الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وإنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ۝الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلاَّ أنْ يَقُولُوا رَبُّنا اللَّهُ ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومَساجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ولَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۝﴾ [الحج: ٣٩ ـ ٤٠]. في هذه الآيةِ: إشعارٌ للنبيِّ بالقتالِ لمّا أخرَجَهُ قومُهُ مِن مَكَّةَ ظُلْمًا وبغيًا، وهذه الآيةُ أولُ ما نزَلَ مِن آياتِ القتالِ، قال ابنُ عبّاسٍ: «لمّا خرَجَ النبيُّ ﷺ مِن مَكَّةَ، قال أبو بكرٍ: أخرَجُوا نبيَّهم، إنّا للهِ وإنّا إليه راجِعونَ، لَيَهْلِكَنَّ القومُ! فنزَلَتْ: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ الآيةَ، قال أبو بكرٍ: فعَلِمْتُ أنّه سيكونُ قتالٌ، قال ابنُ عبّاسٍ: وهي أولُ آيةٍ نزَلتْ في القتالِ»[[أخرجه أحمد (١ /٢١٦)، والترمذي (٣١٧١)، والنسائي (٣٠٨٥)، والطبري في «تفسيره» (١٦ /٥٧٤)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٨ /٢٤٩٦).]]. وبهذا قال عروةُ، أنّها أولُ آيةٍ نزَلَتْ في الجهادِ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٨ /٢٤٩٦).]]. وقد قال ابنُ زَيْدٍ: «أذِنَ لهم في قتالِهم، بعدَما عفا عنهم عَشْرَ سنينَ»[[«تفسير الطبري» (١٦ /٥٧٥)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٨ /٢٤٩٦).]]. وإنّما تأخَّر تشريعُ الجهادِ تلك المدةَ، لأنّ الصحابةَ كانوا في زمنِ ضَعْفٍ وقلةِ عددٍ، وكان الكافرونَ في موضعِ قوةٍ وبأسٍ، واللهُ لا يأمُرُ الناسَ بشيءٍ إلاَّ وهو مُقترِنٌ بأسبابٍ كونيَّةٍ ظاهرةٍ، ما لم يَجعَلِ اللهُ مِن ذلك إعجازًا لنبيٍّ مِن أنبيائِه، واللهُ لا يُرِيدُ ذلك في كلِّ أفعالِ الأنبياءِ، حتى لا يُصابَ أتباعُ الأنبياءِ بالوَهْنِ والضَّعْفِ مِن بعدِ موتِ أنبيائِهم، ولكنَّ اللهَ جعَلَ نصرَ الأنبياءِ مِن جنسِ نصرِ الصحابةِ، فذلك أدْعى لثَباتِهم وقوَّتِهم وشدةِ عزائمِهم بعدَ استخلافِهِ لهم بعدَهم. ويُؤخَذُ مِن تأخُّرِ نزولِ الآيةِ مع شِدَّةِ البأسِ والعذابِ على الصحابةِ: أنّه يجبُ على الناسِ عندَ تسلُّطِ عدوٍّ ظالِمٍ عليهم ألاَّ يَغلِبَ عليهم حظُّ أنفُسِهم بالتشفِّي والانتقامِ على النظرِ إلى عاقبةِ الدِّينِ، فإنّ للنفوسِ إقبالًا على الانتصارِ لنفسِها والانتقامِ مِن عدوِّها ولو هلَكَتْ. والواجبُ: النظرُ إلى عاقبةِ الحقِّ، ومدى قُدْرةِ العدوِّ على استئصالِهِ باستئصالِهم، فإنّهم ـ وإن كانوا قد باعوا أنفُسَهم للهِ ـ يجبُ أن يَعلَموا أنّ اللهَ استَوْدَعَهُمْ حِفْظَ دِينِه، فهم باعوا أنفُسَهم ولم يَبِيعُوا دِينَهُ ولا يَملِكونَ ذلك، بل يجبُ عليهم حِفظُهُ والتمكينُ له، وأن يتجرَّدُوا مِن الجُبْنِ فلا يتظاهَروا بالحِكْمةِ، وأن يتجرَّدوا مِن التهوُّرِ والعَجَلةِ والانتقامِ للنَّفْسِ فلا يتظاهَروا بالشجاعةِ، وقد يقَعُ في النفوسِ الصادقةِ حبٌّ عظيمٌ للحقِّ فتستعجِلُ الانتصارَ له، بل يجبُ عليها التجرُّدُ والوقوفُ عندَ أوامرِ اللهِ وحدودِه، والنظرُ إلى العواقبِ بتجرُّدٍ، كما تجرَّدَ الصحابةُ عندَما وجَدُوا مِن أنفسِهم حبًّا للحقِّ عظيمًا، فاستأذَنُوا للانتقامِ مِن عدوِّهم مِن أولِ يومٍ بمَكَّةَ، كما قال تعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أيْدِيَكُمْ﴾ [النساء: ٧٧]، ويُروى أنّه لمّا بايَعَ أهلُ يَثْرِبَ ليلةَ العَقَبةِ رسولَ اللهِ ﷺ، وكانوا نيِّفًا وثمانينَ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، ألا نَمِيلُ على أهلِ الوادي ـ يَعْنُونَ أهلَ مِنًى ـ لياليَ مِنًى فنَقتُلَهم؟ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: (إنِّي لَمْ أُومَرْ بِهَذا)[[«تفسير ابن كثير» (٥ /٤٣٤)، و«سيرة ابن هشام» (١ /٤٤٨).]]. وقولُه تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلاَّ أنْ يَقُولُوا رَبُّنا اللَّهُ﴾، بيَّنَ اللهُ فيه: أنّ المقصودَ بأولئك المظلومينَ الذين يُقاتَلونَ هم الذين أُخرِجوا مِن ديارِهم، وهي مَكَّةُ، بغيرِ حقٍّ، إلاَّ أنّهم وحَّدوا اللهَ وعَبَدُوهُ بلا شريكٍ. وقولُه تعالى: ﴿ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومَساجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾، فيه: أنّ اللهَ يَدفَعُ المشرِكِينَ بالمؤمِنِينَ ليُقيمَ دِينَهُ ويُعْلِيَ ذِكْرَه، وفي هذا: بيانٌ للمَقصَدِ مِن الجهادِ، وهو إعلاءُ كلمةِ اللهِ، كما قال ﷺ: (مَن قاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ)[[أخرجه البخاري (٢٨١٠)، ومسلم (١٩٠٤).]]. وتدُلُّ هذه الآيةُ على أنّه يجوزُ القتالُ لدَفْعِ الإنسانِ عن أرضِهِ، وأنّه في سبيلِ اللهِ، وقد بيَّنّا ذلك عندَ قولِ اللهِ تعالى: ﴿وما لَنا ألاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقَدْ أُخْرِجْنا مِن دِيارِنا وأَبْنائِنا﴾ [البقرة: ٢٤٦]، وقولِ اللهِ تعالى: ﴿وما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أخْرِجْنا مِن هَذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها﴾ [النساء: ٧٥]. وفي قولِه تعالى: ﴿ولَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۝﴾ بيانُ أنّ نَصْرَ اللهِ يكونُ بمِقْدارِ نصرِ دِينِه، لأنّ نصرَهُ يكونُ بعَوْنِهِ وكفايتِه، وكفايةُ اللهِ تكونُ بمِقْدارِ عبوديَّتِهِ سبحانَه، وقد تقدَّم الكلامُ على الأسبابِ الشرعيَّةِ والكونيَّةِ للنصرِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذا فَرِيقٌ مِنهُمْ يَخشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أوْ أشَدَّ خَشْيَةً﴾ [النساء: ٧٧]. وقولُه تعالى: ﴿وإنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ۝﴾ أمرٌ للأخذِ بأسبابِ النصرِ، فاللهُ قادرٌ على إحداثِ إعجازٍ بنصرِهم بلا قتالٍ ولا عملٍ، ولكنَّه يُرِيدُ مِن المُسلِمينَ الأخذَ بالأسبابِ التي يَنتصِرونَ بها، حتى لا تتواكَلَ نفوسُهم عن العملِ للهِ ولدِينِه، فإنّ مَن يتحقَّقُ له النصرُ بلا سببٍ ولا تعبٍ، بمـاذا يَسْتحِقُّ الجنةَ؟! ولـو كـان كلُّ مُتَّبِعٍ للإسلامِ والرسالةِ المحمديَّةِ ينتصِرُ بلا سببٍ يأخُذُ به، ولا محنةٍ وشِدَّةٍ تمُرُّ عليه، وتُسيِّرُهُ الأقدارُ بلا اختيارٍ، لأقبَلَ على الإسلامِ كلُّ أحدٍ، لِما يَرَوْنَهُ مِن عاجلِ الدُّنيا والتمكينِ فيها، واللهُ لا يُريدُ لدِينِهِ إلاَّ مقبِلًا بصدقٍ وإخلاصٍ يُرِيدُ اللهَ والدارَ الآخِرةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب