الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿وقالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذا القُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: ٣٠].
اشتكى النبيُّ ﷺ لربِّه مِن هَجْرِ قومِه للقرآنِ، وعدمِ أخذِهم له، مع كونِهِ كلامَ ربِّهم الذي خلَقَهم.
هَجْرُ القرآنِ وأنواعُه:
وهجرُ القرآنِ هو تركُهُ وعدمُ الاعتبارِ به قراءةً وتدبُّرًا وعملًا، وأعظَمُ مِن ذلك إذا تَبِعَ هجرَ القرآنِ عُدْوانٌ عليه بوصفِهِ بالسِّحْرِ والخُرافةِ، أو إهانتِهِ بتمزيقِهِ ورميِه، وهكذا كانتْ تَفْعَلُ قريشٌ، حيثُ هجَروه وكفَروا به، وقالوا فيه الباطلَ، ليَصُدُّوا الناسَ عنه، فهم قد زادُوا على مجرَّدِ تركِه في أنفُسِهم قولَ الباطلِ فيه، ليترُكَهُ غيرُهم فيَصُدُّوا الناسَ عنه، كما قال تعالى عنهم: ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ والغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: ٢٦].
وفي قولِه تعالى: ﴿اتَّخَذُوا هَذا القُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾، قال مجاهدٌ: يقولونَ: هو سِحْرٌ[[«تفسير الطبري» (١٧ /٤٤٣)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٨ /٢٦٨٧).]]، وقال النخَعيُّ: قالوا فيه غيرَ الحقِّ[[«تفسير الطبري» (١٧ /٤٤٣)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٨ /٢٦٨٨).]]، وقال ابنُ زيدٍ: لا يُريدونَ أنْ يَسْمَعوه[[«تفسير الطبري» (١٧ /٤٤٤)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٨ /٢٦٨٨).]].
وهجرُ القرآنِ على مَراتِبَ وأنواعٍ ثلاثةٍ:
النوعُ الأولُ: هجرُ قراءتِه وتلاوتِه:
وتُشرَعُ قراءةُ القرآنِ لمَن يَحْفَظُه ومَن لا يَحْفَظُه، والقرآنُ شديدُ التفلُّتِ أكثَرَ مِن غيرِه مِن الكلامِ، وقد جعَلَ اللهُ فيه خَصلتَيْنِ مُتقابلتَيْنِ، أنّ مَن أقبَلَ على القرآنِ أقبَلَ عليه، ومَن أدبَرَ عنه أدبَرَ عنه:
فالأُولى: أنّ اللهَ جعَل حِفْظَهُ أسهَلَ مِن غيرِه لمَن حَسُنَتْ نيَّتُه وسَلِمَ قصدُه، وقد قال تعالى: ﴿ولَقَدْ يَسَّرْنا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: ١٧].
والثـانيةُ: أنّ نِسْيانَه أسرَعُ مِن غيرِه مِن الكلامِ المحفوظِ.
فقد جعَل اللهُ إقبالَهُ سهلًا يسيرًا لقاصدِه، وإدبارَهُ سريعًا عن المُعرِضِ عنه، فلا يَبقى في قلبِ مَن زهِد فيه ورغِب عنه، كما قال ﷺ: (بِئْسَما لأَحَدِهِمْ يَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ، اسْتَذْكِرُوا القُرْآنَ، فَلَهُوَ أشَدُّ تَفَصِّيًا مِن صُدُورِ الرِّجالِ، مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِها)، رواهُ الشيخانِ مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ[[أخرجه البخاري (٥٠٣٢)، ومسلم (٧٩٠).]].
وفي الصحيحينِ أيضًا، عن أبي موسى الأشعريِّ مرفوعًا: «تَعاهَدُوا هَذا القُرْآنَ، فَوالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَهُوَ أشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإبِلِ فِي عُقُلِها» [[أخرجه البخاري (٥٠٣٣)، ومسلم (٧٩١).]].
ولمّا كانتِ المَعاصي مِن الإعراضِ عنه ولو إعراضَ عملٍ، فإنّ القرآنَ يُعرِضُ عن صاحِبِه بمقدارِ هجرِه للعملِ به، كما روى ابنُ أبي شَيْبةَ، عن الضَّحّاكِ، قال: ما تَعَلَّمَ رَجُلٌ القُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ إلاَّ بِذَنْبٍ، ثمَّ قرأ الضَّحّاكُ: ﴿وما أصابَكُمْ مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠]، ثمَّ قال الضَّحّاكُ: وأَيُّ مُصِيبَةٍ أعْظَمُ مِن نِسْيانِ القُرْآنِ؟![[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٢٩٩٩٦).]].
ومَن قرَأ القرآنَ لنفسِه، فلا يجبُ عليه أن يَسمَعَه مِن غيرِه، لكنْ يُستحَبُّ له ذلك ويُسَنُّ، لأنّ للأُذُنِ حقًّا كما أنّ للِّسانِ والقلبِ حقًّا، وقد كان النبيُّ ﷺ يَفعلُ ذلك، كما روى الشيخانِ، مِن حديثِ عبدِ اللهِ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (اقْرَأْ عَلَيَّ)، قالَ: قُلْتُ: أقْرَأُ عَلَيْكَ وعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قالَ: (إنِّي أشْتَهِي أنْ أسْمَعَهُ مِن غَيْرِي)، قالَ: فَقَرَأْتُ النِّساءَ حَتّى إذا بَلَغْتُ: ﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: ٤١]، قالَ لِي: (كُفَّ ـ أوْ أمْسِكْ ـ)، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفانِ[[أخرجه البخاري (٥٠٥٥)، ومسلم (٨٠٠).]].
أدْنى الزمنِ الذي يُشرَعُ فيه خَتْمُ القرآنِ وأَعْلاه:
أدْنى الزمنِ الذي يُشرَعُ فيه خَتْمُ القرآنِ ثلاثةُ أيامٍ، ونقَلَ ابنُ حزمٍ اتِّفاقَهم على جوازِ الخَتْمِ في ثلاثةِ أيامٍ[[«مراتب الإجماع» (ص٢٥١).]]، وإنّما خلافُهم في دونِ الثلاثِ على قولَيْنِ:
والواردُ: النهيُ عن قراءتِه في دونِ ثلاثٍ، كما في السُّننِ، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو مرفوعًا: (لا يَفْقَهُ مَن قَرَأَ القُرْآنَ فِي أقَلَّ مِن ثَلاثٍ) [[أخرجه أحمد (٢ /١٦٤)، وابن ماجه (١٣٤٧)، وأبو داود (١٣٩٤)، والترمذي (٢٩٤٩).]].
وصحَّ عن ابنِ مسعودٍ قولُه: «اقرَؤُوا القرآنَ في سَبْعٍ، ولا تَقْرَؤوهُ في أقلَّ مِن ثلاثٍ»، رواهُ سعيدٌ[[التفسير من «سنن سعيد بن منصور» (١٤٦).]].
وكَرِهَ ذلك معاذُ بنُ جبلٍ، كما رواهُ أبو عُبَيْدٍ عنه[[أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص١٨٠)، وعبد الرزاق في «مصنفه» (٥٩٥٠)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨٥٧٧).]].
وذلك أنّ مَن قرَأَهُ في أقلَّ مِن ثلاثٍ، لم يَعقِلْ غالبًا ما قرَأَ، ففوَّت التدبُّرَ والتأمُّلَ، وحتى لا يَغلِبَ عليه حبُّ التكثُّرِ بإقامةِ الحروفِ على إقامةِ المعاني، وحتى تأخُذَ النَّفْسُ نصيبَها مِن القرآنِ خشوعًا وخضوعًا، فإنّ النَّفْسَ لا تخشعُ على الحقيقةِ إلاَّ إذا فَهِمَتِ المعانيَ ـ وأمّا خشوعُها بلا فهمٍ للمعنى، فغالبًا يكونُ لأجلِ صوتِ القارئِ، فإنْ قرأه بالتحزينِ، حَزِنَ مَن لم يَفهمِ المعنى، وإنْ قرَأ بالتغنِّي، وجَدَ في نفسِه نشوةً ـ ويجدُ السامعُ خشوعًا ولو لم يَفهمِ المعنى، لأثرِه في طردِ الشياطينِ ووساوسِ النفسِ وكونِه شفاءً لِما في الصدورِ، ولكنَّ هذا الأثرَ يزولُ غالبًا إنْ ترَك القراءةَ، أمّا فهمُ مَعانيه، فتُورِثُ في القلبِ خضوعًا وخشوعًا وإيمانًا يدومُ في القلبِ ما دام فيه ذلك المعنى حاضرًا.
وذهَبَ بعضُ السلفِ: إلى جوازِ قراءتِهِ دونِ ثلاثٍ، وبه عمِل بعضُهم، كعثمانَ وتميمٍ الداريِّ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ وأبي بكرِ بنِ عيّاشٍ ومنصورِ بنِ زاذانَ ويحيى بنِ سعيدٍ القَطّانِ، كانوا: يَختِمونَ كلَّ يومٍ[[ينظر: «مختصر قيام الليل» للمروزي (ص١٥٧)، و«التبيان في آداب حملة القرآن» (ص٥٩ ـ ٦١)، و«تحفة الأحوذي» (٨ /٢٧٢ ـ ٢٧٣).]]، وصحَّ عن مجاهدٍ والشافعيِّ: تخصيصُ رمضانَ بالخَتْمِ فيه كلَّ يومٍ، فيَختِمُ مجاهدٌ مرَّةً، والشافعيُّ مرَّتَيْنِ، رواهُ عن مجاهدٍ ابنُ أبي داودَ[[«التبيان في آداب حملة القرآن» (ص٦٠).]]، وعن الشافعيِّ رواهُ الرَّبيعُ، وأسنَدَه عنه البيهقيُّ[[«مناقب الشافعي» (٢ /١٥٩).]]، ورُوِيَ عن أبي حنيفةَ نحوُه[[«تاريخ بغداد» (١٥ /٤٨٤)، و«سير أعلام النبلاء» (٦ /٤٠٠).]].
وكان ابنُ المسيَّبِ يختمُ في ليلتَيْنِ[[«مختصر قيام الليل» للمروزي (ص١٥٧).]]، وكان الأسودُ بنُ يزيدَ يختمُهُ في رمضانَ كلَّ ليلتَيْنِ[[«الطبقات الكبرى» (٦ /٧٣)، و«سير أعلام النبلاء» (٤ /٥١).]].
والأفضلُ: عدمُ الخَتْمِ دونَ ثلاثٍ إلاَّ في الأزمنةِ الفاضلةِ كالعَشْرِ الأخيرِ مِن رمضانَ، والناسُ يتفاوتونَ في مقدارِ ذكائِهم وقُدْرتِهم على التدبُّرِ والتأمُّلِ، ولكنَّ الغالبَ أنّ مَن قرَأ دونَ ثلاثٍ، فاتَهُ كثيرٌ من معاني القرآنِ أو أكثرها، وإذا كان السلفُ، وهم مَن هم في الفصاحةِ والبيانِ، ونزَل القرآنُ على لسانِهم، يذهبُ أكثرُهم إلى عدمِ القراءةِ دونَ ثلاثٍ، فغيرُهم في الزمنِ المتأخِّرِ مع شدةِ العُجْمةِ وضَعْفِ اللسانِ ـ أولى بالتزامِ ذلك.
ويُسَنُّ ألاَّ يَتجاوزَ في قراءةِ القرآنِ الأربعينَ، فإنْ تجاوَزَها، كُرِهَ له ذلك، وهو أقصى حدٍّ ثبَت فيه الخبرُ، قال أحمدُ: «أكثرُ ما سَمِعتُ أنْ يَختِمَ القرآنَ في أربعينَ»[[«مسائل الإمام أحمد» رواية أبي داود (ص١٠٣)، و«المغني» (٢ /٦١١).]].
وقد ثبَت في «الصحيحَيْنِ»، أنّ النبيَّ ﷺ قال لعبدِ اللهِ بنِ عمرٍو: (اقْرَأِ القُرْآنَ فِي شَهْرٍ)، قال: إنِّي أجِدُ قُوَّةً، حَتّى قالَ: (فاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ ولا تَزِدْ عَلى ذَلِكَ)[[أخرجه البخاري (٥٠٥٤)، ومسلم (١١٥٩).]].
وقد روى أبو داودَ، أنّ عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ: كَمْ يُقْرَأُ القُرْآنُ؟ قالَ: (فِي أرْبَعِينَ يَوْمًا)، ثُمَّ قالَ: (فِي شَهْرٍ)، ثُمَّ قالَ: (فِي عِشْرِينَ)، ثُمَّ قالَ: (فِي خَمْسَ عَشْرَةَ)، ثُمَّ قالَ: (فِي عَشْرٍ)، ثُمَّ قالَ: (فِي سَبْعٍ)، لَمْ يَنْزِلْ مِن سَبْعٍ[[أخرجه أبو داود (١٣٩٥).]].
نِسْيانُ القرآنِ:
لا يَختلِفُ العلماءُ: أنّ نِسْيانَ القرآنِ إنْ كان عن إعراضٍ وصدٍّ زهدًا فيه ورغبةً عن العملِ به: أنّ ناسيَهُ يأثمُ بذلك، وأنّ نِسيانَهُ إن كان مِن غيرِ قصدٍ، لا يأثمُ به صاحبُه، كمَن يَنساهُ لكِبَرٍ وهَرَمٍ أو مصيبةٍ ونازلةٍ أفقَدَتْهُ حضورَ ذهنِه، ونقَلَ ابنُ رشدٍ المالكيُّ الإجماعَ على أنّ مَن نَسِيَ القرآنَ لاشتغالِه بعلمٍ واجبٍ أو مندوبٍ، فهو غيرُ مأثومٍ[[«مسائل ابن رشد» (ص٦٩١).]].
وقد اختلَفَ العلماءُ في نسيانِ القرآنِ تهاونًا وكسلًا: هل يأثمُ به صاحبُه؟ على قولَيْنِ:
القولُ الأولُ: قال قومٌ بإثمِ ناسِيهِ، إلى هذا ذهَبَ جماعةٌ مِن أصحابِنا، وبه قال ابنُ تيميَّةَ، وهو مذهبُ الشافعيَّةِ، ومنهم مَن جعَل ذلك كبيرةً كالرافعيِّ، ومِثْلُه ابنُ حجرٍ الهيتميُّ في «الزَّواجرِ»[[«الزواجر، عن اقتراف الكبائر» (١/١٩٩).]]، ونقَل العلائيُّ عن النوويِّ ذلك، ولعلَّه أراد سكوتَه عن كلامِ الرافعيِّ، فجعَلَهُ إقرارًا، والنوويُّ أعَلَّ الحديثَ الذي استُدِلَّ به على كونِه كبيرةً، ولم يجعلْ بعضُ الشافعيَّةِ هذا قولًا للنَّوويِّ كالبُلْقَيْنِيِّ والزَّرْكَشيِّ[[ينظر: «الزواجر، عن اقتراف الكبائر» (١ /٢٠٠ ـ ٢٠١).]].
واحتَجَّ مَن جعَلَهُ كبيرةً بما رواهُ أبو داودَ والترمذي، عن أنسٍ مرفوعًا: (عُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فَلَمْ أرَ ذَنْبًا أعْظَمَ مِن سُورَةٍ مِنَ القُرْآنِ أوْ آيَةٍ أُوتِيَها رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَها) [[أخرجه أبو داود (٤٦١)، والترمذي (٢٩١٦).]].
ورَوى أيضًا عن سعدِ بنِ عُبادةَ مرفوعًا: (ما مِنِ امْرِئٍ يَقْرَأُ القُرْآنَ ثُمَّ يَنْساهُ، إلاَّ لَقِيَ اللهَ عزّ وجل يَوْمَ القِيامَةِ أجْذَمَ) [[أخرجه أبو داود (١٤٧٤).]].
وحديثُ أنسٍ مُنكَرٌ، أنكَرَه ابنُ المَدِينيِّ والبخاريُّ[[سنن الترمذي (٢٩١٦).]]، وحديثُ سعدٍ ضعيفٌ، لانقطاعِه، وفيه يزيدُ بنُ أبي زيادٍ، وفيه كلامٌ معروفٌ، وقد ضعَّف الحديثَ الدارقطنيُّ[[«علل الدارقطني» (٢٥٨٣).]] وابنُ عبدِ البَرِّ[[«التمهيد» (١٤ /١٣٦).]].
والأحاديثُ الواردةُ في تأثيمِ ناسِي حِفْظِ القرآنِ معلولةٌ، وإنّما عامَّةُ السلفِ على النهيِ عن ذلك والتشديدِ فيه، وصحَّ عن أبي العاليةِ ـ وهو مِن كبارِ التابعِين ـ: «كنّا نَعُدُّ مِن أعظَمِ الذُّنوبِ أن يتعلَّمَ الرجُلُ القرآنَ ثمَّ ينامَ عنه حتى يَنساه»[[أخرجه أحمد في «الزهد» (ص٢٤٥).]].
وعن ابنِ سِيرينَ في الذي يَنسى القرآنَ: كانوا يَكْرَهونَهُ ويقولونَ فيه قولًا شديدًا[[«فتح الباري» لابن حجر (٩ /٨٦).]].
وقد قال أحمدُ: «ما أشَدَّ ما جاء فيمَن حَفِظَهُ ثمَّ نَسِيَه»[[«مسائل الإمام أحمد» رواية أبي داود (ص١٠٣)، و«الفروع» لابن مفلح (٢ /٣٨٢).]].
القولُ الثاني: قال قومٌ: إنّ ناسيَ حروفِ القرآنِ يُكرَهُ له ذلك، ولكنَّه لا يأثمُ ما دام عاملًا به ولم يترُكْ حدودَه، وحمَلُوا النِّسْيانَ الواردَ في الأحاديثِ على هجرِ العملِ به، وممَّن قال بهذا: ابنُ عُيَيْنَةَ، وأبو يوسُفَ صاحبُ أبي حنيفةَ، وأبو شامةَ شيخُ النوويِّ، وقد سمّى اللهُ الإعراضَ عن القرآنِ وتركَ العملِ به نِسْيانًا، كما في قولِه تعالى: ﴿ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى ﴾ [طه: ١٢٤ ـ ١٢٦]، وفيه قال اللهُ: ﴿فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [الأنعام: ٤٤، والأعراف: ١٦٥]، أي: تَرَكوا، وقال: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧]، وقال تعالى: ﴿اليَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذا﴾ [الجاثية: ٣٤]، وقال: ﴿ولَقَدْ عَهِدْنا إلى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ [طه: ١١٥]، قال ابنُ عُيَيْنَةَ: «ليس مَن اشتهى حِفْظَهُ وتفلَّتَ منه بِناسٍ له إذا كان يحلِّلُ حلالَه ويحرِّمُ حرامَه، قال: ولو كان كذلك، ما نَسِيَ النبيُّ شيئًا منه، قال اللهُ: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إلاَّ ما شاءَ اللَّهُ﴾ [الأعلى: ٦ ـ ٧]، وقد نَسِيَ رسولُ اللهِ منه أشياءَ، وقال: (ذَكَّرَنِي هَذا آيَةً أُنْسِيتُها)»[[أخرجه ابن عبد البر في «الاستذكار» (٨ /٥٨).]].
وحمَل أبو يوسفَ معنى النِّسْيانِ الواردِ في وعيدِ ناسِي القرآنِ: على نِسْيانِ قراءتِه مِن المصحفِ، فيَنْسى عِلمَ القراءةِ وحروفَ العربِ.
النوعُ الثاني مِن الهجرِ: هجرُ تدبُّرِ مَعانيهِ وأحكامِه:
والمقصودُ مِن إنزالِ القرآنِ: تدبُّرُه وتأمُّلُه للعملِ بما فيه، ومَن شغَلَتْه حروفُ القرآنِ عن حدودِهِ فضَيَّعَها، كان ذلك أظهَرَ القوادحِ في نِيَّتِهِ وقصدِه، وأنّه يطلُبُه لغيرِ اللهِ، ومَن عَمِلَ بالقرآنِ ولم يَعرِفْ حروفَهُ خيرٌ ممَّن يُقِيمُ الحروفَ وهو مضيِّعٌ للحدودِ.
وقراءةُ القرآنِ مع عدمِ تدبُّرٍ مِن صفاتِ المُنافِقينَ، كما قال تعالى: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: ٨٢]، وتدبُّرُ القرآنِ يفتحُ القلبَ للحقِّ ويُرقِّقُهُ للاتِّباعِ، وعدمُ التدبُّرِ عَلامةٌ على الإعراضِ، ولا يُحرَمُ عبدٌ تدبُّرَ القرآنِ إلاَّ بذنبٍ، فيَقْسُو قلبُه به، ثمَّ يُعرِضُ عنه، فيكونُ ثقيلًا عليه، قال تعالى: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها ﴾ [محمد: ٢٤].
النوعُ الثالثُ: هجرُ العملِ بما فيه مِن أوامرَ وأحكامٍ:
وهو أعظَمُها وأشَدُّها، لأنّ المقصودَ مِن التلاوةِ والقراءةِ العملُ، فقد يَقْرَأُ القارئُ القرآنَ ولا يعملُ به، وقد يتدبَّرُ مَعانِيَهُ ويعرِفُ أحكامَهُ ويُعرِضُ عنها، وكلَّما كان الإنسانُ بالقرآنِ أعلَمَ، كان التكليفُ عليه أشَدَّ، والإعراضُ منه أكبَرَ، فإنّما يُؤاخَذُ العبدُ بتركِ ما عَلِمَ، لا بتركِ ما لم يَعلَمْ.
وهجرُ العملِ به على أنواعٍ كثيرةٍ: منها هجرُ الإيمانِ به، وهجرُ امتثالِ أوامرِهِ واجتنابِ نواهِيهِ، وهجرُ الحاكمِ والسُّلْطانِ والقاضي لأحكامِه وتعطيلُها، والقضاءُ بالهوى والرأيِ، وسَنُّ القوانينِ المُخالِفةِ له.
{"ayah":"وَقَالَ ٱلرَّسُولُ یَـٰرَبِّ إِنَّ قَوۡمِی ٱتَّخَذُوا۟ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ مَهۡجُورࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق