الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إنَّما البَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبا فَمَن جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وأَمْرُهُ إلى اللَّهِ ومَن عادَ فَأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ﴾ [البقرة: ٢٧٥].
بيَّن اللهُ حُرْمةَ الرِّبا ببيانِ حالِ آكلِهِ يوم القيامةِ، قال ابنُ عبّاسٍ: «يُبعَثُ يوم القيامةِ مجنونًا يُخنَقُ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٥٤٤).]].
ويحتمِلُ أن يكون ذلك عندَ النَّشْرِ أو يوم العَرْضِ، ويحتمِلُ في الموضعَيْنِ، وبكلٍّ قال غيرُ واحدٍ مِن المفسِّرينَ.
تعظيمُ الرِّبا:
والرِّبا مِن المُوبِقاتِ، وهي أكبَرُ الكبائرِ، كما ثبَتَ في «الصحيحِ»، لأنّ فيها ظلمًا للفقيرِ، وأخذًا لمالِهِ بلا حقٍّ، وزيادةً عليه بالباطلِ، والظلمُ المتعلِّقُ بحقِّ العبادِ أعظَمُ مِن الظلمِ المتعلِّقِ بحقِّ اللهِ إلا الشِّرْكَ، لأنّ اللهَ قد يعفو عن حقِّه، والعبادُ لا يَعْفُونَ عن حقوقِهِمْ يومَ القيامةِ، ولذا قال سُفْيانُ الثَّوْريُّ: «ذَنْبٌ واحدٌ في حقِّ العبادِ أعظَمُ مِن سبعينَ ذَنْبًا في حقِّ اللهِ».
والرِّبا محرَّمٌ حتّى في الشرائعِ السابقةِ، لأنّه ظُلْمٌ للناسِ، وكلُّ ظلمِ الناسِ محرَّمٌ في كلِّ شِرْعةٍ سابقةٍ، لأنّ الشرائعَ لا تُحِلُّ الظلمَ ولا تُقِرُّهُ ولا تخرُجُ عن الفِطْرةِ، بل تُقِرُّها وتُثْبِتُها، وأَكْلُ الرِّبا مِن عادةِ يهودَ في الكَسْبِ، ﴿وأَخْذِهِمُ الرِّبا وقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ [النساء: ١٦١].
تعظيمُ حقوقِ الآدميِّين:
وقد عظَّمَ اللهُ حقوقَ الآدميِّينَ، لأنّ دُنْياهم لا تستقيمُ ولا تَصلُحُ إلا بذلك، فشدَّد في أمرِها والوعيدِ عليها، حتّى لا تفسُدَ الأرضُ بفسادِ أفعالِهم، وجعَلَ اللهُ أعظَمَ حقوقِهِ ـ وهو التوحيدُ ـ مقترِنًا بحقوقِ الآدميِّينَ في عدمِ تكفيرِ الظُّلْمِ فيهما لأصحابِها، إلا بمبادَرَتِهِم بالخلاصِ منهما، التوحيدُ بالتوبةِ، والحقوقُ بإعادتِها إنْ كانت مالًا، وإنْ كانت دماءً فبالقصاصِ ما لم يتحلَّلْ، قال تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨]، وفي الحقوقِ قال ﷺ: (مَن كانت لَهُ مَظْلِمَةٌ لأَخِيهِ مِن عِرْضِهِ أوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنهُ اليَوْمَ، قَبْلَ ألاَّ يَكُونَ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ لَهُ عَمَلٌ صالِحٌ، أُخِذَ مِنهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لم تَكُنْ لَهُ حَسَناتٌ، أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ صاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ)، رواهُ البخاريُّ، عن أبي هريرةَ[[أخرجه البخاري (٢٤٤٩) (٣/١٢٩).]].
وذكَرَ اللَّهُ الأكلَ في الآيةِ: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا﴾، لأنّ الأكلَ أقوى مِن شَهْوةِ المَلْبَسِ والمَسْكَنِ والمَنكَحِ، فلا حياةَ بدونِهِ، ويدخُلُ في معناه ولفظِهِ ما دُونَهُ مِن المَلْبَسِ والمَسْكَنِ والمَنكَحِ، لأنّ المالَ الرِّبَويَّ إذا حَرُمَ في الأكلِ، فالملبَسُ والمسكَنُ مِن بابِ أوْلى، وإذا حَرُمَ في الملبَسِ فلا يلزَمُ أن يحرُمَ في غيرِهِ كالمأكلِ.
ثمَّ إنّ الأكلَ يدخُلُ في معنى الإهلاكِ والإتلافِ، وكلُّ مالٍ يُهلِكُهُ ويُتلِفُهُ الإنسانُ أو الحيوانُ أو الأرضُ أو النارُ، يُقالُ له: أُكِلَ، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ عَهِدَ إلَيْنا ألاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ﴾ [آل عمران: ١٨٣].
وقولُ يوسفَ في تأويلِهِ: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إلاَّ قَلِيلًا مِمّا تُحْصِنُونَ ﴾ [يوسف: ٤٨]، والسبعُ التي تأكُلُ هي السِّنُونَ والأعوامُ.
عقوبةُ الربا:
ويجبُ على الحاكِمِ مَنعُ الرِّبا، ويجبُ على القاضي العقوبةُ عليه بالتعزيرِ حبسًا وجَلْدًا، ومَن لم يَتُبْ منه معانِدًا بعدَ حَبْسِهِ وجَلْدِه، فيصحُّ قتلُهُ تعزيرًا، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عَبّاسٍ في قولِهِ عزّ وجل: «﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [البقرة: ٢٧٨ ـ ٢٧٩]: فمَن كان مقيمًا على الرِّبا لا يَنزِعُ عنه، فحقٌّ على إمامِ المسلِمِينَ أنْ يستتِيبَهُ، فإنْ نَزَعَ وإلاَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ»[[«تفسير الطبري» (٥/٥٢)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٥٥٠).]].
ربا الجاهليةِ:
وكانَ رِبا الجاهليَّةِ الزيادةَ في الأجلِ مع الزيادةِ بالمالِ، قال مجاهِدٌ فِي قولِهِ: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: ٢٧٨]، قال: «كانوا في الجاهليَّةِ يكونُ لِلرَّجُلِ على الرَّجُلِ الدَّيْنُ، فيقولُ: لَكَ كَذا وكَذا وتُؤخِّرُ عَنِّي، فيؤخِّرُ عَنْهُ»[[«تفسير الطبري» (٥/٣٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٥٤٨).]].
وهذا هو المعنى الذي يُشيرُ إليه اللهُ في النهي عنِ الرِّبا في القرآنِ، كما في آلِ عِمْرانَ، قالَ: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أضْعافًا مُضاعَفَةً﴾ [١٣٠]، وأشدُّ الرِّبا أكثرُهُ تضعيفًا على الفقيرِ.
وفي الآيةِ: دليلٌ على تحقُّقِ المَسِّ مِن الجِنِّ للإنسِ، وفي هذا قولُهُ ﷺ: (إنَّ الشَّيْطانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرى الدَّمِ) [[أخرجه البخاري (٢٠٣٩) (٣/٥٠).]].
مسُّ الجِنِّيِّ للإنسيِّ:
والمَسُّ يقَعُ عندَ عامَّةِ أهلِ السُّنَّةِ، ونَصَّ عليه أبو الحَسَنِ الأشعريُّ وطائفةٌ مِن المتكلِّمينَ، ويكونُ ذلك مَسًّا حقيقيًّا للبدنِ، ويُنكِرُ هذا جماعةٌ مِن المتكلِّمينَ، كالجُبّائيِّ، وأبي بكرٍ الرازيِّ، ونفاهُ ابنُ حَزْمٍ وكثيرٌ مِن العَقْلانيِّينَ، ومع ظهورِ آثارِهِ وحالاتِهِ إلا أنّهم يصرِفونَهُ إلى تخيُّلاتٍ نفسيَّةٍ، وتوهُّماتٍ عقليَّةٍ تَنشَأُ في نفسِ الإنسانِ، ودليلُهُمْ للنفيِ: العقلُ المجرَّدُ، والعقلُ ليس دليلًا يصلُحُ للنفيِ، لقصورِ عِلْمِهِ، والعقلُ في الإثباتِ أقوى منه في النفيِ، فالذي يَغِيبُ عن العقلِ أكثَرُ ممّا يشاهِدُهُ، ولذا فهو يتجدَّدُ عِلْمًا كلَّ يومٍ لِسَعَةِ جَهْلِهِ.
والأدلَّةُ دلَّتْ على دخولِ الجِنِّ في جسَدِ الإنسيِّ، وتكلُّمِهِ بلسانِهِ، وتأثيرِهِ على نفسِهِ وبدنِهِ وعقلِهِ، وقد يكونُ المسُّ بدخولٍ في البدنِ، وقد يكونُ بلا دخولٍ، كالوسواسِ والخواطِرِ العابرةِ، وهذا كما في قولِهِ تعالى: ﴿واذْكُرْ عَبْدَنا أيُّوبَ إذْ نادى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ ﴾ [ص: ٤١]، وقولِهِ تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإذا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: ٢٠١].
وحقيقةُ الجِنِّ وماهيتُهُ خفيَّةٌ عنِ الإنسانِ، فلا مجالَ لنفيِ ما يَغِيبُ عنه، وكثيرٌ مِن الموادِّ التي تسيرُ في بَدَنِ الإنسانِ في عروقِهِ وشرايينِهِ يتعرَّفُ على أنواعِها وأجزائِها كلَّ عامٍ عندَ أهلِ الطِّبِّ، فيَعْرِفُونَ ما لا يَعرِفُهُ أسلافُهم، وهذا في موادَّ مشاهَدةٍ يُمكِنُ مَعرِفتُها، فكيف بشيءٍ يستحيلُ رؤيتُهُ على حقيقتِهِ كالجنِّ، حيثُ يَرى الإنسانَ ولا يَراهُ؟!
ولذا تَجِدُ الجِنَّ مِن العجمِ يتكلَّمُ على لسانِ الأعرابيِّ الذي لا يَعْرِفُ إلا لسانَهُ، فيتكلَّمُ الإنجليزيَّةَ والفرنسيَّةَ والفارسيَّةَ، ولم يَسمَعْ بها مِن قبلُ.
وقال عبدُ اللهِ ابنُ الإمامِ أحمدَ: «قلتُ لأبي: إنّ قَوْمًا يَزْعُمونَ أنّ الجِنِّيَّ لا يدخُلُ في بَدَنِ الإنسيِّ؟ فقال: يا بُنَيَّ، يَكْذِبونَ، هو ذا يتكلَّمُ على لسانِهِ»[[«مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام ابن تيمية (١٩/١٢).]].
ودخولُ الجِنِّ للإنسانِ ثابتٌ في النصوصِ والمشاهَدةِ الكثيرةِ في أحوالِ الناسِ، وفي «صحيحِ مسلمٍ»، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، عن أبيهِ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (إذا تَثاءَبَ أحَدُكُمْ، فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ، فَإنَّ الشَّيْطانَ يَدْخُلُ) [[أخرجه مسلم (٢٩٩٥) (٤/٢٢٩٣).]].
وفي «مسنَدِ أحمدَ»، أنّ امرأةً جاءت إلى النبيِّ ﷺ مَعَها صبيٌّ لها به لَمَمٌ، فقال النبيُّ ﷺ: (اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ، أنا رَسُولُ اللهِ)، قال: فبَرَأَ[[أخرجه أحمد (١٧٥٤٩) (٤/١٧١).]].
وقولُه تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إنَّما البَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبا﴾:
أصلُ فسادِ الآراءِ: بالأهواءِ، وأصلُ فسادِ الأهواءِ: بالقياسِ الفاسدِ، وهو أولُ ضلالٍ في الخلقِ، حيثُ امتنَعَ إبليسُ مِن السجودِ لآدَمَ بسببِ تفضيلِهِ النارَ على الترابِ، وقياسِهِ عليه امتناعَ سجودِ الفاضلِ للمفضولِ، وقد روى الدارِمِيُّ، عن الحسَنِ، أنّه تلا هذه الآيةَ: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ [الأعراف: ١٢]، قال: «قاسَ إبليسُ، وهو أولُ مَن قاسَ»[[أخرجه الدارمي في «سننه» (١٩٦).]].
وكثيرًا ما تَمتطي الأهواءُ القياسَ، لِتَصِلَ إلى غاياتٍ فاسدةٍ، وكلُّ قياسٍ فاسدٍ ففَوْقَهُ قياسٌ يُبطِلُهُ، وهذا كحُجَّةِ الدهريِّينَ، قال تعالى: ﴿وضَرَبَ لَنا مَثَلًا ونَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَن يُحْيِي العِظامَ وهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أنْشَأَها أوَّلَ مَرَّةٍ وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: ٧٨ ـ ٧٩]، أبطَلَ اللهُ قياسَهُم: أنّ إحياءَ الميِّتِ بجسدِهِ محالٌ، فكيف بتحوُّلِ عِظامِهِ إلى ترابٍ؟! فبيَّنَ اللهُ أنّ جسَدَهُم تكوَّنَ بَعْدَ عَدَمٍ، فإنشاءُ مخلوقٍ بلا أصلٍ ماديٍّ سابقٍ دليلٌ على قدرةِ الخالقِ على إعادتِهِ مع وجودِ مادَّتِه.
وفي قولِهِ: ﴿وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبا﴾: دليلٌ على أنّ الأصلَ في العقودِ والمعامَلاتِ الحِلُّ ما لم يأتِ دليلٌ على التحريمِ، واللهُ تعالى لا يحلِّلُ المعامَلاتِ بالتعيينِ لأفرادِها، وإنّما يبيِّنُ المحرَّمَ منها، أو ما ظَنَّهُ الناسُ حرامًا، فيُبْطِلُهُ بنصٍّ، كما قال تعالى: ﴿قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١].
واللهُ تعالى أمَرَ بالوفاءِ بالعهودِ والعقودِ، فقال: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾ [المائدة: ١]، وقال: ﴿وأَوْفُوا بِالعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كانَ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: ٣٤]، وهذا أمرٌ لا يكونُ متوجِّهًا إلاَّ لِما الأصلُ فيه الحِلُّ.
الأصلُ في العقودِ والمعاملاتِ الحِلُّ:
وهذا قولُ جَماهيرِ العلماءِ، ونصَّ ابنُ حَزْمٍ على أنّ الأصلَ في العقودِ والمعامَلاتِ التحريمُ، قال في كتابِهِ «الإحكامِ»: «إنّ الأصلَ في العقودِ والعهودِ والشروطِ التحريمُ، حتّى يَرِدَ التحليلُ»[[«الإحكام» لابن حزم (٥/١٥).]].
خلافًا لداودَ الظاهِرِيِّ وطائفةٍ مِن الظاهريِّينَ.
التوبةُ مِن الربا:
ومَن أخَذَ الرِّبا ونَما مالُهُ منهُ قبلَ نزولِ آيةِ تحريمِ الرِّبا، فله ما سلَفَ ممّا قبَضَهُ وانتَهى، لقولِه تعالى: ﴿فَمَن جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وأَمْرُهُ إلى اللَّهِ﴾.
وحالات التاركِ للرِّبا ثلاثٌ:
الحالةُ الأُولى: مَن أخَذَ الرِّبا قبلَ نزولِ التحريمِ، كحالِ العبّاسِ بنِ عبدِ المطَّلبِ وغيرِهِ، فلهم ما قبَضُوا ممّا مضى عقدًا وقبضًا، ولم يثبُتْ عنِ النبيِّ ﷺ أنّه أمَرَ أحدًا مِن الناسِ أنْ يُعِيدَ ما سلَفَ مِن نماءِ مالِهِ مِن الرِّبا قبلَ تحريمِهِ، ولو كانَ لَنُقِلَ، لعمومِ البلوى بذلك، ومثلُ هذه الحالِ عدَمُ نَقْلِها دليلٌ على العدمِ.
الحالةُ الثانيةُ: مَن أخَذَ الرِّبا قبلَ العِلْمِ بتحريمِهِ وبعد نزولِ الوَحْيِ، وهذا في كلِّ معامَلةٍ بعدَ نزولِ تحريمِ الرِّبا في الصحابةِ ومَن بعدَهُم، فقد استقرَّ التحريمُ وثبَتَ، ورُفِعَ التكليفُ عنِ الجاهلِ لجَهْلِهِ، وقد أخَذَ الرِّبا بعقدٍ يعتقِدُ صحَّتَهُ.
فالحالةُ الأُولى والثانيةُ له ما أخَذَ، لتشابُهِ حالِهِما عندَ الأخذِ برفعِ التكليفِ واعتقادِ صِحَّةِ العملِ وعدمِ الإثمِ، وهذا ظاهرُ قولِهِ تعالى: ﴿فَمَن جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وأَمْرُهُ إلى اللَّهِ﴾، قال سفيانُ في قولِه: ﴿فَلَهُ ما سَلَفَ﴾ قال: «مغفورًا لهُ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٥٤٦).]].
فربَطَ استحقاقَ ما سلَفَ مِن كَسْبٍ بمجيءِ الموعظةِ إليه والعلمِ بها: ﴿جاءَهُ مَوْعِظَةٌ﴾، لا بمجرَّدِ نزولِ الحكمِ واستقرارِهِ في الدِّينِ ولو لم يبلُغْهُ.
وهذا يظهَرُ في العقودِ التي يعتقِدُ صِحَّتَها العبدُ ولو كانت حرامًا في حقيقتِها، أنّ للمتعاقِدَيْنِ لوازمَهما، كنِكاحِ زوجةِ الأبِ أو الأختِ مِن الرَّضاعِ قبلَ الوحيِ أو بعدَهُ مع الجهلِ به، فالمهرُ للمرأةِ، والولدُ يُنسَبُ لهما، ويفرَّقُ بَينَهما، ولو تعاقَدا بعد الوحيِ مع العلمِ به، لوجَبَ عليهما الحَدُّ، كما قتَلَ النبيُّ ﷺ ناكِحَ امرأةِ أبِيهِ بعدَ الوَحْيِ[[أخرجه أبو داود (٤٤٥٧) (٤/١٥٧)، والترمذي (١٣٦٢) (٣/٦٣٥)، والنسائي (٣٣٣١) (٦/١٠٩)، وابن ماجه (٢٦٠٧) (٢/٨٦٩).]]، مع أنّه قال: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢].
ومِثلُهُ نكاحُ الأختَيْنِ، قال تعالى: ﴿وأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٣].
الحـالـةُ الثـالثةُ: مَن أخَذَ الرِّبا وقبَضَهُ وانتَهى قبلَ توبتِهِ وهو يَعلَمُ بتحريمِه، فهذا أبرَمَ عَقْدًا يَعلمُ ببطلانِهِ، فهذا يُشبِهُ الغاصِبَ، وإنْ لم يَكُنْ غاصِبًا لوجودِ التراضي بينهما:
فمِن الفقهاءِ: مَن يفرِّقُ بين المالِ المقبوضِ قبل التصرُّفِ فيه وبعدَهُ.
ومِنهُم: مَن يحرِّمُهُ كلَّهُ في الحالَيْنِ، ويُوجِبُ رَدَّه، لأنّ المالَ المقبوض بعقدٍ فاسِدٍ مضمونٌ على القابِضِ كالمغصوبِ، وإلى هذا يذهَبُ أصحابُ أحمدَ وغيرُهم.
ومِنـهُـم: مَن يَجعلُه له في الحالَيْنِ بشرطِ التوبةِ الصادقةِ، وإلى هذا يميلُ ابنُ تيميَّةَ، وذلك أنّ التوبةَ لو رُبِطَتْ بإعادةِ الحقوقِ الماضيةِ ولو كَثُرَتْ، لَشَقَّ ذلك على العبادِ، خاصَّةً الذين بدأَتْ أموالُهُمْ مِن الرِّبا وتنامَتْ حتى أصبَحَ كلُّ مالِهِ ربًا يتراكَمُ عبرَ السنينَ، فهذا يَدْفَعُهم لعدَمِ التوبةِ، لِطَمَعِ الإنسانِ في المالِ، ومشقَّةِ تَرْكِه، وتعذُّرِ إحصاءِ الأموالِ ومعرفةِ أهلِها، ومِن أكَلَةِ الرِّبا: مَن بدَأَ صِفْرًا، وملَكَ القناطيرَ مِن الرِّبا، والربا مع شِدَّةِ تحريمِهِ يختلِفُ عن المالِ المأخوذِ بلا رضًا كالمسروقِ والمغصوبِ، فهذا يُوجِبُ القطيعةَ والشَّحْناءَ بين الناسِ حتى في أجيالٍ لاحقةٍ، وربَّما اقتَتَلُوا عليه، فلا تتسامحُ فيه الشريعةُ بحالٍ قبلَ التوبةِ وبعدَها.
ثمَّ هو أظهَرُ في معرِفةِ الفِطْرةِ لتحريمِهِ مِن الرِّبا، فالرِّبا قد يَجْهَلُ تحريمَهُ حديثُ العهدِ بكُفْرٍ، والمسلِمُ البعيدُ عن معاقلِ الدِّينِ، وبعضُ صُوَرِهِ قد تخفى على بعضِ العامَّةِ حتى في بُلْدانِ العِلْمِ، ولكنَّ السَّرِقةَ والغَصْبَ لا يخفى على عاقلٍ تحريمُهُ ولو كان كافِرًا، فأصلُ تحريمِ الرِّبا لأجلِ الظلمِ بين العبادِ، وهذا ظاهرٌ في قولِهِ تعالى: ﴿فَلَكُمْ رُؤُوسُ أمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ٢٧٩]، والظلمُ في السرقةِ والغصبِ أظهَرُ، ولكنَّ الظُّلْمَ في الرِّبا أخطَرُ، لأنّه يُؤخَذُ بتشريعٍ ورِضًا فينتشِرُ في الناسِ، والمنكَرُ الذي يُتراضى به يَشِيعُ، والمنكَرُ الذي لا يُتراضى بهِ لا يَشِيعُ، بل يحارِبُهُ الناسُ ولا ينتشِرُ، كالسرقةِ، لهذا عَظُمَ الرِّبا مِن هذا الوجهِ، حتى لا تُؤكَلَ الأموالُ بالتراضي، فيُؤخَذَ مالُ الفقيرِ وهو راضٍ عن حاجةٍ.
وقد يكونُ في علمِ آكلِ الرِّبا: أنّ المالَ المقبوضَ قبلَ التوبةِ حقٌّ له، فيدعُوهُ ذلك إلى الانتظارِ حتى يَقبِضَهُ فيتوبَ، فيسوِّفَ لذلك، فيقالُ: إنّ الآجالَ عندَ اللهِ، فقد يأخُذُ عبدَهُ قبل توبتِهِ، وهذا لو حَرُمَ لأجلِهِ المالُ المقبوضُ، لأصبَحَ إعلامُ اللهِ لعبادِهِ أنّ التوبةَ تَهدِمُ ما قَبْلَها مِن كلِّ ذنبٍ ولو كان شِرْكًا ـ تسويفًا لهم أن يتراخَوْا في التوبةِ مِن الزِّنى والسِّحْرِ والزُّورِ، فوجودُ التراخي لا يُلغي الحكمَ، ولا يُبطِلُ رحمةَ اللهِ وفَضْلَه، وتسويفُ الإنسانِ في الرِّبا حتى يَقبِضَهُ أهْوَنُ مِن تحريمِ مالِهِ كلِّه عليه حتى يَقْنَطَ، والقنوطُ مِن رحمةِ اللهِ أعظَمُ مِن الرِّبا.
ذَهابُ بَرَكَةِ الأموالِ الربويَّة:
واللهُ يَمْحَقُ الرِّبا، ويُذهِبُ بركَتَهُ وأَثَرَهُ على الإنسانِ، والصدقةُ تنمِّيه وتزيدُ في بَرَكَتِهِ، وفي الحديثِ: (الرِّبا وإنْ كَثُرَ، فَإنَّ عاقِبَتَهُ تَصِيرُ إلى قُلٍّ)، رواهُ أحمدُ[[أخرجه أحمد (٣٧٥٤) (١/٣٩٥).]].
والبَرَكةُ المذكورةُ في القرآنِ ليست نماءَ الأرقامِ، وإنّما نماءُ أثرِ المالِ بالطُّمَأْنينةِ والكفايةِ والقَناعةِ وتيسيرِ الحاجاتِ ولو بالقليلِ، لأنّ المالَ يُسْعى إليه طلبًا للسعادةِ والراحةِ، وكثيرٌ مِن أهلِ المالِ الحرامِ يغترُّونَ بالأرقامِ ونَمائِها، فيزيدُهم همًّا وضِيقًا وعذابًا للنفسِ، فيخلُقُ اللهُ له الخصومَ وقطيعةَ الأرحامِ بسببِ مالِه، ويعلِّقُهُ اللهُ بتتبُّعِ القليلِ مِن المالِ لِيُشْقِيَهُ، حتى لو كان فقيرًا، لكان أهوَنَ مِن غناه، ومِن أعظمِ أنواعِ العذابِ: العذابُ بالنِّعْمةِ يَهَبُها اللهُ الإنسانَ ليتمسَّكَ بها ـ بل يَبْحَثَ عنها ـ فيعذِّبَهُ بها، فلا هو الذي يريدُ الخلاصَ مِنها برغبتِهِ، ليَلْزَمَ عذابُهُ، وهو يَعجِزُ عن تَرْكِه، بخلافِ العذابِ بالنِّقْمةِ والمصيبةِ والمرضِ، فالإنسانُ يطلُبُ منها شفاءً وعافيةً، ويتمنّى منها مَخْرَجًا، فلو فُتِحَ له بابٌ إلى العافيةِ والشِّفاءِ، لَخَرَجَ، وأمّا الغنيُّ المعذَّبُ بمالِهِ، فلو فُتِحَ له بابٌ إلى الفَقْرِ، لَما خرَجَ إليه، فيعذِّبُهُ اللهُ بمالِهِ وهو ممسِكٌ به.
وقولُهُ تعالى: ﴿ومَن عادَ فَأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ﴾، مَن عادَ بعدَ عِلْمِهِ بحُرْمةِ الرِّبا، فعانَدَ وكابَرَ، استحَقَّ التشديدَ، وبمِقْدارِ العلمِ والعنادِ تكونُ العقوبةُ، والخلودُ: طُولُ المُكْثِ، وتسمِّي العربُ مولودَها: خالِدًا، تيمُّنًا بتعميرِهِ، لا بتخليدِهِ بلا نهايةٍ.
{"ayah":"ٱلَّذِینَ یَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰا۟ لَا یَقُومُونَ إِلَّا كَمَا یَقُومُ ٱلَّذِی یَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوۤا۟ إِنَّمَا ٱلۡبَیۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰا۟ۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَیۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟ۚ فَمَن جَاۤءَهُۥ مَوۡعِظَةࣱ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥۤ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق