الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿وقالُوا مالِ هَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي فِي الأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ۝﴾ [الفرقان: ٧]. في هذه الآيةِ: ما كان عليه النبيُّ ﷺ وسائرُ الأنبياءِ مِن مخالَطةِ الناسِ وفِعْلِ ما يَفعلونَ، وعدمِ الترفُّعِ عمّا هم عليه مِن مَلْبَسٍ ومأكلٍ ومَشْرَبٍ ومكْسَب، وأنّه لا يجوزُ لِمَن سلَك طريقَ الأنبياءِ أنْ يَتَّخِذَ مِن الدِّينِ سُلَّمًا إلى دنياه، فيَتخِذَ جاهًا ومالًا وسلطانًا لنفسِه، ولمّا كان كفارُ قريشٍ أصحابَ دُنيا وحُبٍّ للسُّؤْدَدِ والعُلُوِّ والجاهِ، لم يسلِّموا للنبيِّ ﷺ، لكونِه يَدْعوهم إلى اتِّباعِه وهو مِثلُ الناسِ في مأكلِه ومَشْرَبِه ومَمْشاه، وإنّما لم يجعَلْه اللهُ عاليًا في مالِه وسلطانِه عليهم، لأنّهم سيُؤمِنونَ طمعًا لا صِدْقًا، وخوفًا ورهبةً لا رغبةً ويقينًا، ثمَّ إنّ ذلك سيُتَّخَذُ سُنَّةً مِن بعدِه لأتباعِه، أنْ يَطلُبوا الدُّنيا والعلوَّ والسُّلْطانَ بالدِّينِ، فيُصبِحُ الدِّينُ سُلَّمًا لمُبتغِي الدُّنيا لا لمُبتغي الآخِرةِ، ويَدخُلُه كلُّ صاحبِ طمعٍ، ويحرَّفُ الدِّينُ لتُحَقَّقَ الغاياتُ، وكلُّ سلطانٍ وصاحبِ جاهٍ يَتَّخِذُ النبيَّ ﷺ له أُسوةً في قصدِ المالِ والشرَفِ. والأصلُ: أنّ النَّفْسَ إنِ امتلأتْ مِن الدُّنيا، لم يبقَ للدِّينِ شيءٌ، وقد جعَل اللهُ فيها مِن كلِّ واحدٍ نصيبًا، ونصيبُ الدِّينِ هو الأكبرُ. ويُستحَبُّ للعلماءِ ألاَّ يَخرُجوا عن عاداتِ الناسِ ما لم تُخالِفْ أمرَ اللهِ، فيكونونَ مِثلَهم في مَلْبَسِهم ومَشْرَبِهم ومَأْكَلِهم ومَسْكَنِهم ومَمْشاهم وقضاءِ حوائجِهم، وألاَّ يَتكلَّفوا حالًا تميِّزُهم عنهم، فلا يُوجَدُ في الإسلامِ زِيٌّ يُسمّى زِيَّ العلماءِ، ولا لِباسٌ يُسمّى لِباسَ الصالحِين، وإنّما الذي فيه زِيُّ المُسلِمينَ ولِباسُهم، فهم فيه سواءٌ، ومَن خرَج عن هذا اللِّباسِ هو الذي امتاز عن المُسلِمينَ بالمخالَفةِ، كمَن يَلبَسُ الحريرَ والذهبَ مِن الرجالِ، ولِباسَ الشُّهْرةِ والمُسْبَلَ مِن الثيابِ، وقد كان النبيُّ ﷺ يَلبَسُ كما يَلبَسُ قومُه: عمامةً وإزارًا ورِداءً، وربَّما ثوبًا وقميصًا وجُبَّةً، ويَتخِذُ لونًا كألوانِهم، وحذاءً كأحذيتِهم، ومَرْكَبًا كمَراكِبِهم، ومَسْكَنًا مِثلَهم، ويَقضي حاجتَهُ وحاجةَ أهلِه كما يَقضي الناسُ حاجتَهم، وهذا هَدْيُ جميعِ الأنبياءِ مِن قبلِه، كما قال تعالى: ﴿وما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلاَّ إنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ ويَمْشُونَ فِي الأَسْواقِ وجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ وكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ۝﴾ [الفرقان: ٢٠]. وقد جعَلَ اللهُ هذا التفاضُلَ بينَ الخَلْقِ: رفيعٌ ووضيعٌ، وقويٌّ وضعيفٌ، وغنيٌّ وفقيرٌ، ومَلِكٌ ومملوكٌ، وسيِّدٌ وعبدٌ ـ فتنةً، ليستْ بذاتِها حقًّا ولا باطلًا، وإنّما الذي يُميِّزُ الحقَّ مِن الباطلِ تمييزُهما بنفسَيْهما، فالحقُّ حقٌّ بنفسِه، فقد يكونُ مع عبدٍ وقد يكونُ مع سيِّدٍ، وقد يكونُ مع رفيعٍ وقد يكونُ مع وضيعٍ، قال عِكْرِمةُ في قولِه تعالى: ﴿وجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ﴾ [الفرقان: ٢٠]: هو التفاضُلُ في الدُّنْيا والقُدْرةِ وقهرِ بعضِكم لبعضٍ، فهي الفتنةُ التي قال اللهُ: ﴿وكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ۝﴾ [الفرقان: ٢٠] [[«تفسير ابن أبي حاتم» (٨ /٢٦٧٥).]] فهي فتنةٌ وابتلاءٌ للتمايُزِ، وتحقيقِ سُنَّةِ التدافُعِ، وتركيبِ منظومةِ الكونِ ليستقيمَ أمرُه، فإنّه لا يصحُّ كونٌ الخلقُ فيه مِن جنسٍ ونوعٍ واحدٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب