الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أقْرَبُ مِنهُمْ لِلإيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ واللَّهُ أعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ ۝﴾ [آل عمران: ١٦٧]. الآيةُ نزَلَتْ في المنافِقِينَ وفي ابنِ أُبَيٍّ وأصحابِهِ خاصةً فيمَن تردَّدَ في حُكْمِ الجهادِ والاستجابةِ لأمرِ اللهِ فيه، وذلك أنّ اللهَ أمَرَهُمْ بالخروجِ مع نبيِّه في أُحُدٍ، فرجَعَ ابنُ أُبَيٍّ ومعه ثُلُثُ القومِ، فاعتَذَرُوا بقولِهم: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لاتَّبَعْناكُمْ﴾، أيْ: لو نعلَمُ أنّكم تُقاتِلُونَ لَسِرْنا معكم، ولَدافَعْنا عنكم، ولكنّا لا نظُنُّ أنْ يكونَ قتالٌ. أكثرُ ما يُظهرُ النفاقَ: وإنّما هي أعذارٌ يُظهِرُ اللهُ بها النِّفاقَ، وأكثرُ ما يُظهِرُ اللهُ باطنَ المنافِقينَ بأمرَيْنِ: الأولُ: بالاستهزاءِ، كما في قولِه تعالى: ﴿يَحْذَرُ المُنافِقُونَ أنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ ۝﴾ [التوبة: ٦٤]. الثاني: بالأعذارِ التي يُبْدُونَها للتملُّصِ مِن الحقِّ، لِضَعْفِها في مقابلِ الحُجَّةِ، وكلَّما كانتِ الحُجَّةُ في وجهِ الحقِّ ضعيفةً، سَتَرَتْ خلفَها كِبْرًا ونِفاقًا، لأنّ النفوسَ لا تتشوَّفُ إلى المعارضةِ بلا سببٍ، فتُبدِي حُجَجًا واهيةً، وأعذارًا ضعيفةً، وهي في باطنِها مُعانِدةٌ. ولم يكُنِ المنافِقونَ يُعارِضونَ أمرَ النبيِّ ﷺ في الجهادِ، وإنّما يَعتَذِرُونَ بأعذارٍ ضعيفةٍ، ففي غزوةِ أُحُدٍ قالوا: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لاتَّبَعْناكُمْ﴾، وفي تَبُوكَ قالوا: ﴿لا تَنْفِرُوا فِي الحَرِّ﴾ [التوبة: ٨١]، وفيها قال الجَدُّ بنُ قَيْسٍ: ﴿ائْذَنْ لِي ولا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: ٤٩]. في أُحُدٍ لم يُظهِرُوا الامتناعَ مِن القتالِ، وإنّما لا يظُنُّونَ وقوعَ القتالِ، فلا يرَوْنَ خروجَهم بلا فائدةٍ تتحقَّقُ، وفي تَبُوكَ لم يُظهِرُوا الامتناعَ مِن الجهادِ، وإنّما خشيةَ الحَرِّ وحالُهم لو كان بَرْدًا لَخَرَجْنا، وفي تَبُوكَ أيضًا لم يُظهِرِ الجَدُّ بنُ قَيْسٍ الامتناعَ على الجهادِ، وإنّما أظهَرَ خوفَ الفتنةِ على نفسِه، وظاهرُهُ لو لم تكنْ فتنةٌ فهو مقاتِلٌ، وبكثرةِ الأعذارِ لتركِ الحقِّ يَظهَرُ النِّفاقُ. وهذه الأعذارُ تُخْرِجُهُمْ مِن دائرةِ الكفرِ الظاهرِ إلى النِّفاقِ، ولذا قال تعالى: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أقْرَبُ مِنهُمْ لِلإيمانِ﴾، فلم يَحْكُمْ بكفرِهم للنبيِّ ﷺ لِيُؤاخِذَهم على الكفرِ، وإنّما حَكَمَ بنفاقِهم، لِيُعامِلَهم به، ولذا عقَّبَ ذلك بقولِه: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ واللَّهُ أعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ ۝﴾. احتواءُ المنافِقِينَ: ومِن فقهِ السياسةِ في جهادِ النبيِّ ﷺ: احتواءُ المنافِقينَ، وإنْ مَكَرُوا وخَدَعُوا وخانُوا، كما فعَلَ ابنُ أُبَيٍّ حيثُ رجَعَ بثُلُثِ الجيشِ، فلم يُعاقِبْهُمُ النبيُّ ﷺ بعدَ أُحُدٍ، وإنّما جعَلَهم في عِدادِ الجماعةِ، وأخَذَهم في جِهادٍ بعدَ ذلك، لأنّ عَزْلَهُمْ عن الجماعةِ زيادةٌ لشرِّهم وخُبْثِهم، فهم يَرْجُونَ أنّ الناسَ تظُنُّهم متأوِّلينَ وليسوا بمنافِقينَ، ولو أُعلِنَ نفاقُ مَن يُبطِنُ شَرَّه، لأظهَرَهُ وانسلَخَ مِن جِلْدِهِ وأعلَنَ العداوةَ، وهذا لا تتشوَّفُ إليه الشريعةُ، واعتبارُهُمْ في الظاهرِ مع جماعةِ المسلِمِينَ لا يَعنِي توليتَهم وِلايةً، ولا اتِّخاذَهم بِطانةً. تكثيرُ سوادِ المسلمينَ عند القتالِ: وفي الآيةِ: مشروعيَّةُ تكثيرِ المسلِمينَ عندَ قيامِ النَّفِيرِ، ولو كان الناسُ في كفايةِ عددٍ، فالكثرةُ لها أثرٌ في نفوسِ المسلِمينَ بشَدِّ العزيمةِ وتقويةِ الهمَّةِ، ولها أثرٌ على الكفارِ ببَثِّ الخوفِ والرعبِ، وأكثرُ هزائمِ الجيوشِ معنويَّةٌ أكثرَ منها ماديَّةً. وقد روى ابنُ المُنذِرِ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: «تُكَثِّرُوا بأنفُسِكم ولو لم تُقاتِلُوا»، وبنحوِ هذا قال الضحّاكُ وابنُ جُرَيْجٍ وغيرُهما[[«تفسير الطبري» (٦/٢٢٤)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٤٨٢).]]. وفي الآيةِ: أنّ مَن كَثَّرَ سَوادَ المُجاهِدِينَ، فحَضَرَ معهم ولو لم يَغْزُ: أنّ له حُكْمَ المجاهِدِ في الأجرِ والثوابِ. وقال أنسُ بنُ مالكٍ: «رأيتُ يومَ القادِسِيَّةِ عبدَ اللهِ بنَ أمِّ مَكْتُومٍ الأعمى، وعليه دِرْعٌ يجُرُّ أطرافَها، وبيدِه رايةٌ سوداءُ، فقيل له: أليسَ قد أنزَلَ اللهُ عُذْرَكَ؟ قال: بلى! ولكنِّي أُكثِّرُ سَوادَ المسلِمِينَ بنفسي»[[«تفسير القرطبي» (٥/٤٠٤).]]. ورُوِيَ نحوُ هذا عن سهلِ بنِ سعدٍ، رواهُ الطبرانيُّ والبخاريُّ في «تاريخِه»، مِن حديثِ أبي حازمٍ عنه. وفي قولِه: ﴿تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أوِ ادْفَعُوا﴾ بيانٌ لمَراتبِ الجهادِ، وأنّ أعلاهُ المواجهةُ مع العدوِّ، وهو المُقاتَلةُ، وكلَّما كان المجاهدُ مِن العدوِّ أقرَبَ، كان في الأجرِ والثوابِ أعظَمَ، لأنّ اللهَ أمَرَهم أنْ يُقاتِلُوا، وإنْ أبَوْا أنْ يكونوا مِن ورائِهم يُكثِّرونَ سَوادَ المسلِمينَ، ويَحُوطُونَ حريمَهم لو تَقَهْقَرَ المسلِمونَ أو أحاطَ بهم عدوُّهم. جهادُ الطلبِ، وجهادُ الدفع: وأخَذَ بعضُهم مِن الآيةِ الإشارةَ إلى نوعَيِ الجهادِ: جهادِ الطلَبِ، وجهادِ الدَّفْعِ، وهذا نسبيٌّ وليس تقسيمًا مطلقًا في الآيةِ، لأنّ خروجَ النبيِّ ﷺ في غزوةِ أُحُدٍ دفعٌ لا طلبٌ، لأنّه عَلِمَ بقدومِ المشرِكِينَ إليه فتجهَّزَ لمُواجهتِهم وصدِّهم، وهذه الآيةُ نزَلَتْ في أُحُدٍ، ولكنَّ المتأخِّرينَ مِن وراءِ المُقاتِلينَ يُعَدُّونَ مُدافِعينَ بالنسبةِ للمُتقدِّمينَ عليهم، والمتقدِّمينَ يُعَدُّونَ مُقاتِلينَ وطالِبينَ بالنسبةِ للمُتأخِّرينَ عنهم. التفاضُلُ بين جهادِ الدفعِ والطلبِ: وجهادُ الطلبِ أعظمُ مِن جهادِ الدفعِ، لأنّ جهادَ الدفعِ لا يَفتقِرُ إلى نِيَّةٍ، ومشوبٌ بقصدِ حِياطَةِ الدُّنيا وحمايتِها مِن نفسٍ وأرضٍ ومالٍ وعِرْضٍ، وأمّا جهادُ الطلبِ، فالقصدُ فيه أكثرُ تجرُّدًا، لاشتراطِ النيةِ فيه لإعلاءِ كلمةِ اللهِ، ثمَّ إنّ أصلَ جهادِ الدفعِ مِن جِنْسِ الفِطْرةِ والحَمِيَّةِ الموجودةِ في جنسِ الحيوانِ، كان إنسانًا أو بهيمًا، فهو يدفعُ المعتديَ عليه، وأمّا جهادُ الطلبِ، فمِن خصائصِ الإنسانِ وأهلِ الإيمانِ، وفي جهادِ الدفعِ حمايةٌ للدُّنيا وصَوْنٌ لها، وفي جهادِ الطلبِ تركٌ للدُّنيا وبَذْلٌ لها، وقد يكونُ المجاهدُ يُجاهِدُ جهادَ الدفعِ وله أجرُ جهادِ الطلبِ وفضْلُهُ إذا كان يدفعُ عن مالِ غيرِهِ ونفسِهِ وعِرْضِهِ وأرضِه، فهذا في جهادِهِ جهادُ دفعٍ، وأجرُهُ أجرُ طلبٍ. وكِلا الجهادَيْنِ الدفعِ والطلبِ فَضْلُهما عندَ اللهِ عظيمٌ، والأجرُ الواردُ في الكتابِ والسُّنَّةِ لهما في الآخِرةِ يَدْخُلانِ فيه جميعًا، ولكنَّه عندَ التفاضُلِ، فالطلبُ أفضلُ مِن الدفعِ في الآخِرةِ، وجهادُ الدفعِ أوْجَبُ في الدُّنيا، وهذه المسألةُ مِن نوادِرِ المسائلِ التي يكونُ فيها النفلُ أعظَمَ مِن الفرضِ وهما مِن جنسٍ واحدٍ. وأخَذَ بعضُهم مِن قولِه: ﴿قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أوِ ادْفَعُوا﴾ الإشارةَ إلى عدمِ اشتراطِ النِّيَّةِ في الدفعِ، فذكَرَ القتالَ فقال: ﴿قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وما ذَكَرَ سبيلَ اللهِ في الدفعِ، ولعلَّ الأظهرَ: أنّ اللهَ ذكَرَ الدفعَ بعدَ المُقاتَلةِ في سبيلِ اللهِ عطفًا عليها، وتقديرُهُ: (أو ادْفَعُوا في سبيلِ اللهِ)، ولكنْ حذَفَ: (سبيل اللهِ) دفعًا للتكرارِ. ولا خلافَ أنّ جهادَ الدفعِ لا يفتقرُ إلى نِيَّةٍ، وإنّما قصدُ حمايةِ العِرْضِ والدمِ والنفسِ والمالِ كافٍ في ثُبُوتِ الأجرِ، ففي «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضي الله عنهما، قال: سمِعتُ النبيَّ ﷺ يقولُ: (مَن قُتِلَ دُونَ مالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ) [[أخرجه البخاري (٢٤٨٠) (٣/١٣٦)، ومسلم (١٤١) (١/١٢٤).]]. وعندَ أبي داودَ والنَّسائِيِّ وغيرِهما، مِن حديثِ سعيدِ بنِ زيدٍ: (مَن قُتِلَ دُونَ مالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، ومَن قُتِلَ دُونَ أهْلِهِ، أوْ دُونَ دَمِهِ، أوْ دُونَ دِينِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ) [[أخرجه أبو داود (٤٧٧٢) (٤/٢٤٦)، والترمذي (١٤٢١) (٤/٣٠)، والنسائي (٤٠٩٥) (٧/١١٦).]]. وأمّا جهادُ الطلبِ، فلا يُقبَلُ إلا بنيةٍ، ومَن قاتَلَ بلا نيةٍ، فمِيتَتُهُ جاهليَّةٌ، لِما في «الصحيحَيْنِ»: (مَن قاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [[أخرجه البخاري (١٢٣) (١/٣٦)، ومسلم (١٩٠٤) (٣/١٥١٣).]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب