الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويَتَّخِذَها هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ۝﴾ [لقمان: ٦]. كانتْ قريشٌ تَتَّخِذُ الغناءَ تَلْهُو به عن سماعِ كلامِ اللهِ، وهو أحسنُ الحديثِ، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ﴾ [الزمر: ٢٣]، فسمّى اللَّهُ غِناءَهم ﴿لَهْوَ الحَدِيثِ﴾. وقد فسَّر لَهْوَ الحديثِ في هذه الآيةِ بالغِناءِ جماعةٌ مِن الصحابةِ والتابعينَ، كابنِ مسعودٍ، وابنِ عبّاسٍ، وجابرٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، ومجاهِدٍ، وعِكْرِمةَ، ومكحولٍ وقتادةَ وغيرِهم[[ينظر: «تفسير الطبري» (١٨ /٥٣٤ ـ ٥٣٨)، و«تفسير ابن كثير» (٦ /٣٣١).]]. وقد روى ابنُ جريرٍ والبيهقيُّ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه، أنّه قال: «واللهِ الذي لا إلهَ إلاَّ هو، إنّ لَهْوَ الحديثِ لَهُوَ الغِناءُ»، ثمَّ ذكَرَها ثلاثًا[[أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٨ /٥٣٤)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (١٠ /٢٢٣).]]. وابنُ مسعودٍ هو مِن أعلَمِ الصحابةِ بالتفسيرِ، إنْ لم يكنْ أعلَمَهُمْ على الإطلاقِ. الغِناءُ والمَعازِفُ والفَرْقُ بينَهما: وقد جاء في الشريعةِ النهيُ في هذا البابِ عن شيئَيْنِ يَخلِطُ بينَهما كثيرٌ مِن الناسِ: الأولُ: الغِناءُ، والثاني: المعازفُ، ولا يَلزَمُ اجتماعُهما، فقد يكونُ الغِناءُ بلا مَعازِفَ، وقد تكونُ المعازِفُ بلا غِناءٍ، وقد يجتمعانِ. أمّا الأولُ: فالغِناءُ، والمرادُ به هو إنشادُ الشِّعْرِ بالصوتِ الحسَنِ المجرَّدِ عن أيِّ مضافٍ إليه مِن الآلاتِ، وهذا النوعُ نُهِيَ عنه لا لِذاتِه، وإنّما إنْ كان يتضمَّنُ صدًّا عن ذِكْرِ اللهِ، كما كانت تتَّخِذُهُ قريشٌ في مَكَّةَ، حتى لا تَسْمَعَ كلامَ اللهِ وكلامَ النبيِّ ﷺ. ولا يَلزمُ مِن الغناءِ أن يكونَ معه مَعازِفُ، ولكنَّه غلَبَ في استعمالِ الناسِ أنّ الغِناءَ هو الذي يكونُ معه آلاتُ الطرَبِ، وليس مقصودًا بهذا المعنى عندَ العرَبِ. ومَن نظَرَ إلى النصوصِ مِن أفعالِ الصحابةِ وكذلك أشعارِ العربِ، وجَدَ أنّهم يُطلِقونَ الغِناءَ ويُريدونَ به الشِّعْرَ والحُداءَ، حتى أشكَلَ ذلك على كثيرٍ مِن المتأخِّرِين، وظَنُّوا أنّ قولَ السلفِ في الغِناءِ إنّما هو المَعازفُ كما هو اصطلاحُ المتأخِّرِين، وهذا جَهْلٌ وسوءُ فَهْمٍ، فإنّ هذا لم يكنْ موجودًا عندَ السلفِ مطلَقًا. فالغِناءُ عندَ العربِ هو صوتُ الفَمِ، كما يقولُ حُمَيْدُ بنُ ثَوْرٍ: عَجِبْتُ لَها أنّى يَكُونُ غِناؤُها فَصِيحًا ولَمْ تَفْغَرْ بِمَنطِقِها فَما[[ينظر: «لسان العرب» (١٥ /١٣٩) (غنا)، و«تاج العروس» (٣٩ /١٩٣) (غني).]] ويَرِدُ عن بعضِ السابِقِينَ: أنّه سَمِعَ الغِناءَ، والمرادُ بذلك: هو إنشادُ الشِّعْرِ بالصوتِ الحسَنِ، وليس المرادُ الموسيقا والمعازفَ. والغِناءُ عندَ السلفِ جاء النهيُ عنه لا لِذاتِه، وإنّما إنْ صَدَّ عن ذِكْرِ اللهِ، ومِثلُه إنشادُ الأشعارِ باللُّحُونِ، وإنْ لم يَصُدَّ جازَ. وقد قال ابنُ الجوزيِّ: «كان الغِناءُ في زمانِهم إنشادَ قصائدِ الزُّهْدِ، إلاَّ أنّهم كانوا يُلحِّنونَها»[[«تلبيس إبليس» (ص٢٠٣).]]. ومِن هذا قولُ بعضِ الفقهاءِ بحَضْرةِ الرشيدِ لابنِ جامعٍ: الغِناءُ يُفطِرُ الصائمَ، فقال: ما تقولُ في بيتِ عمرَ بنِ أبي ربيعةَ إذْ أنشَدَ: أمِن آلِ نُعْمٍ أنْتَ غادٍ فَمُبْكِرُ غَداةَ غَدٍ أمْ رائِحٌ فَمُهَجِّرُ! أيُفطِرُ الصائمَ؟ قال: لا، قال: إنّما هو أنْ أمُدَّ به صوتي، وأُحرِّكَ به رأسي[[«محاضرات الأدباء» للراغب الأصفهاني (١ /٨١٦).]]. ومِن هذا: قولُ عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ: «لا بأسَ بالغِناءِ والحُداءِ للمُحْرِمِ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٣٩٥١).]]. وأمّا الثاني: فالمَعازِفُ، وهي آلاتُ الطرَبِ مِن العُودِ والقَصَبِ، والمِزْمارِ والموسيقا، والآلاتِ الإلكترونيَّةِ الحديثةِ التي تُخرِجُ ما يَخرُجُ مِن المعازفِ، فإنّها تأخُذُ حُكْمَها، لأنّ الشريعةَ لا تفرِّقُ بينَ المتماثِلاتِ، فإنّها لم تحرِّمِ الخمرَ لكونِهِ تمرًا أو زَبِيبًا أو دُبّاءً أو غيرَ ذلك، وإنّما لأنّه يُخامِرُ العقلَ ويُسكِرُه ويُغطِّيه، فكلُّ ما كان فيه هذه العلةُ يُسمّى خمرًا محرَّمًا ولو كان مِن غيرِ تلك الأصنافِ، بل حتى لو كان إلكترونيًّا كما حدَثَ في هذا الزمنِ ممّا يُسمّى بالمخدِّراتِ الإلكترونيَّةِ، إذْ تُوضَعُ سمّاعاتٌ في الأُذُنِ وتُحدِثُ أصواتًا متناغمةً على نسقٍ معيَّنٍ يُؤثِّرُ في انتظامِ العقلِ فيَختلُّ، ويكونُ السامعُ بعدَ وقتٍ فاقدًا لعقلِهِ كنَشْوةِ السَّكْرانِ، ثمَّ لا يلبثُ إلاَّ ويُفيقُ. والمعازِفُ حُرِّمَتْ لذاتِها، فما كان آلةَ عَزْفٍ واتُّخِذَ لذلك، فهو محرَّمٌ ولو لم يكنْ معه شِعْرٌ وكلامٌ، وذلك لقولِ النبيِّ ﷺ: (لَيَكُونَنَّ مِن أُمَّتِي أقْوامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحَرِيرَ والخَمْرَ والمَعازِفَ)، رواهُ البخاريُّ[[أخرجه البخاري (٥٥٩٠).]]، وقال بتعليقِه ابنُ حزمٍ[[«المحلّى» (٩ /٥٩).]]، وليس كذلك، وقد بيَّنّا وصْلَهُ وصِحَّتَهُ في رسالةِ «الغِناءِ». وتحليلُ المعازفِ اليومَ مِن علاماتِ النبوَّةِ التي أخبَرَ عنها النبيُّ ﷺ، يَزِيدُ المؤمِنَ يقينًا بصِدْقِ رسالتِه لإخبارِه، ولا يُشكِّكُهُ في حُكْمِ المعازِفِ، إذْ لا يوجدُ مذهبٌ مِن المذاهبِ الأربعةِ، ولا قَرْنٌ مِن قرونِ الإسلامِ، ولا بلدٌ مِن بُلْدانِه خلا مِن عالِمٍ يَحكِي الإجماعَ على حُرمتِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب