الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿وإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ ۝فَلَمّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكُمْ بَلْ أنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ۝ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها ولَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنها أذِلَّةً وهُمْ صاغِرُونَ ۝﴾ [النمل: ٣٥ ـ ٣٧]. لمّا جاء كتابُ سليمانَ إلى مَلِكةِ سبأٍ وقرَأَتْه، أرسَلَتْ بكتابٍ إليه تَسْتَمِيلُهُ لكفِّ ما يُرِيدُه، مِن لَحاقِها به، وخضوعِها لله، ونزولِها تحتَ حُكْمِه، وأرادتْ أن تَختبِرَ صِدْقَ دعْواه: هل هو صاحبُ دُنْيا، فتُسكِّنَهُ الهديَّةُ ـ لأنّ صاحبَ الدُّنيا إنْ جاءه ما يُريدُ، سكَنَ طمعُه، لتحقُّقِ مقصودِهِ ـ أو صاحبُ دِينٍ ومقصودُهُ عبادةُ اللهِ وحدَه؟ كما رُوِيَ عن ابنِ عبّاسٍ أنّه قال: بعَثَتْ إليه بوصائِفَ ووُصَفاءَ، وألبسَتْهُمْ لِباسًا واحدًا، حتى لا يُعرَفَ ذكَرٌ مِن أُنثى، فقالتْ: إنْ زَيَّلَ بينَهم حتى يَعرِفَ الذَّكَرَ مِن الأُنثى، ثمَّ ردَّ الهديَّةَ، فإنّه نبيٌّ، وينبغي لنا أنْ نترُكَ مُلْكَنا، ونتَّبِعَ دِينَه، ونَلحَقَ به[[«تفسير الطبري» (١٨/٥٣).]]. وقال ابنُ زيدٍ: إنّها قالتْ: إنّ هذا الرجلَ إنْ كان إنّما هِمَّتُهُ الدُّنيا، فسنُرْضِيه، وإنْ كان إنّما يُرِيدُ الدِّينَ، فلن يَقبَلَ غيرَهُ[[«تفسير الطبري» (١٨ /٥٤).]]. حُكْمُ قَبُولِ الهديَّةِ التي يُرادُ منها صَرْفٌ عن الحقِّ: ولمّا جاءتِ الهديَّةُ سليمانَ، رَدَّها ولم يَقْبَلْها، لأنّ اللهَ لم يَبعَثْهُ جابيًا للمالِ باحثًا عنه، وإنّما مريدًا للناسِ العِبادةَ واستسلامَهُمْ للهِ، لا له. وفي هذه الآيةِ: دليلٌ على عدمِ جوازِ قَبُولِ العالِمِ والمُصلِحِ الهديَّةَ إنْ كان مُهدِيها يُريدُ بها استمالةَ المُصلِحِ إلى ضلالِهِ أو إسكاتَهُ عنه، فإنّ النفوسَ مجبولةٌ على حُبِّ مَن أحسَنَ إليها، وسليمانُ لم يَرُدَّ هديَّةَ مَلِكةِ سبأٍ إلاَّ لأنّها جاءتْ بعدَ كتابِهِ إليها بالدخولِ في الإسلامِ. ومَن كان قائمًا بأمرِ اللهِ، منابِذًا للكفرِ، رافعًا رايةَ الإصلاحِ: لا يجوزُ له قَبولُ هدايا المُعانِدينَ، خشيةَ كَسْرِ نفسِه وسكونِها. ونظرُ العالِمِ إلى حالِ المُهْدِي عندَ بَذْلِ الهديَّةِ واجبٌ، فإنّ أحوالَ المُهدِينَ تَنطوِي تحتَها مَقاصدُهم، ومَقامُ العالِمِ ليس كمَقامِ غيرِه، فمِن الناسِ مَن يبذُلُ الهديَّةَ حبًّا في الإسلامِ وأهلِه، ومنهم مَن يبذُلُها كُرْهًا لهم فيَراهم شرًّا لا يُدفَعُ إلاَّ بالمالِ، وإهداءُ المالِ ليس عَلامةً على المودَّةِ في كلِّ حالٍ. وقد يُبذَلُ المالُ وتُهدى الهديَّةُ ويَقصِدُ به قابلُها تأليفًا لقلبِ المُهدِي، لا رغبةً في الدُّنيا، كما قَبِلَ النبيُّ ﷺ هدايا الملوكِ كالمُقَوْقِسِ وغيرِه. وقد تقدَّمَ الكلامُ على أخذِ الأَجْرِ على نشرِ الخيرِ وقَبُولِ الهدايا والعطايا عليه، عندَ قولِهِ تعالى: ﴿وياقَوْمِ لا أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إنْ أجْرِيَ إلاَّ عَلى اللَّهِ وما أنا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ ولَكِنِّي أراكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ۝﴾ [هود: ٢٩].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب