله عنه.]]، وربيعةُ ابنُ عمِّ النبيِّ ﷺ.
تـاسعًـا: لو قُلْنا بالخَصُوصيَّةِ، فخَصُوصيَّةُ النبيِّ ﷺ مِن بابِ أولى في المواضعِ التي يَتوجَّهُ الخِطابُ إليه لمَزِيَّةٍ له ليستْ في أحدٍ مِن الأتباعِ، فالآياتُ التي يُخاطَبُ بها النبيُّ عامَّةٌ له ولغيرِه، مع كونِ الخِطابِ خاصًّا به ليس بمشتَرَكٍ بالمقابَلَةِ مع المؤمنينَ، كما هنا: ﴿أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٣].
فلا يُقالُ بأنّ دخولَ البيوتِ بلا استئذانٍ جائزٌ، لخَصُوصيَّةِ النصِّ بالنبيِّ ﷺ هنا: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلاَّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ [الأحزاب: ٥٣]، ولكنَّ المقصودَ مزيدُ تشديدٍ في بيتِه كما أنّ التشديدَ زائدٌ في نسائِه.
ومِثْلُ ذلك السَّراحُ والطلاقُ والمُتْعةُ، فخطابُ النبيِّ به لا يجعلُهُ خاصًّا له ولأزواجِه: ﴿ياأَيُّها النَّبِيُّ قُلْ لأَزْواجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: ٢٨].
وهل مَن تُرِيدُ اللهَ ورسولَهُ مِن النساءِ لا تدخُلُ في استحقاقِ الأجرِ العظيمِ، كما جاء في سياقِ نفسِ آياتِ الحِجابِ الموجَّهةِ لأمَّهاتِ المؤمنينَ: ﴿وإنْ كُنْتُنَّ﴾ ـ أي: يا نساءَ النبيِّ ـ ﴿تُرِدْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنكُنَّ أجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: ٢٩] ؟!
عاشرًا: دفَعَ فَهْمَ الخَصُوصيَّةِ في آياتِ الحجابِ غيرُ واحدٍ مِن مفسِّري السلفِ، كما رواهُ عبدُ الرزاقِ في «تفسيرِه»، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ، قال: «لمّا ذكَرَ اللهُ أزواجَ النبيِّ ﷺ، دخَلَ نساءُ المسلِماتِ عليهنَّ، فقُلْنَ: ذُكِرْتُنَّ ولم نُذكَرْ، ولو كان فينا خيرٌ، ذُكِرْنا، فأنزَلَ اللهُ: ﴿إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ والمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ [الأحزاب: ٣٥]»[[«تفسير القرآن» لعبد الرزاق (٢ /١١٦).]].
حاديَ عشَرَ: أنّ المفسِّرينَ يُطبِقونَ على هذا الأمرِ على اختلافِ مَشاربِهم ومَذاهبِهم، قال الجَصّاصُ: «وهذا الحُكْمُ وإنْ نزَلَ خاصًّا في النبيِّ ﷺ وأزواجِه، فالمعنى عامٌّ فيه وفي غيرِه»[[«أحكام القرآن» للجصاص (٥ /٢٤٢).]].
وقال القُرْطُبيُّ: «في هذه الآيةِ: دليلٌ على أنّ اللهَ تعالى أذِنَ في مَسْأَلَتِهِنَّ مِن وراءِ حجابٍ في حاجةٍ تَعرِضُ، أو مسألةٍ يُستفتَيْنَ فيها، ويدخُلُ في ذلك جميعُ النساءِ بالمعنى»[[«تفسير القرطبي» (١٧ /٢٠٨).]].
وعلى هذا نَصَّ ابنُ جريرٍ[[«تفسير الطبري» (١٩ /١٦٦).]]، وابنُ كثيرٍ[[«تفسير ابن كثير» (٦ /٤٠٨).]]، وأئمَّةُ التفسيرِ.
ثانيَ عشَرَ: سببُ تخصيصِ أزواجِ النبيِّ ﷺ لمزيدِ تشديدٍ عَلَيْهِنَّ، لأنّ أمرَهُنَّ يَمَسُّ النبيَّ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ فمعلومٌ أنّ حِفظَ العِرْضِ يُقدَّمُ في بعضِ الأحوالِ على حِفْظِ الدِّينِ كَوْنًا وقَدَرًا، اهتمامًا به، فقد تكونُ زوجةُ نبيٍّ مِن أنبياءِ اللهِ كافرةً كامرأةِ لُوطٍ وامرأةِ نُوحٍ، لكنْ لا يُمكِنُ أن تقَعَ في الزِّنى، واللهُ يَعْصِمُهُنَّ مِن ذلك، لأنّ الزِّنى أذِيَّتُهُ متعدِّيةٌ للزَّوْجِ وعِرْضِه، فمَن يَبقى مع زانيةٍ وهو عالِمٌ: دَيُّوثٌ في الشرعِ، بخلافِ مَن يَبقى مع كافرةٍ، لهذا أجاز اللهُ زواجَ اليهوديَّةِ والنصرانيَّةِ بقولِه: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ [المائدة: ٥]، وكَرِهَ نكاحَ الزانيةِ ولو مُسْلِمةً: ﴿والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاَّ زانٍ أوْ مُشْرِكٌ﴾ [النور: ٣]، وقال: ﴿الخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾ [النور: ٢٦]، وأُمَّهاتُ المؤمنينَ قدوةٌ، والتشديدُ عليهنَّ أوْلى: ﴿يانِساءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَها العَذابُ ضِعْفَيْنِ وكانَ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ [الأحزاب: ٣٠]، مع أنّ تحريمَ الفاحشةِ على جميعِ النساءِ، ولكنْ لنساءِ النبيِّ مزيدُ تشديدٍ، وهو في الحجابِ وفي الاختلاطِ والفاحشةِ سواءٌ، ولتمامِ عدلِ اللهِ ورحمتِهِ بِهِنَّ جَعَلَهُنَّ في بابِ الثوابِ أعظَمَ مِن الصحابيّاتِ ـ فضلًا عن نساءِ الأُمَّةِ ـ في الإثابةِ على العملِ: ﴿ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صالِحًا نُؤْتِها أجْرَها مَرَّتَيْنِ وأَعْتَدْنا لَها رِزْقًا كَرِيمًا ﴾ [الأحزاب: ٣١].
وحينَما ذكَرَ المضاعَفةَ في العقابِ والثوابِ، دَلَّ على أنّ بقيَّةَ النساءِ على إثمٍ وثوابٍ ولكنْ لا مُضاعَفةَ فيه.
{"ayahs_start":32,"ayahs":["یَـٰنِسَاۤءَ ٱلنَّبِیِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدࣲ مِّنَ ٱلنِّسَاۤءِ إِنِ ٱتَّقَیۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَیَطۡمَعَ ٱلَّذِی فِی قَلۡبِهِۦ مَرَضࣱ وَقُلۡنَ قَوۡلࣰا مَّعۡرُوفࣰا","وَقَرۡنَ فِی بُیُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِینَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۤۚ إِنَّمَا یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَیۡتِ وَیُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِیرࣰا"],"ayah":"یَـٰنِسَاۤءَ ٱلنَّبِیِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدࣲ مِّنَ ٱلنِّسَاۤءِ إِنِ ٱتَّقَیۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَیَطۡمَعَ ٱلَّذِی فِی قَلۡبِهِۦ مَرَضࣱ وَقُلۡنَ قَوۡلࣰا مَّعۡرُوفࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق