الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا وما يَذَّكَّرُ إلاَّ أُولُو الأَلْبابِ ﴾ [آل عمران: ٧].
أنْزَلَ اللهُ كتابَهُ للبيانِ وإقامةِ البُرهانِ، ومُقتضى ذلك أنْ يكونَ بيِّنًا مُحْكَمًا ظاهرًا جليًّا، وهذا هو الأصلُ فيه، ولذا سمّى اللهُ المُحْكَماتِ بـ(أمِّ الكتابِ)، أيْ: أصلِه، والمقصودُ مِن الكِتابِ: الإحْكامُ، لا اللَّبْسُ، وأُمُّ الشيءِ: أصلُهُ الذي تَرجِعُ الفروعُ إليه، ولا يَرجِعُ بالضرورةِ إليها، كأمِّ القُرى، يَقصِدُها أهلُ القُرى جميعًا بقلوبِهم ووُجُوهِهم وأَبْدانِهم، ولا يقصدُ أهلُ أمِّ القُرى جميعَ القُرى.
المحكَمُ والمتشابِهُ في القرآن:
وإحكامُ القرآنِ أصلٌ، والتشابهُ عارضٌ، عندَ كلِّ عربيٍّ يفهمُ لغةَ العربِ التي أُنزِلَ عليها القرآنُ، وليستِ العربيَّةَ المتأخِّرةَ التي دخلَتْها العُجْمَةُ، فغيَّرتِ اللِّسانَ وبدَّلَتْه، فتُسمّى عربيَّةً في مقابلِ العجميَّةِ، لا بالنسبةِ لفصاحتِها وبيانِها، وما زال اللسانُ العربيُّ يَضْعُفُ عندَ العامَّةِ والخاصَّةِ حتى استعجَمَ كثيرٌ مِن القرآنِ على كثيرٍ مِن العربِ.
والمُحْكَمُ ضدُّ المُتشابِهِ، وهو ما لا يحتملُ في الشريعةِ إلا قولًا ووجهًا سائغًا واحدًا، وعرَّف أحمدُ المحكَمَ: بأنه الذي ليس فيه اختلافٌ[[«مسائل ابن هانئ لأحمد» (٢/١٦٦).]] ومرادُهُ: ما استقَلَّ بالبيانِ بنفسِهِ، فلم يحتجْ لغيرِهِ، فقد روى ابنُ أبي حاتمٍ، وابنُ المُنذِرِ، والطَّبَرِيُّ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: «مُحْكَماتُ الكِتابِ: ناسِخُه، وحلالُه وحرامُه، وحُدُودُه وفرائضُه، وما يُؤمَنُ به ويُعمَلُ به».
وبنحوِ هذا قال عكرمةُ ومجاهدٌ وقتادةُ وغيرُهم[[«تفسير الطبري» (٥/١٩٣)، و«تفسير ابن المنذر» (١/١١٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٥٩٢).]].
والمُتشابهُ: ما تَرَدَّدَ معناهُ بينَ معنَيَيْنِ أو أكثرَ بوجهٍ سائغٍ.
روى ابنُ المُنذِرِ وغيرُه، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: «المُتشابِهاتُ: مَنسُوخُه، ومُقَدَّمُه ومُؤَخَّرُه، وأَمْثالُه وأَقْسامُه، وما يُؤمَنُ به ولا يُعمَلُ به»[[«تفسير الطبري» (٥/١٩٣)، و«تفسير ابن المنذر» (١/١١٩)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٥٩٣).]].
ما لا يُنْتسخُ من الوحي:
ويدخُلُ النسخُ الأحكامَ، ولا يدخُلُ من الوحيِ المنزَّلِ ثلاثةً:
أولًا: العقائدُ، لأنّها إخبارٌ عن الخالقِ وحقِّه، وهي سببُ الإيجادِ: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: ٥٦]، يعني: يُوحِّدوني ويُطِيعوني، ونَسْخُها نسخٌ للحِكْمةِ الأُولى مِنَ الخَلْقِ وإبطالٌ لها، ولهذا تختلفُ شرائعُ الأنبياءِ، وتتَّفقُ عقائدُهم وأصولُ عباداتِهم للهِ، قال ﷺ: (والأَنْبِياءُ إخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ، أُمَّهاتُهُمْ شَتّى، ودِينُهُمْ واحِدٌ)، رواهُ البُخاريُّ[[أخرجه البخاري (٣٤٤٣) (٤/١٦٤).]].
والدِّينُ هو أُصُولُهم، والأُصُولُ كالأَنْسابِ، فيُنسَبُ الأبناءُ لآبائِهم وإنِ اختلَفَتْ أُمَّهاتُهم وتعدَّدتْ، وأبناءُ الأمَّهاتِ مَحارِمُ لأزواجِ آبائِهم، يعني: أنّ أصولَ فُرُوعِهم وإنِ اختلَفَتْ فتَختلِفُ صورةً، ويَبْقى التَّشابُهُ في أصلِ التشريعِ، فالصلاةُ شريعةُ الأنبياءِ واحدةٌ، ولكنْ تختلِفُ في صورتِها وعددِها ووقتِها.
والعقائدُ عليها فُطِرَ الإنسانُ، واختلافُ العقائدِ وأصولِ الشرائعِ تبديلٌ للفِطرةِ: ﴿فَأَقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠]، وإذا غُيِّرَتْ أصولُ العقائدِ، فلا بدَّ أنْ تُغيَّرَ الفِطرةُ لِتَتَوافَقَ معها، ولكنْ لمّا كانت أصولُ العقائدِ ثابتةً لا تتغيَّرُ، ثَبَتَتِ الفِطرةُ، وقضى اللهُ بذلك لها: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾.
ثانيًا: الآدابُ والأخلاقُ، لأنّ الإنسانَ فُطِرَ عليها، وهي صِلَتُهُ مع جِنْسِه، ونَسْخُها تبديلٌ للفِطْرةِ وإفسادٌ لصِلَةِ الخَلْقِ، كالصِّدْقِ والأمانةِ، والوفاءِ بالعهدِ، وإكرامِ الضيفِ، والعفافِ.
فنَسْخُ العقائدِ إفسادٌ لصِلةِ المخلوقِ بالخالقِ، ونسخُ الأخلاقِ والآدابِ إفسادٌ لصِلَةِ الخَلْقِ فيما بينَهم.
ثـالثًـا: الأَخْبارُ، لأنّ نسْخَها تكذيبٌ للمُخبِرِ، لذا كلُّ ما يُخْبِرُ به نبيٌّ مِن أنبياءِ اللهِ، فلا بدَّ أنْ يقَعَ لا يُنسَخَ، والنبيُّ يُخبِرُ عن ربِّه، ونسخُ الأخبارِ تكذيبٌ له سبحانَه.
ويدخُلُ في الأخبارِ أحوالُ السابقِينَ واللاحِقِينَ، مِن أشراطِ الساعةِ، وأحوالِ الخَلْقِ بعدَ موتِهم مِن حياةِ البرزخِ والبعثِ والنشورِ، وأخبارِ الغيبِ، كالأرواحِ والجِنِّ والملائكةِ، وعُمّارِ السماءِ، وصفةِ السمواتِ وسُمْكِها، وغيرِ ذلك.
وقولُه تعالى: ﴿هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾: الكتابُ إذا أُطلِقَ في القرآنِ والسُّنَّةِ مجرَّدًا مِن غيرِ عطفٍ يدخُلُ فيه السُّنَّةُ، لأنّها وحيٌ، ولحديثِ زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنِيِّ وأبي هُرَيْرَةَ لمّا أرادَ أنْ يَقْضِيَ النبيُّ ﷺ في الزِّنى، قال: (لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُما بِكِتابِ اللهِ) [[أخرجه البخاري (٢٦٩٥) (٣/١٨٤)، ومسلم (١٦٩٧) (٣/١٣٢٥).]]، فقضى بحُكْمِه، ومنه التغرِيبُ، وليس التغريبُ في المَتْلُوِّ مِن القرآنِ، وإنّما هو مِن السُّنَّةِ.
معنى المُحْكَمِ والمتشابِهِ في القرآنِ:
وللإحكامِ والتشابُهِ في القرآنِ مَعانٍ متغايرةٌ مِن بعضِ الوُجُوهِ، فقد وصَفَ اللهُ القرآنَ كلَّه بالإحكامِ، ووصَفَه كلَّه بالمتشابهِ، وقسَّمَهُ إلى مُحكَمٍ ومتشابهٍ كما في آيةِ آلِ عِمرانَ هذه، فلمّا وصَفَ اللهُ كتابَه كلَّه بالإحكامِ، قال: ﴿كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ [هود: ١]، ولمّا وصَفَهُ كلَّه بالمتشابهِ، قال: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ﴾ [الزمر: ٢٣]، والتشابُهُ في هذه الآيةِ هو في معنى الإحكامِ، لأنّ المرادَ بالمتشابهِ هنا هو مشابهةُ أحْكامِ القرآنِ بعضِها بعضًا، فلا يُناقِضُ موضعٌ موضعًا آخَرَ، وهذا نفيٌ للتعارُضِ والتناقُضِ والاختلافِ فيه الحاصلِ في قولِ البشرِ: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: ٨٢].
فقولُه: ﴿كِتابًا مُتَشابِهًا﴾ [الزمر: ٣٩]، أيْ: يُشْبِهُ بعضُه بعضًا، ويُصَدِّقُ بعضُه بعضًا، ويدُلُّ بعضُه على بعضٍ، قاله سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ وقتادةُ والسُّدِّيُّ وغيرُهم[[«تفسير الطبري» (٢٠/١٩١).]].
وأمّا في الآياتِ، فقد تكونُ مُتشابِهةً بعَيْنِها، وإذا انضمَّتْ إلى بقيةِ الآياتِ في بابِها، أُحْكِمَتْ وبُيِّنَتْ وزالَ تشابُهُها، لأنّ القرآنَ يُشبِهُ بعضُه بعضًا فلا يتناقَضُ، وهذا المرادُ في قولِه: ﴿كِتابًا مُتَشابِهًا﴾ [الزمر: ٢٣].
أنواعُ المحكمِ والمتشابِهِ:
وهذا هو الإحكامُ العامُّ للقرآنِ، وهو المرادُ في قولِه: ﴿كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ﴾ [هود: ١]، يعني: أنّ آياتِ الكتابِ أُحكِمتْ جميعًا، فما لم يُحْكَمْ بنفسِهِ منفردًا، أُحْكِمَ بآياتٍ أُخرى مِن الكتابِ تُزِيلُ لَبْسَهُ وما تشابَهَ منه في عقلِ القارئِ وظنِّه، ولذا كان إحكامُ القرآنِ على نوعينِ:
إحكامٌ عامٌّ في القرآنِ كلِّه.
وإحكامٌ خاصٌّ في آياتٍ معيَّنةٍ.
والتشابُهُ على نوعينِ:
تشابهٌ عامٌّ في القرآنِ كلِّه، يُشبِهُ بعضُه بعضًا، ويُؤكِّدُ بعضُه بعضًا، ولا يُوجَدُ منه ما يُناقِضُ الآخَرَ.
وتشابُهٌ خاصٌّ في آياتٍ معيَّنةٍ.
والتشابُهُ العامُّ مِن معاني الإحكامِ العامِّ، والإحكامُ الخاصُّ جزءٌ مِن الإحكامِ العامِّ.
والمتشابِهُ الخاصُّ يُخالِفُ المُحْكَمَ الخاصَّ، والمُخالَفةُ يُقضى بها للمُحكَمِ، وقد تكونُ كاملةً بالنسخِ التامِّ، أو مخالِفةً لبعضِه بتقييدِهِ وتخصيصِه.
ولا يترُكُ إحكامَ القرآنِ إلا مَن في قلبِه مرضٌ سابقٌ، لِيَأخُذَ بُغْيَتَهُ لِيُمِرَّها على الناسِ، فيَستُرَ هواهُ بحُجَّةٍ مِن القرآنِ، فالهوى سابقٌ في قلبِه لم يُوجِدْه القرآنُ، ولذا قال تعالى: ﴿فَأَمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾، ومَن في قلوبِهم زيغٌ هم المنافِقونَ، فالمرضُ في قلوبِهم مستقرٌّ قبلَ نظرِهم في القرآنِ، فتعلَّقتْ بهم الشُّبُهاتُ، وأمّا القرآنُ، فشفاءٌ للمؤمنينَ: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وشِفاءٌ﴾ [فصلت: ٤٤]، وزيادةُ غَيٍّ للمنافِقينَ: ﴿وأَمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥]، لأنّ المؤمِنَ يطلُبُ المُحكَمَ فيَشْفِيهِ، والمنافِقَ يطلُبُ المتشابِهَ فيُمْرِضُه، قال اللهُ عن المؤمنينَ: ﴿ويَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيها القِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ الآيةَ [محمد: ٢٠]، وقال عن المنافِقينَ: ﴿فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ﴾.
وأمراضُ القلوبِ بالشُّبهاتِ تُعْدِي كأمراضِ الأبدانِ بالعِلَلِ، فيجبُ الحذرُ مِن مجالسةِ أصحابِها، ففي «الصحيحينِ»، عن عائشةَ رضي الله عنها، قالتْ: تلا رسولُ اللهِ ﷺ: ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾، إلى قولِه: ﴿وما يَذَّكَّرُ إلاَّ أُولُو الأَلْبابِ ﴾، قالتْ: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (فَإذا رَأَيْتِ الذينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ، فَأُولَئِكِ الذينَ سَمّى اللهُ، فاحْذَرُوهُمْ) [[أخرجه البخاري (٤٥٤٧) (٦/٣٣)، ومسلم (٢٦٦٥) (٤/٢٠٥٣).]].
وقد جعَلَ اللهُ عِلمَ المتشابِهِ عندَ الراسخينَ لا مجرَّدِ العالِمينَ، فليس كلُّ عالِمٍ راسخًا، وإنْ كان كلُّ راسخٍ عالِمًا، والعالمُ الراسخُ الذي يعلَمُ المُحكَمَ والمتشابهَ، فيُقصَدُ بطلبِها منه، والعالِمُ غيرُ الراسخِ الذي يعلمُ المحكَمَ لا المتشابِهَ، فيُقصَدُ في المُحكَماتِ دون المتشابِهاتِ، قال تعالى: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾، فيُرجَعُ في فَصْلِ المُتشابهِ إلى أهلِ الرسوخِ في العلمِ، لا إلى مجردِ وصفِ العلمِ.
وفي قوله تعالى: ﴿كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ إشارةٌ إلى أنّ القرآنَ لا يتناقضُ في الحقيقةِ، وربَّما يتناقضُ في الأذهانِ القاصرةِ، فيُؤمِنونَ بجميعِ القرآنِ، ويَفصِلونَ في متشابِهِه بمُحكَمِه.
الحكمةُ مِن وجودِ المتشابِهِ في القرآن:
ووجودُ المتشابهِ في القرآنِ لا يُنافي الحِكْمةَ مِن إنزالِه، وهو الهدايةُ والنورُ والبيِّنةُ وإقامةُ الحُجَّةِ على الخَلْقِ، فاللهُ جعَلَ في أصلِ الحِكْمةِ مِن الخَلْقِ ابتلاءَ الناسِ واختبارَهم، والابتلاءُ على نوعينِ:
أولًا: ابتلاءُ الأبدانِ بالآلامِ والأسقامِ، والجروحِ والقتلِ، وغيرِها.
ثانيًا: ابتلاءُ الأذهانِ ـ وهي العقولُ والقلوبُ ـ بشهواتِها ونزواتِها وأطماعِها.
وجعَلَ لكلِّ ابتلاءٍ أسبابًا تُمكِّنُ له، ومِن هذا ابتلاءُ اللهِ للعقولِ بالمتشابهاتِ ومدى ثباتِ النفوسِ ومَيْلِها مع وضوحِ المُحكَماتِ البيِّناتِ، لِيختبِرَ اللهُ الصادقَ مِن المنافِقِ.
المتشابِه المُطلقُ:
وقد اختَلَفَ العلماءُ في وجودِ المتشابهِ المطلَقِ في القرآنِ الذي لا يعلمُه أحدٌ إلا اللهُ على قولَيْنِ، واختَلَفُوا في الوقفِ على اسمِ (الله) سبحانَهُ في قوله تعالى: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ﴾:
فقال بالعطفِ جماعةٌ، كابنِ عباسٍ ومجاهدٍ والقاسمِ بنِ محمدٍ، قال ابنُ عباسٍ: «أنا مِن الراسِخينَ في العِلمِ الذين يَعلَمونَ تأويلَه»[[«تفسير ابن كثير» (٢/١١ ط/سلامة).]].
ومَن قال بذلك، قال: إنّ اللهَ لم يجعَلْ في كتابِه متشابهًا إلا علَّمَهُ أحدًا مِن العلماءِ، ولا تشابُهَ مطلَقٌ في القرآنِ، وإنّما هو نسبيٌّ يفُوتُ على عالِمٍ أو علماءَ فيَعرِفُهُ عالمٌ أو علماءُ، ولكنَّه لا يتشابَهُ في الأرضِ كلِّها على كلِّ أحدٍ، ويُؤيِّدُ هذا حديثُ النُّعمانِ بنِ بَشِيرٍ في «الصحيحينِ»، قال ﷺ: (الحَلالُ بَيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُما مُشَبَّهاتٌ لا يَعْلَمُها كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ) [[أخرجه البخاري (٥٢) (١/٢٠)، ومسلم (١٥٩٩) (٣/١٢١٩).]]، فقال: كثيرٌ، ولم يقلْ: جميعٌ، وقد يُقالُ: إنّ هذا خاصٌّ بما يُكلَّفُ به العِبادُ عملًا وعبادةً، ولذا قال: (الحَلالُ بَيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ)، فيدخُلُ في المتشابِهِ مِن أمورِ الأخبارِ والغيبِ ما لا يدخُلُ في التشريعِ حلالًا وحرامًا.
وقد جعَلَ غيرُ واحدٍ مِن السلفِ الحلالَ والحرامَ كلَّه مُحْكَمًا، كما هو ظاهرُ قولِ ابنِ عباسٍ، قال ابنُ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ، في قولِه: ﴿مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ﴾: ما فيه مِن الحلالِ والحرامِ، وما سوى ذلك فهو متشابِهٌ[[«تفسير الطبري» (٥/١٩٦)، و«تفسير ابن المنذر» (١/١١٩).]].
والعطفُ في الآيةِ تشريفٌ للعلماءِ ومَنزِلَتِهم عندَ اللهِ، إذ عَطَفَهم عليه سبحانَه.
وقال جماعةٌ مِن السلفِ بالوَقْفِ على اسمِ (الله) سبحانَهُ، وهو قولُ ابنِ عمرَ، وعائشةَ، وابنِ مسعودٍ، وأُبَيٍّ، ونُقِلَ عن مالكٍ وغيرِه.
والتحقيقُ: أنّ التشريعَ بالحلالِ والحرامِ لا مُتشابِهَ مطلقٌ فيه، لحديثِ النُّعْمانِ، لأنّ اللهَ لا يُكلِّفُ العِبادَ بعملٍ، ثمَّ يجعلُهُ مُتشابهًا عليهم، وأمّا أمورُ الأخبارِ والغيبِ، فالتشابُهُ المطلَقُ فيها إنْ وُجِدَ فهو نادِرٌ، ويُوكَلُ إلى عالِمِهِ وحدَهُ سبحانَه، لأنّ اللهَ قصَدَ في اللفظِ بيانَ معنًى، وما وراءَهُ مِن أمورِ الغيبِ ليس مقصودًا للعقلِ أنْ يتفكَّرَ فيها، فلا يُسمّى متشابهًا مطلقًا عليه، لأنّ المُتشابِهَ هو ما يَطلُبُ له العقلُ صورةً أو حقيقةً وتردَّدَ بينَ معنيَيْنِ أو صورتينِ أو أكثرَ بلا مرجِّحٍ، والعقولُ منهيَّةٌ عن تمثيلِ اللهِ وتشبيهِ صِفاتِهِ بالمخلوقِينَ ولو في الأذهانِ، وهي مطالَبةٌ بفَهْمِ مُرادِ اللهِ مِن ذِكْرِ صفاتِه وأسمائِه، بمعرفةِ آثارِها على العِبادِ، والتعرُّفِ على الخالقِ وكمالِه، وجمالِه وجلالِه، وصَرْفِ العبادةِ له وحدَه، وكلُّ ما وراءَ ظواهرِ الأدلةِ في الأسماءِ والصفاتِ ليس مأذونًا للعقولِ أنْ تنظُرَ فيه، فضلًا عن أنْ تدَّعِيَ تردُّدَها في فهمِهِ بينَ معانٍ وصورٍ محصورةٍ، لأنّ اللهَ يقولُ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [الشورى: ١١]، فبَحْثُ المِثْلِيَّةِ منهيٌّ عنه، وكلُّ ما وراءَ ظواهرِ الأدلةِ ممّا يتصوَّرُهُ العقلُ: جهلٌ، والجهلُ لا يكونُ متشابِهًا وإنْ تعدَّدَ في الذهنِ، لأنّ الحقَّ ليس في واحدٍ منها، والمتشابِهُ هو ما تردَّدَ الحقُّ فيه بينَ عِدَّةِ مَعانٍ مُنقدِحةٍ في الأذهانِ، ولو صحَّ ذلك، لَسُمِّيَ كلُّ جهلٍ: متشابِهًا.
ومَن قال بنفيِ التشابُهِ المطلَقِ في القرآنِ كلِّه، علَّلَ ذلك بمخالَفةِ مقتضى التنزيلِ، وهو الإحكامُ، ولأنّ السلفَ لم يترُكُوا آيةً في القرآنِ إلا ولهم تأويلٌ فيها جميعِها، ولو كان في القرآنِ متشابهٌ، لَما جَسَرُوا عليه، وإنّما ما يَتَشابَهُ على أحدٍ يُفسِّرُه غيرُه.
{"ayah":"هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۡهُ ءَایَـٰتࣱ مُّحۡكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتࣱۖ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمۡ زَیۡغࣱ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَاۤءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَاۤءَ تَأۡوِیلِهِۦۖ وَمَا یَعۡلَمُ تَأۡوِیلَهُۥۤ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّ ٰسِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ یَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلࣱّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق