الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أضْعافًا مُضاعَفَةً واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۝﴾ [آل عمران: ١٣٠]. كان أهلُ الجاهليَّةِ يتبايَعونَ إلى أجَلٍ، فإذا أعسَرَ المشتري، فإنهم يَزيدُونَ في الأجَلِ، ثمَّ يَزيدُونَ في الدَّيْنِ، ويَزيدُونَ في الدَّيْنِ كلَّما زادُوا في الأجَلِ، وهذا كما أنّه عندَهم في البيوعِ، كذلك يفعَلُونَهُ في القُرُوضِ. فأمّا البيوعُ: فمَن بايَعَ رجلًا إلى أجَلٍ بقيمةِ كذا، لَزِمَتْهُ القيمةُ في ذلك الأجَلِ، وإنْ طلَبَ الإمهالَ، فلا يُزادُ في القيمةِ، لأنّ ذلك رِبًا، فالزِّيادةُ جاءتْ على الثمنِ الباقي في ذِمَّةِ المشتري حتى وإنْ كان أصلُ العقدِ بيعًا، لأنّ القيمةَ تَحَوَّلَتْ إلى دَيْنٍ في الذِّمَّةِ، فيجوزُ التواطُؤُ على قيمةٍ للأجَلِ عندَ عقدِ البيعِ، ولا يجوزُ الزيادةُ في الدَّينِ، كلَّما زادَ الأجَلُ بعدَ العقدِ، كما كان يفعلُ أهلُ الجاهليَّةِ عندَ تبايُعِهم إلى أجَلٍ، فيَخْرُجونَ عن حدِّ المُباحِ عندَ العقدِ إلى الزِّيادةِ عليه، كلَّما زادَ الأجَلُ بعدَ العقدِ، فيَضُرُّ بالمُعسِرِ كلَّما تأخَّرَ، وقد أرشَدَ اللهُ في ذلك إلى الإنْظارِ وأثابَ عليه. فقد روى ابنُ جريرٍ وابنُ المُنذرِ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، قال: كانت ثقيفٌ تَدّايَنُ في بَنِي المُغيرةِ في الجاهليَّةِ، فإذا حَلَّ الأجَلُ، قالوا: نَزِيدُكم وتُؤخِّرونَ؟ فنزَلَتْ: ﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبا أضْعافًا مُضاعَفَةً﴾ [[«تفسير الطبري» (٦/٥٠)، و«تفسير ابن المنذر» (١/٣٧٨).]]. لأنّ الزيادةَ في ذلك إدخالٌ لعقدٍ على عقدٍ آخَرَ، وبيعُ البائعِ الأولِ سلعةً لا يَملِكُها، لحيازةِ المشترِي لها، فهو يَملِكُ قيمةً ليستْ مقبوضةً بيدِه ولا قادرًا على تسليمِها لو أرادَ إقراضَها لغيرِ المشترِي لسلعتِه التي عاقَدَهُ عليها، ثمَّ إنّه لا يَملِكُ السلعةَ بعينِها، فله حقُّ قيمةٍ في الذِّمَّةِ فحَسْبُ. روى ابنُ المُنذِرِ، عنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عن مجاهدٍ، قال: «كانوا يتبايَعُونَ إلى الأَجَلِ، فإذا حَلَّ الأجَلُ، باعُوا إلى أجَلٍ آخَرَ، فنزَلَتْ: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أضْعافًا مُضاعَفَةً﴾»[[«تفسير ابن المنذر» (١/٣٧٧).]]. زيادةُ الدَّيْنِ مقابِلَ الأجلِ: فإنْ طلَبَ الزيادةَ في المالِ لأجْلِ الزيادةِ في الأجَلِ، فذلك مُحرَّمٌ، لأسبابٍ، منها: الأولُ: لأنّه يَرى أنّه باعَ السلعةَ بيعًا جديدًا، وهو لا يَملِكُها كي يبيعَها، والسلعةُ ملكٌ للمشترِي لا للبائعِ الأولِ. الثـاني: لأنّه لو مَلَكَ السلعةَ، لم تكنْ مقبوضةً لدَيْهِ، ولا مالكًا للتصرُّفِ فيها، ولا قادرًا على تسليمِها لو أرادَ بيعَها على غيرِ المشترِي الأولِ لها. الثالثُ: لأنّ الحقَّ أنّ عقدَ الأجَلِ والزيادةَ عليه إنّما نزَلَ على حقِّه مِن المالِ الذي بيدِ المشترِي، وهذا الرِّبا الصريحُ. الـرابعُ: لأنّ المالَ الذي له في ذِمَّةِ المشترِي لم يكنْ في تصرُّفِهِ ولا في قبضتِه، وإنْ كان داخلًا في حقِّه في ذِمَّةِ غيرِه، كحالِ الميراثِ الذي لم يُقْسَمْ ولم يَقبِضْهُ الورثةُ ولو كان حقًّا لهم، لا يجوزُ لهم التبايُعُ فيه حتى يَقْبِضُوهُ ويَملِكُوا التصرُّفَ فيه. حكمُ التورُّقِ: واختلَفَ العلماءُ في عرضِ السلعةِ للبيعِ عاجلًا بكذا، وآجِلًا بأكثرَ: فـمـنـهـم مَن قـال: بالجوازِ. ومنهم مَن قال: بالمنعِ، لدخولِ الزيادةِ في الثمنِ على الأجَلِ، للشُّبْهةِ فيه مِن رِبا الجاهليَّةِ. وفي هذه المسألةِ كلامٌ طويلٌ، ليس هذا مَوْضِعَهُ. وهذا بخلافِ ما لو عرَضَ السلعةَ بقيمةٍ واحدةٍ آجِلةً وعاجلةً، فهذا جائزٌ عندَ الجميع. الزيادةُ في الدُّيُونِ: وأمّا الديونُ: فمَن أقرَضَ أحدًا مالًا، فليس له أنْ يأخُذَ على القرضِ زيادةً عندَ العقدِ ولا بعدَهُ لأَجْلِ الزيادةِ في الأَجَلِ أو لغيرِه، فكلُّ قرضٍ جَرَّ نفعًا فهو رِبًا، ولو كان رُبُعَ درهمٍ، أو كان مِن غيرِ جنسِ الدَّيْنِ، كمَن يُقرِضُ دَراهِمَ ويطلُبُ الدراهمَ وفوقَها شاةً أو أرضًا أو ثمرًا، فهذا ربًا بالاتِّفاقِ. وقولُه تعالى: ﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبا أضْعافًا مُضاعَفَةً﴾ نهيٌ واصفٌ للحالِ التي كان عليها أهلُ الجاهليَّةِ، وفيه إشارةٌ إلى أنّ الرِّبا يَعْظُمُ إثمًا بمقدارِ المضاعَفةِ في أخْذِهِ، فالضِّعفانِ أعظَمُ مِن الضِّعْفِ، وكلَّما زادَ التضعيفُ، زادَ التأثيمُ، وليس في الآيةِ إشارةٌ إلى تهوينِ الرِّبا في غيرِ الضِّعْفِ، فضلًا عن جوازِه فيما دونَ ذلك، وقد رُوِيَ في الخبرِ أنّ درهمَ الرِّبا أعظمُ مِن الزِّنى، وله طرقٌ مرفوعًا وموقوفًا ومقطوعًا، وإنْ كانت ضعيفةً، فإنّ معناهُ صحيحٌ، وليس هذا تهوينًا للزِّنى، بل هو تعظيمٌ للرِّبا. وقد تقدَّمَ الكلامُ حولَ الرِّبا وشيءٍ مِن أحكامِه في سورةِ البقرةِ عندَ آياتِ الرِّبا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب