الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿إنِّي أنا رَبُّكَ فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بِالوادِ المُقَدَّسِ طُوىً ۝﴾ [طه: ١٢]. أمَرَ اللهُ نبيَّه موسى بخَلْعِ نَعْلَيْهِ حينَما أنبَأَهُ بأنّه بمكانٍ مقدَّسٍ معظَّمٍ، وفي هذا تشريفُ الأماكنِ المعظَّمةِ وتطهيرُها، واستحبابُ الإتيانِ إليها بما حَسُنَ مِن اللِّباسِ وطابَ مِن الرائحةِ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على قصدِ المساجدِ بالزِّينةِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿يابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ۝﴾ [الأعراف: ٣١]. العِلَّةُ مِن أمرِ موسى بخلعِ نعلَيْهِ: وقد اختُلِفَ في سببِ أمرِ اللهِ موسى بنَزْعِ نعلَيْهِ خاصَّةً، مع وضوحِ أنّ هذا الموضعَ مكانٌ مقدَّسٌ معظَّمٌ: فقيل: إنّ النِّعالَ كانتْ مِن جِلْدِ مَيْتةٍ، ولا يثبُتُ ذلك، وذلك أنّهم أخَذُوهُ ممّا روى التِّرْمِذيُّ[[أخرجه الترمذي (١٧٣٤).]]، مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ مرفوعًا: «كانَ عَلى مُوسى يَوْمَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ كِساءُ صُوفٍ، وجُبَّةُ صُوفٍ، وكُمَّةُ صُوفٍ، وسَراوِيلُ صُوفٍ، وكانَتْ نَعْلاهُ مِن جِلْدِ حِمارٍ مَيِّتٍ»، وقد أعَلَّ الحديثَ غيرُ واحدٍ مِن العلماءِ، كالترمذيِّ وغيرِه. وبعضُهم جعَل ذلك للاستحبابِ، أيْ: عندَ حضورِ الأماكنِ المعظَّمةِ ولقاءِ العُظَماءِ يُستحَبُّ نَزْعُ النِّعالِ، وإنْ صحَّ ذلك فيُمْكِنُ تخصيصُهُ بمَن قَبْلَنا، لأنّ النبيَّ ﷺ ثبَتَ عنه الصلاةُ في النِّعالِ، ودخولُ المسجدِ فيها، بل دخَلَ النبيُّ ﷺ البيتَ الحرامَ ببَعِيرِه، وفعَلَ مِثْلَهُ جماعةٌ مِن أصحابِهِ وأزواجِه، وطافُوا حولَ البيتِ عليه، وليستْ أقدامُ البهائمِ بأطهَرَ مِن أقدامِ بَني آدمَ، فضلًا عن الأنبياءِ. وقد وقَفَ النبيُّ ﷺ عندَ المَقامِ بنعلَيْهِ، كما رواهُ أحمدُ، مِن حديثِ أبي هريرةَ[[أخرجه أحمد (٢ /٤٢٢).]]، وطاف ابنُ الزُّبَيْرِ بنعلَيْهِ، كما رواهُ الفاكهيُّ[[أخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» (٥٨٠).]]. وظاهرُ قولِه تعالى بعدَ الأمرِ بخَلْعِ النِّعالِ: ﴿إنَّكَ بِالوادِ المُقَدَّسِ﴾: أنّ العلةَ مِن خَلْعِ النِّعالِ هو قُدْسِيَّةُ المكانِ وخَصُوصِيَّتُه، ويتَّفقُ العلماءُ على أنّ قدسيَّةَ المسجدِ الحرامِ ومسجدِ النبيِّ ﷺ أعظَمُ مِن قدسيَّةِ الوادِي المقدَّسِ طُوًى. ولكنْ يَحتمِلُ أنّ العلةَ في ذلك هي أنّ لذلك المكانِ مِن القُدْسِيَّةِ التي جعَلَها اللهُ فيه عندَ قدومِ موسى وسماعِ كلامِ اللهِ بلا واسطةٍ في الأرضِ: ما ليس في غيرِه، ثمَّ رُفِعَ ذلك القَدْرُ مِن القُدْسِيَّةِ بانتهاءِ ذلك، وذلك أنّ اللهَ كلَّمَ موسى في الأرضِ بلا واسطةٍ، ولم يُسبَقْ موسى بأحدٍ مِن الأنبياءِ أنْ كَلَّمَهُ اللهُ كذلك، وأمّا نبيُّنا ﷺ فقد كَلَّمَهُ اللهُ بلا واسطةٍ، ولكنْ في السماءِ، لا في الأرضِ. ويَحتمِلُ أن يكونَ الأمرُ بذلك مِن جنسِ أمرِ جبريلَ النبيَّ ﷺ بنَزْعِ نعلَيْهِ، لأنّه كان فيهما قذَرٌ، وذلك كما جاء في حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، قال: بينَما النبيُّ ﷺ يُصَلِّي بِأَصْحابِهِ إذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُما عَنْ يَسارِهِ، فَلَمّا رَأى ذَلِكَ القَوْمُ، ألْقَوْا نِعالَهُمْ، فَلَمّا قَضى رَسُولُ اللهِ ﷺ صَلاتَهُ، قالَ: (ما حَمَلَكُمْ عَلى إلْقاءِ نِعالِكُمْ؟!)، قالُوا: رَأَيْناكَ ألْقَيْتَ نَعْلَيْكَ، فَأَلْقَيْنا نِعالَنا، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (إنَّ جِبْرِيلَ ﷺ أتانِي، فَأَخْبَرَنِي أنَّ فِيهِما قَذَرًا ـ أوْ قالَ: أذًى ـ)، وقالَ: (إذا جاءَ أحَدُكُمْ إلى المَسْجِدِ، فَلْيَنْظُرْ: فَإنْ رَأى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أوْ أذًى، فَلْيَمْسَحْهُ ولْيُصَلِّ فِيهِما)، رواهُ أحمد وأبو داودَ[[أخرجه أحمد (٣ /٩٢)، وأبو داود (٦٥٠).]]. الصلاةُ في النِّعالِ، ودُخُولُ المساجدِ بها: ولا يُؤخَذُ مِن هذه الآيةِ: عدمُ استحبابِ الصلاةِ بالنِّعالِ، فإنّ الصلاةَ بها محلُّ اتِّفاقٍ عندَ العلماءِ على جوازِها، وإنّما الخلافُ عندَهم في الاستحبابِ مِن عَدَمِه، وذلك لثبوتِ الصلاةِ بها عن النبيِّ ﷺ، فقد كان يُصلِّي في نعلَيْه، كما ثبَت في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أنسٍ[[أخرجه البخاري (٣٨٦)، ومسلم (٥٥٥).]]، بل كان يأمُرُ بذلك، كما أخرج أبو داودَ، مِن حديثِ شَدّادِ بنِ أوْسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (خالِفُوا اليَهُودَ، فَإنَّهُمْ لا يُصَلُّونَ فِي نِعالِهِمْ ولا خِفافِهِمْ) [[أخرجه أبو داود (٦٥٢).]]، وقد كان ﷺ يَفعلُ ذلك تارَةً ويَنزِعُهما تارَةً، كما روى عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه، قال: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُصَلِّي حافِيًا ومُنْتَعِلًا»، أخرجَهُ أبو داودَ وغيرُهُ[[أخرجه أحمد (٢ /١٧٤)، وأبو داود (٦٥٣)، وابن ماجه (١٠٣٨).]]. وقد اختلَفَ العلماءُ في النجاسةِ التي تُصِيبُ أسفَلَ النعلِ: هل تطهُرُ بدَلْكِها بالأرضِ وطولِ المشيِ عليها، أو لا بُدَّ مِن قَصْدِها بالغَسْلِ والتطهيرِ؟ على أقوالٍ ثلاثةٍ، وهي ثلاثُ رواياتٍ عن أحمدَ: فقيل: إنّها تطهُرُ بالدَّلْكِ وطولِ المشيِ في الأرضِ، وهذا قولٌ للشافعيِّ قديمٌ، وبه يقولُ بعضُ أهلِ الحديثِ، كابنِ أبي شَيْبةَ، ويحيى بنِ يحيى النَّيْسابوريِّ. وقيل: بعدمِ طهارتِها. وفرَّق قومٌ بينَ نجاسةِ البولِ ونجاسةِ العَذِرَةِ بأنّ البولَ يطهُرُ بالدَّلكِ بخلافِ العَذِرَةِ. وظاهرُ الأحاديثِ: أنّ الدَّلْكَ وطولَ المشيِ يَكفِيها في تطهيرِها، ولم يثبُتْ عن النبيِّ ﷺ الأمرُ بغَسْلِ النِّعالِ. والمساجدُ اليومَ ليستْ كالمساجدِ بالأمسِ، ففيها الفُرُشُ الغاليةُ التي يَظْهَرُ فيها أدْنى وطْءٍ للنِّعالِ، فضلًا عن النجاساتِ والقاذوراتِ، فتَلزَقُ بها ويَبقى أثرُ عينِها ورائحتُها فيها، وينبغي صيانتُها عن النِّعالِ طاهرةً وغيرَ طاهرةٍ، ما لم تكنِ النِّعالُ تُلبَسُ للمسجدِ خاصَّةً، وقد كان يفعلُ ذلك بعضُ السلفِ، يَجعلونَ للمسجدِ نعالًا خاصَّةً به، كما روى مروانُ بنُ الأصفرِ، قال: رأيتُ طاوُسًا يأتي المسجدَ، فإذا بلَغَ البابَ، نزَعَ نعلَيْهِ، وأخرَجَ نعلًا له أُخرى، فلَبِسَها ودخَلَ[[أخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» (١٤٩٥).]]. وإذا كان المصلِّي مِن أهلِ الحاجةِ والضرورةِ، فيتعاهدُ نَعْلَهُ، ويتحرّى في مَوْطِئِه، ويدخُلُ ولا حرَجَ عليه، ولا ينبغي المساواةُ بينَ هيئةِ المساجِدِ التي كان السلفُ يُصَلُّونَ فيها بنِعالِهم وبينَ أكثرِ المساجدِ اليومَ التي تُفرَشُ وتُبلَّطُ بالرخامِ. والبَلاطُ أشَدُّ مِن التُّرابِ، فينبغي صيانةُ المساجدِ التي فيها بلاطٌ أكثَرَ مِن المساجدِ التي فيها ترابٌ، وذلك لأنّ الترابَ يُوطَأُ وينقلِبُ ويكونُ أعلاهُ أسفلَهُ وتُدفَنُ فيه القذاراتُ، بخلافِ البلاطِ فتَبْقى على سطحِه، وتَلزَقُ القذاراتُ في البلاطِ أشَدَّ مِن الترابِ، وتَظهرُ عليه أشَدَّ مِن ظهورِها على الترابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب