الباحث القرآني

سورةُ المؤمِنونَ مكيَّةٌ، وتَظهَرُ مكيَّتُها في مَعانِيها ودَلالاتِها، فغايتُها بيانُ وحْدانيَّةِ اللهِ بذِكْرِ آياتِه في خَلْقِه، كتدبيرِ الأكوانِ، وخَلْقِ الإنسانِ، وتسخيرِ الأنعامِ، وعاقبةِ الظالمينَ مِن الأُممِ السابقِين، تذكيرًا بعاقبةِ كفرِهم وعنادِهم، وأنّ مَن لَحِقَ بطريقِهم فنهايتُهُ كنهايتِهم. وقد صلّى النبيُّ ﷺ بالناسِ بمَكَّةَ، وقرَأَ بهذه السورةِ في صلاةِ الصُّبْحِ بالناسِ، كما روى مسلمٌ، عن عبدِ اللهِ بنِ السائبِ، قال: «صَلّى لَنا النَّبِيُّ ﷺ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ، فاسْتَفْتَحَ سُورَةَ المُؤْمِنِينَ، حَتّى جاءَ ذِكْرُ مُوسى وهارُونَ، أوْ ذِكْرُ عِيسى ـ شكَّ بعضُ الرُّواةِ ـ أخَذَتِ النَّبِيَّ ﷺ سَعْلَةٌ، فَرَكَعَ»[[أخرجه مسلم (٤٥٥).]]. قال تعالى: ﴿قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ ۝الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ۝﴾ [المؤمنون: ١ ـ ٢]. قدَّمَ اللهُ الخشوعَ في الصلاةِ على سائرِ صفاتِ المؤمِنينَ، لأنّ قوةَ إيمانِ الإنسانِ بمِقْدارِ خشوعِهِ في صلاتِه، وكأنّ ما يلي مِن صفاتٍ هي تَبَعٌ لهذه الصفةِ، فكاملُ الخشوعِ في الصلاةِ حاضِرُ القلبِ فيها: لا بدَّ أن يكونَ محقِّقًا لغيرِ ذلك مِن صفاتِ الخيرِ منها، كالإعراضِ عن اللَّغْوِ، وأداءِ الزكاةِ، وحِفْظِ الفُرُوجِ، ومراعاةِ الأمانةِ والعهدِ. معنى الخشوعِ: والخشوعُ هو السكونُ والذُّلُّ عندَ أوامرِ اللهِ وكلامِهِ هَيْبةً ورَهْبةً وتعظيمًا، كما قال تعالى في حالِ الظالِمِينَ: ﴿وتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ﴾ [الشورى: ٤٥]، ومِن ذلك سُمِّيَتِ الأرضُ خاشعةً: ﴿ومِن آياتِهِ أنَّكَ تَرى الأَرْضَ خاشِعَةً فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ﴾ [فصلت: ٣٩]، فحركةُ الجسمِ تُنافي خشوعَهُ، ومِثْلُها الحركةُ في الصلاةِ، فخشوعُ الشيءِ ثباتُهُ وسكونُهُ مع انكسارِهِ، كقولِه: ﴿خاشِعَةً أبْصارُهُمْ﴾ [القلم: ٤٣، والمعارج: ٤٤]. وبينَ الصلاةِ والخشوعِ تلازُمٌ، فلا تكتمِلُ الصلاةُ إلاَّ بخشوعٍ، ولا يكتمِلُ الخشوعُ إلاَّ مع الصلاةِ، كما قال تعالى: ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وإنَّها لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلى الخاشِعِينَ ۝﴾ [البقرة: ٤٥]، يعني: أنّ الصلاةَ ثقيلةٌ وكبيرةٌ على مَن لم يَخْشَعْ فيها. وممّا يُعِينُ العبدَ على الخشوعِ كثرةُ ذِكْرِ اللهِ، وقراءةُ القرآنِ بتدبُّرٍ وتأمُّلٍ، كما قال تعالى: ﴿ألَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ﴾ [الحديد: ١٦]، وبيَّنَ أنّ قسوةَ القلبِ بسببِ قراءتِه بلا تدبُّرٍ: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها ۝﴾ [محمد: ٢٤]، وكذلك فإنّ الذِّكرَ كلَّه والسجودَ مع حضورِ القلبِ يَزيدُ في الخشوعِ ويُقوِّيهِ، كما قال تعالى: ﴿ويَخِرُّونَ لِلأَذْقانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ۝﴾ [الإسراء: ١٠٩]. وقدَّمَ اللهُ الخشوعَ في سورةِ (المؤمِنونَ) على الحِفاظِ على الصلاةِ، مع أنّه لا يَخشَعُ في صلاتِهِ إلاَّ مَن حافَظَ عليها، لأنّ الخشوعَ هو المقصودُ مِن الصلاةِ، وليس حركةَ البَدَنِ بقيامٍ وركوعٍ وسجودٍ مجرَّدٍ. حُكْمُ الخشوعِ في الصلاةِ: والخشوعُ في الصلاةِ عظيمُ القَدْرِ، به رِفْعةُ العبدِ وبه وضْعُه، وهو قلبُ الصلاةِ ولُبُّها، وهو مَناطُ استحقاقِ الأجرِ فيها، فإنّه ليس للإنسانِ إلاَّ ما عقَلَ مِن صلاتِه، وقد روى أحمدُ، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَنَمَةَ، قال: رَأَيْتُ عَمّارَ بْنَ ياسِرٍ دَخَلَ المَسْجِدَ فَصَلّى، فَأَخَفَّ الصَّلاةَ، قالَ: فَلَمّا خَرَجَ، قُمْتُ إلَيْهِ، فَقُلْتُ: يا أبا اليَقْظانِ، لَقَدْ خَفَّفْتَ! قالَ: فَهَلْ رَأَيْتَنِي انْتَقَصْتُ مِن حُدُودِها شَيْئًا؟ قُلْتُ: لا، قالَ: فَإنِّي بادَرْتُ بِها سَهْوَةَ الشَّيْطانِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: (إنَّ العَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلاةَ ما يُكْتَبُ لَهُ مِنها إلاَّ عُشُرُها، تُسُعُها، ثُمُنُها، سُبُعُها، سُدُسُها، خُمُسُها، رُبُعُها، ثُلُثُها، نِصْفُها)[[أخرجه أحمد (٤ /٣٢١).]]. فجعَلَ النبيُّ ﷺ أجرَ الصلاةِ بمقدارِ خشوعِ المُصلِّي فيها، وفَهِمَ عمارُ بنُ ياسرٍ أنّ العِبْرةَ بحضورِ القلبِ، لا بمجرَّدِ طولِها. وعندَ الكلامِ على حُكْمِ الخشوعِ في الشرعِ، فلا بدَّ مِن الكلامِ عليه مِن جهتَيْنِ: الجهةُ الأُولى: حُكْمُهُ مِن جهةِ أصلِه: فأمّا أصلُه، فمختلَفٌ فيه، وفي ذلك روايتانِ عن أحمدَ، والأرجحُ: أنّ أصلَهُ مستحَبٌّ لا واجبٌ، وحكى النوويُّ الإجماعَ على عدمِ وجوبِهِ، وفيه نظرٌ، فقد قال بوجوبِهِ جماعةٌ، فهو روايةٌ عن أحمدَ، قال بها الغزاليُّ مِن الشافعيَّةِ، ورجَّحَها ابنُ حامدٍ وابنُ تيميَّةَ مِن الحنابلةِ، وجعَلَهُ الرازيُّ شرطَ صحةٍ. والصوابُ سُنيَّتُهُ مع جلالةِ فضلِه، وذلك أنّ الخشوعَ لو قيل بوجوبِهِ، لكان في ذلك مشقةٌ، إذْ لا يَسلَمُ أحدٌ حِينَها مِن إثمٍ، إذْ لا يَسلَمُ أحدٌ مِن سهوٍ يَتْبَعُهُ استرسالٌ عن عمدٍ بمقدارِ إيمانِ الإنسانِ، منهم مَن يقطعُهُ مِن أولِه، ومنهم مَن يأخُذُ منه لحظةً ومنهم لحظاتٍ، والقولُ بتأثيمِ أولئك أمرٌ دقيقٌ، لو كان، لم تترُكِ الشريعةُ التشديدَ فيه. ويَظهرُ أنّ نصوصَ الكتابِ والسُّنَّةِ جاءتْ ببيانِ فضلِ الخشوعِ، ولم تأتِ بألفاظِ الوعيدِ لتاركِه، فدَلَّ على قصدِ الفضلِ، ووجودِ الحرَجِ بالإيجابِ، ويَعْضُدُ ذلك قولُ عمرَ بنِ الخطّابِ: «إنِّي لأُجهِّزُ جيشي وأنا في الصلاةِ»، أخرَجَهُ ابنُ أبي شيبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٧٩٥١).]]، وهو صحيحٌ عنه، وعلَّقَهُ البخاريُّ في كتابِ الصلاةِ مِن «صحيحِه»، في بابِ تفكُّرِ الرجُلِ الشيءَ في الصلاةِ[[أخرجه البخاري معلقًا قبل حديث (١٢٢١).]]. وهذا مِن عُمَرَ لا يكونُ إلاَّ مع شيءٍ ولو يسيرًا مِن الاسترسالِ المقصودِ، ولو كان يُغالِبُ أصلَه، ومنه ما لا يَقْوى عليه ولا يشعُرُ به، وقد رُوِيَ: «أنّ عمرَ صلّى المغرِبَ فلَم يَقرأْ، فلمّا انصرَفَ، قالوا: يا أميرَ المؤمِنينَ، إنّك لم تَقرأْ؟! قال: إنِّي حَدَّثْتُ نَفْسِيَ وأَنا فِي الصَّلاةِ بِعِيرٍ وجَّهْتُها مِنَ المَدِينَةِ، فَلَمْ أزَلْ أُجَهِّزُها حَتّى دَخَلَتِ الشّامَ! ثمَّ أعادَ الصَّلاةَ والقِراءَةَ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٤٠١٢).]]. ورَوى مالكٌ بلاغًا عن عمرَ، قال: «إنِّي لأضطجِعُ على فِراشِي، فما يأتيني النَّوْمُ، وأقومُ إلى الصلاةِ فما تتوجَّهُ إليَّ القراءةُ، مِن اهتمامِي بأمرِ الناسِ»[[«شرح السُّنَّة» للبغوي (٣ /٢٥٧).]]. ورُوِيَ عنه: «إنِّي لَأَحْسُبُ جِزْيَةَ البَحْرَيْنِ وأَنا فِي الصَّلاةِ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٧٩٥٠).]]. وحكايةُ عمرَ ذلك عن نفسِهِ ليستْ في سياقِ ارتكابِ المحرَّمِ والتحدُّثِ به، وإنّما لبيانِ ما يُغلَبُ عليه وهو معذورٌ به ولو كان منه استرسالٌ فيه. بل إنّ بعضَ الأئمَّةِ يَرى أنّ الخاطِرةَ التي تَغلِبُ صاحِبَها ولو كانتْ تطولُ لو فكَّر بها، وتركُها يُشوِّشُ عليه: لا يجبُ عليه الخروجُ منها، كما نصَّ على ذلك الشاطبيُّ، فقال: «لا يجبُ على مَن ابتُلِيَ بالخاطرِ الخروجُ منه، إذا كان خروجُهُ يُشوِّشُ خاطرَهُ أكثَرَ». ويَبقى بعدَ هذا النَّظرُ في وجوبِ إعادةِ الصلاةِ أو استحبابِها أو سقوطِها. ومِن قرائنِ الفضلِ والاستحبابِ وعدمِ الوجوبِ: ما جاء في حديثِ عمارِ بنِ ياسرٍ السابقِ: «إنَّ العَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلاةَ ما يُكْتَبُ لَهُ مِنها إلاَّ عُشُرُها، تُسُعُها، ثُمُنُها، سُبُعُها...»[[سبق تخريجه.]]، فذكَرَ نُقْصانَ الأجرِ، ولم يذكُرْ لَحاقَ الوِزْرِ، ولو كان الفعلُ محرَّمًا، لَذَكَرَ الإثمَ، ولكنَّه بيَّنَ نُقْصانَ الأجرِ، لعدمِ التمامِ فيها، لا لارتكابِ محرَّمٍ. الجهةُ الثانيةُ: حُكْمُهُ مِن جهةِ أثرِه، فإنّ أثرَ الخشوعِ عظيمٌ على الإيمانِ، وأثرُ فقدِهِ كبيرٌ عليه كذلك على ما تقدَّمَ، فإنّ اللهَ لم يُقدِّمِ الخشوعَ على بقيَّةِ أوصافِ المؤمِنينَ إلاَّ لأثرِهِ عليه، وأنّ تفويتَهُ سببٌ لإطلاقِ اللِّسانِ باللَّغْوِ، وعدمِ حِفْظِ الفروجِ، وتضييعِ الزكاةِ، وتضييعِ الأماناتِ، وخَرْمِ العهودِ، فتركُ الخشوعِ المتسبِّبُ في ذلك يأثَمُ به صاحبُه، وإنْ لم نَقُلْ بوجوبِ أصلِ الخشوعِ، ولكنَّ القَدْرَ الذي يفحُشُ حتى يُفضِيَ إلى ضَعْفِ الإيمانِ، والابتلاءِ بالمحرَّماتِ، وتضييعِ الأماناتِ والعهودِ: محرَّمٌ، فيجبُ مِن الخشوعِ القَدْرُ الذي يَحفَظُ للعبدِ خشيةَ اللهِ، ويحُولُ بينَهُ وبينَ ما حَرُمَ، وهذا القَدْرُ ـ وإن تعسَّرَ على كثيرٍ مِن الناسِ تمييزُهُ في الكتابةِ وتحريرِ العِلمِ ـ إلاَّ أنّهم يستطيعونَ تمييزَهُ في العملِ والعبادةِ، فللصَّلاةِ أثرٌ على صاحِبِها بمقدارِ خشوعِهِ فيها، واللهُ أعلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب