الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاَّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلاَّ رَمْزًا واذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وسَبِّحْ بِالعَشِيِّ والإبْكارِ ۝﴾ [آل عمران: ٤١]. جعَلَ اللهُ علامةً لزكريّا وآيةً في قومِهِ: ألاَّ يُكلِّمَهُمْ مُدَّةَ ثلاثةِ أيامٍ مِن غيرِ مرضٍ كخَرَسٍ أو شِبْهِهِ، فهو يذكُرُ اللهَ صباحًا ومساءً، ولكنَّه مع الناسِ لا يَقدِرُ على الحديثِ، وإنّما يكتفِي بالإشارةِ والإيماءِ، ومعنى الرمزِ في قوله تعالى: ﴿إلاَّ رَمْزًا﴾: قال ابنُ عباسٍ: يعني: الإشارةَ والإيماءَ، وبقولِه قال قتادةُ والضحّاكُ والسُّدِّيُّ[[«تفسير الطبري» (٥/٣٨٩ ـ ٣٩٠).]]. وقال مجاهدٌ: ﴿إلاَّ رَمْزًا﴾، يعني: الإيماءَ بالشفتَيْنِ[[«تفسير الطبري» (٥/٣٨٨).]]. وقد جعَلَ اللهُ عدمَ قدرةِ زكريّا على الكلامِ مدةَ ثلاثةِ أيامٍ، وهو أمرٌ لا اختيارَ له فيه ـ آيةً مِن اللهِ له مع قومِه، مع قدرتِه على الكلامِ للهِ تسبيحًا وتهليلًا وذِكْرًا للهِ فحَسْبُ، وفي ذلك إشارةٌ إلى أنّ اللهَ لم يشَأْ أنْ يجعَلَ زكريّا هاجِرًا لقومِه فوقَ ثلاثةِ أيامٍ، ولو كان بغيرِ اختيارِه وإرادتِه، وباختيارِه مِن بابِ أولى ألاَّ يَصِحَّ الهجرُ منه لهم، لأنّ اللهَ خلَقَ الناسَ وحثَّهم على الخِلْطةِ والاجتماعِ، ومنَعَهم من الافتراقِ والهَجْرِ، والنبيُّ مِن بابِ أولى، لأنّه يُصلِحُ ويُقتدى به، ويأمُرُ ويَنْهى. ولأنّ طولَ الصمتِ يُخالِفُ أصلَ الفِطرةِ، والهجرُ لنعمةِ الكلامِ كالهجرِ لنعمةِ البصرِ والسمعِ والتفكُّرِ، وقد نَهى النبيُّ ﷺ عن طولِ الصمتِ كما في «سننِ أبي داودَ»، قال: (لا صُماتَ يَوْمٍ إلى اللَّيْلِ) [[أخرجه أبو داود (٢٨٧٣) (٣/١١٥).]]. وقيل بأنّ صَمْتَ زكريّا كان باختيارِه، وأنّ اللهَ أذِنَ له في ذلك، ونسَخَ اللهُ الصمتَ في شِرْعَةِ محمدٍ ﷺ. وفي كونِه اختيارًا نظرٌ، فاللهُ جعَلَ عدَمَ كلامِه آيةً، وعدمُ الكلامِ كلٌّ يقدِرُ عليه باختيارِه، والمفسِّرونَ مِن السلفِ على أنّ ذلك بلا اختيارٍ مِن زكريّا. وربَّما كان الناسُ لا يعلَمونَ سببَ صَمْتِه، والصمتُ يتضمَّنُ هجْرَهُ لهم، والهجرُ لا يجوزُ فوقَ ثلاثٍ، فقدَّرَه اللهُ بثلاثةِ أيامٍ. وقد جاءَ في «الصحيحينِ»، مِن حديثِ أنسٍ، أنّ النبيَّ ﷺ قال: (لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ) [[أخرجه البخاري (٦٠٧٦) (٨/٢١)، ومسلم (٢٥٥٨) (٤/١٩٨٣).]]. الهجرُ وأحكامُهُ: والهجرُ فوقَ ثلاثٍ محرَّمٌ لغيرِ سببٍ شرعيٍّ، ولا تخلُو أسبابُ الهجرِ بينَ الناسِ مِن سببينِ: السببُ الأولُ: سببٌ مِن حظِّ أنفسِهم ودُنياهم، فهذا لا يجوزُ أنْ يُجاوِزَ ثلاثةَ أيامٍ، للحديثِ السابقِ. ما لم يرتبِطْ أمرُ الدُّنيا بأمرِ الدِّينِ، فيَخشى الإنسانُ مِن الوصلِ فسادَ الدِّينِ، وقطيعةَ الرحمِ، وزيادة الشرِّ والعدوانِ والخصومةِ، فذاك يُقدَّرُ بالعدلِ، لا بهوى النفسِ. السببُ الثاني: سببٌ مِن حقِّ اللهِ، كمخالفةِ أمرِ اللهِ بكبيرةٍ، مِن شربِ خمرٍ، وسرقةٍ، وكذبٍ، وغِيبةٍ، ونميمةٍ، فيُهجَرُ تأديبًا له، وهذا على حالينِ: الأُولى: إذا كان الهجرُ يُؤثِّرُ في المهجورِ ويَرْدَعُه عن الشرِّ ويُبعِدُه عنه، ويَجلِبُه إلى الخيرِ ويُقرِّبُه منه، فهذا متأكِّدٌ، قد يُستحَبُّ وقد يجبُ، بحسَبِ اليقينِ مِن أثرِهِ في العاصي، كما في هجرِ النبيِّ ﷺ للثَّلاثةِ الذين خُلِّفُوا، وهجرِ عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ لقريبِه، ففي «الصحيحِ»، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، أنّ قريبًا لعبدِ اللهِ بنِ مغفَّلٍ خَذَفَ، قال: فنَهاهُ، وقال: إنّ رسولَ اللهِ ﷺ نَهى عن الخَذْفِ، وقال: (إنَّها لا تَصِيدُ صَيْدًا، ولا تَنْكَأُ عَدُوًّا، ولَكِنَّها تَكْسِرُ السِّنَّ، وتَفْقَأُ العَيْنَ)، قال: فعادَ، فقال: أُحدِّثُكَ أنّ رسولَ اللهِ ﷺ نَهى عنه، ثمَّ تَخْذِفُ؟! لا أُكَلِّمُكَ أبدًا[[أخرجه مسلم (١٩٥٤) (٣/١٥٤٨).]]. وقد هجَرَ عثمانُ ابنَ عوفٍ، وهجَرَ جماعةٌ مِن الصحابةِ والتابعينَ بسببِ مخالفةِ أمرِ اللهِ كثيرًا. الثانيةُ: إذا كان الهجرُ لا يُؤثِّرُ في المهجورِ ولا يَرْدَعُه، بل قد يَزِيدُهُ بُعْدًا وشرًّا وفتنةً، والهاجرُ لا يتضرَّرُ في دِينِهِ مِن قُرْبِهِ ضررًا يترجَّحُ على ضررِه لو هجَرَهُ، فإنّ الهجرَ حينئذٍ لا يجوزُ، وكلٌّ بحَسَبِهِ، وليستِ العِبْرةُ بمجرَّدِ المعصيةِ، فيُهجَرُ العاصي لأَجْلِها، بل لا بدَّ مِن أثرِ الهجرِ عليه، ومنزلةِ الهاجرِ من المهجورِ، وتأثُّرِهِ وتحسُّرِهِ على فقْدِه، كالوالدِ مع ولدِه، والأخِ الكبيرِ مع أخيهِ، والشيخِ مع تلميذِه، ومِن أهلِ الكفرِ والمعاصي مَن يُرِيدُ أنْ يُهْجَرَ، لِيَسْلَمَ مِن داعي الخيرِ، كما كان كفارُ قريشٍ يرغَبونَ في هَجْرِ النبيِّ ﷺ وإمساكِهِ عنهم، فلا يُريدونَ سماعَه، ووَدُّوا لو ترَكَهم، ومع هذا علِمَ النبيُّ أنّ هجْرَهم يَزيدُهم بُعْدًا، لزُهْدِهم في الخيرِ وداعِيه، فوصَلَهُمْ في النصحِ، وصبَرَ على أذاهُم، ولم يهجُرِ النبيُّ في حياتِه إلا نفرًا يسيرًا، وفي أحوالٍ يسيرةٍ، وذلك لأمرينِ: الأولُ: لأنّ مِن الناسِ كفارًا معاندين يُريدونَ هَجْرَهُ، ويتمنَّوْنَ ألاَّ يسمَعُوا دَعْوَتَهُ، فيُؤثِّرَ فيهم وفي ذَرارِيهم، فكان الهجرُ في حقِّهم محرَّمًا، والوصلُ لهم مع الصبرِ على دعوتِهم متعيِّنًا. الثاني: أقوامٌ يشتدُّ عليهم الهجرُ، وهو أثقلُ عليهم مِن حَمْلِ الحَجَرِ، ويقَعُونَ في الخطأِ عمدًا وسهوًا، وهجرُهُمْ عقابٌ شديدٌ، لمقامِ النبوَّةِ وحبِّهم له وحِرْصِهم عليه، فيُصلِحُهم ويتألَّفُهم ويرحَمُهم ولا يهجُرُهم، لأنّ مَقامَهُ ليس كمقامِ غيرِه، فربَّما اشتدَّ على الواحدِ منهم الهجرُ فضاقَ واشتدَّ به الحَرَجُ، فربَّما انقطَعَ به رجاءُ الوصلِ، وسوَّلَ له الشيطانُ البُعْدَ والرِّدَّةَ عن دينِه، لهذا كان النبيُّ ﷺ أشدَّ الناسِ صبرًا وتحمُّلًا لمُخالِفِيه، ويجبُ أنْ يكونَ أهلُ اتِّباعِه مِن العلماءِ والمُصلِحِينَ على سبيلِه في هذا. سياسةُ المخالِفِينَ بالخِلْطةِ والهجر: ومِن هذا النوعِ مُنافِقونَ على اختلافِ مراتبِ نفاقِهم، فهجْرُهم يُبعِدُهم، ووَصْلُهُمْ يُؤلِّفُهم ويَكْفِيهِم والمسلِمينَ شرَّهم، فيُوصَلُونَ ولو أخطَؤُوا، لمصلحتِهم، فلا يَبتَعِدُونَ، ولمصلحةِ المسلِمينَ، ألاَّ يُؤذُوهُم فيُوالُوا عليهم عدوَّهم. والواجبُ على المُصْلِحِ: أنْ يَسُوسَ الناسَ بما يُصلِحُهم ويُقرِّبُهم، وبما يُقلِّلُ شرَّهم ويَزِيدُ في خيرِهم، لا بما يَهْواهُ، فربَّما وجَدَ المُصلِحُ في نفسِه حبًّا بهجرِ أحدٍ ومَلَلًا مِن قُرْبِه، فإذا أخطَأَ، مالَتْ نفسُهُ لهجرِه، يظنُّ أنّه يهجُرُ لله، وإنّما يهجُرُ لحظِّ نفسِهِ وهواه. والهجرُ يجبُ أنْ يكونَ بمقدارِ الإصلاحِ، فمَن هَجْرُهُ لشهرٍ يُصلِحُه، لا يجوزُ هَجْرُهُ فوقَ ذلك، ومَن هَجْرُهُ لعامٍ يُصلِحُه، لا يجوزُ هجرُهُ فوقَ ذلك، وكلَّما زادَ الهجرُ بلا حاجةٍ، عَظُمَ الإثمُ على الهاجرِ، فعن أبي خِراشٍ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه، أنّه سمِعَ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: (مَن هَجَرَ أخاهُ سَنَةً، فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ) [[أخرجه أحمد (١٧٩٣٥) (٤/٢٢٠)، وأبو داود (٤٩١٥) (٤/٢٧٩).]]. بذلُ السلامِ بالكلامِ والإشارة: وتتضمَّنُ الآيةُ التحيَّةَ بالإشارةِ ممَّن يَعْجِزُ عن الكلامِ، لقولِه: ﴿إلاَّ رَمْزًا﴾، والأصلُ: مشروعيَّةُ السلامِ بالكلامِ المسموعِ إلا لمَن يَعجِزُ عن الكلامِ، أو حالَ بينَهُ وبينَ أخيهِ حائلٌ، أو كان المخاطَبُ بعيدًا لا يَسمَعُهُ، أو كان أصمَّ لا يَسمَعُ، فيكتفي بالإشارةِ، لما رواهُ النَّسائِيُّ، عن أبي الزُّبيرِ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (لا تُسَلِّمُوا تَسْلِيمَ اليَهُودِ والنَّصارى، فَإنَّ تَسْلِيمَهُمْ بِالأَكُفِّ والرُّؤُوسِ والإشارَةِ) [[أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (١٠١٠٠) (٩/١٣٤).]]. ولو قرَنَ الإشارةَ بالسلامِ حتى مع البعيدِ، أو مع مَن حالَ دونَ سماعِه حائلٌ، فهو أوْلى وأَتْبَعُ للسُّنَّةِ، فعن أسماءَ بنتِ يزيدَ الأنصاريَّةِ رضي الله عنها، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ مَرَّ في المسجدِ يومًا وعُصْبَةٌ مِن النساءِ قُعُودٌ، فأَلْوى بيدِه إليهنَّ بالسلامِ، رواهُ أحمدُ والترمذي[[أخرجه أحمد (٢٧٥٨٩) (٦/٤٥٧)، والترمذي (٢٦٩٧) (٥/٥٨).]]. وفي قولِهِ تعالى: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ دليلٌ على فضلِ ذِكْرِ اللهِ، وأنّ اللهَ اسْتَثْنى ذِكْرَهُ مِن عجزِ زكريّا عن الكلامِ، لأنّ الذِّكْرَ غذاءُ القلبِ وبتركِهِ يموتُ، فيَصبِرُ الإنسانُ عن الكلامِ، ولا يَصبِرُ عن ذِكرِ اللهِ، فقد روى الطبريُّ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ، قال: لو كان اللهُ رخَّصَ لأحدٍ في تَرْكِ الذِّكْرِ، لرخَّصَ لزكريّا، حيثُ قال: ﴿آيَتُكَ ألاَّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلاَّ رَمْزًا واذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ [[«تفسير الطبري» (٥/٣٩١).]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب