الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعَسى أنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وهُوَ شَرٌ لَكُمْ واللَّهُ يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ٢١٦].
الكَتْبُ: هو الجَمْعُ على ما تقدَّمَ مِرارًا، والمرادُ به هنا: جَمْعُ الأمرِ وتدوينُهُ شريعةً مِنَ اللهِ على أُمَّةِ محمَّدٍ ﷺ، وهكذا كلُّ معاني قولِه: (كَتَبَ) أو (كَتَبْنا) في القرآنِ.
وذكَرَ اللهُ هنا القتالَ ولم يذكُرِ الجهادَ، مبالغةً في إيضاحِ المقصودِ، لأنّ لفظَ القِتالِ أصرَحُ مِن لفظِ الجهادِ، فالجهادُ يُطلَقُ في القرآنِ قبلَ فرضِ القتالِ: على المجاهدةِ باللسانِ، والصبرِ على الأَذى، كما في قولِهِ تعالى: ﴿وجاهِدْهُمْ بِهِ جِهادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: ٥٢]، وذلك في مَكَّةَ، والمرادُ به القرآنُ.
الجهادُ شريعةُ أكثرِ الأنبياء:
ولم يكنِ القتالُ مِن خصائصِ الأُمَّةِ المحمديَّةِ، وإنّما كان شِرْعةً لكثيرٍ مِن الأنبياءِ وأُمَمِهم، قال تعالى: ﴿وكَأَيٍّن مِن نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وهَنُوا لِما أصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٤٦].
وما مِن نبيٍّ كانت له ولأُمَّتِه شَوْكةٌ إلا وشرَعَ اللهُ له الجهادَ لِمَن كابَرَ وعانَدَ، فقد فرَضَ اللهُ على موسى عليه السلام ومَن معَهُ مِن بني إسرائيلَ قتالَ الكَنْعانِيِّينَ، وفرَضَ اللهُ كذلك على بني إسرائيلَ القتالَ مع طالُوتَ وهو شاوُلُ مع نبيِّ اللهِ داودَ عليه السلام.
ومَن لم تكنْ له شَوْكةٌ، لم يأمُرْهُ اللهُ بقتالِ مخالِفِيهِ والمعانِدِينَ له، بل كان اللهُ يأخُذُهُمْ بقُدْرتِهِ وإعجازِه، كقومِ نُوحٍ ولُوطٍ، فلم تكنْ لهم شوكةٌ وقوةٌ يأخُذُونَ بأسبابِها، فنُوحٌ ما ﴿آمَنَ مَعَهُ إلاَّ قَلِيلٌ ﴾ [هود: ٤٠]، ولُوطٌ بيَّن عدَمَ قدرتِهِ على قومِهِ وعَجْزَهُ عن اتِّخاذِ أسبابِ القوةِ، فقال: ﴿لَوْ أنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ [هود: ٨٠]، قال قتادةُ: يعني: العَشِيرة، وقال السُّدِّيُّ: آوِي إلى جُنْدٍ شديدٍ، لَقاتَلْتُكم[[«تفسير الطبري» (١٢/٥٠٩).]].
وفيه: أنّ القتالَ يسقُطُ مع الضعفِ والعجزِ، ويجبُ مع القوةِ والقدرةِ، ولذا قال ﷺ في قولِ لوطٍ: ﴿لَوْ أنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾: (كانَ يَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ، إلى رَبِّهِ عزّ وجل، فَما بُعِثَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ إلاَّ فِي ثَرْوَةٍ مِن قَوْمِهِ)، رواهُ أحمدُ والترمذيُّ[[أخرجه أحمد (٨٩٨٧) (٢/٣٨٤)، والترمذي (٣١١٦) (٥/٢٩٣).]]، والمرادُ بالثَّرْوةِ: الكثرةُ والمَنَعَةُ والقوةُ.
فالجهادُ مشروعٌ في كلِّ الشرائعِ، ولكنْ تضعُفُ أسبابُهُ فلا يقومُ، وإذا قَوِيَتْ أُقِيمَ، وكلُّ نبيٍّ وأُمَّةٍ بحَسَبِها.
وقد روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن ابنِ شهابٍ، قال: «الجهادُ مكتوبٌ على كلِّ أحدٍ، غَزا أو قعَدَ، فالقاعدُ إنِ استُعِينَ به أعانَ، وإنِ استُغِيثَ به أغاثَ، وإنِ استُغنيَ عنه قعَدَ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٣٨٣).]].
وهو شريعةٌ لكلِّ الأممِ، لا كلِّ فردٍ منها، وفي هذه الأمَّةِ شريعةٌ على كلِّ فردٍ مِن الرجالِ، وأعلاهُ القتالُ بالنَّفْسِ، وأدناهُ بحديثِ النَّفْسِ، يسقُطُ الوجوبُ الأعلى بقيامِ مَن يكفِي، ولا يسقُطُ أدناهُ عن أحدٍ مكلَّفٍ مِن الرجالِ، ففي «الصحيحِ»، قال ﷺ: (مَن ماتَ ولَمْ يَغْزُ، ولَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، ماتَ عَلى شُعْبَةٍ مِن نِفاقٍ)[[أخرجه مسلم (١٩١٠) (٣/١٥١٧)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]].
وحكى ابنُ جَرِيرٍ: أنّ عامةَ المسلِمِينَ على أنّ الأصلَ وجوبُهُ على الأفرادِ عملًا حتى يسقُطَ بمَن فيه كفايةٌ، وعَدَّهُ كالصلاةِ على الجنازةِ، وغَسْلِ المَوْتى، ودَفْنِهم[[«تفسير الطبري» (٣/٦٤٤ ـ ٦٤٥).]].
وبعضُ السلفِ كعطاءٍ: يجعلُ الآيةَ على أعيانِ الصحابةِ في زمنِ النبيِّ ﷺ، لحاجةِ النبيِّ إليهم في ذلك الزمانِ، ثمَّ كان على الكفايةِ في غيرِهم.
ولا يظهرُ مِن قولِ عطاءٍ وفقهِهِ: أنْ يُخرِجَ الآيةَ مِن العمومِ، بل كلُّ مَن شابَهَتْ حالُهُ حالَ النبيِّ ﷺ، أخَذَ الحُكْمَ في الآيةِ.
على مَن يجبُ الجهادُ:
وهو واجبٌ على الحُكّامِ والأُمَراءِ بأعيانِهم أنْ يُقِيمُوهُ ما قَدَرُوا عليه، ويأثَمُونَ إنْ توافَرتْ شروطُهُ وانتفَتْ موانعُهُ، ولا خلافَ عندَ العلماءِ في هذا، فعن أبي إسحاقَ الفَزارِيِّ، قال: سألتُ الأوزاعيَّ عن قولِ اللَّهِ عزّ وجل: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾: أواجِبٌ الغزوُ على الناسِ كلِّهم؟ قال: لا أعلَمُهُ، ولكنْ لا ينبغِي للأئمَّةِ والعامَّةِ تَرْكُهُ، فأمّا الرجلُ في خاصَّةِ نفسِهِ، فلا[[«تفسير الطبري» (٣/٦٤٤).]].
خصيصةُ الغنائمِ للأمَّةِ:
وقد جعَلَ اللهُ مِن خصائصِ هذه الأُمَّةِ الغنائمَ، وذلك لقولِهِ تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا﴾ [الأنفال: ٦٩]، وفي الحديثِ: (وأُحِلَّتْ لِيَ الغَنائِمُ، ولَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي) [[أخرجه البخاري (٣٣٥) (١/٧٤)، ومسلم (٥٢١) (١/٣٧٠)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.]]، وتخصيصُ الأُمَّةِ بالغنائمِ قرينةٌ على أنّ القتالَ مشروعٌ للجميعِ بأسبابِه، لأنّه لو لم يكنْ مشروعًا، لَما كان لتخصيصِ الغنائمِ بِأُمَّةِ محمدٍ حِكْمةٌ ظاهرةٌ، لعدمِ قيامِ سببِ الغنائمِ على جميعِ الأممِ، وهو مشروعيَّةُ الجهادِ، فالغنيمةُ مِن ثمرةِ الجهادِ وتَبِعاتِه.
الحكمةُ من تحريمِ الغنائمِ على السابقين:
وإنّما كانتِ الغنائمُ محرَّمةً على السابقينَ، لِحِكَمٍ، منها الابتلاءُ والاختبارُ، والرَّحْمةُ بهم، دفعًا لطمعِ النفسِ مِن أنْ تسوِّلَ لأهلِها قتالًا في ظاهرِهِ أنّه للهِ، وفي باطنِه للغنيمةِ، وظاهرُهُ حرمانُ دُنْيا، ولكنْ حرَّمَهُ اللهُ ليُحفَظَ دِينُ العبدِ، وتُؤمَنَ له العاقبةُ، وذلك أنّ إيمانَ أتباعِ الأنبياءِ السابقينَ يختلِفُ عن إيمانِ أتباعِ أُمَّةِ محمدٍ ﷺ، وكما فُضِّلَ نبيُّ الأمَّةِ على الأنبياءِ، فأُمَّتُهُ مفضَّلةٌ على أتباعِ الأنبياءِ، ولا خلافَ في فضلِ صحابةِ النبيِّ ﷺ على صحابةِ الأنبياءِ السابقين، وهذا على سبيلِ الإجمالِ، لا كلُّ صحابيٍّ مِن أُمَّتِهِ يفضَّلُ على كلِّ صحابيٍّ مِن صحابةِ جميعِ الأنبياءِ، ولكنَّ الفضلَ لجمهورِهِمْ ولآحادِ أفرادِهِمْ خصوصًا كأبي بكرٍ وعمرَ، واللهُ أعلمُ.
ولذا جاء الدليلُ: أنّ الغنائمَ تُنقِصُ أجرَ المقاتِلِ في سبيلِ اللهِ بمقدارِ تعلُّقِه بها، كما ثبَتَ في «صحيحِ مسلمٍ» عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (ما مِن غازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ، فَيُصِيبُونَ الغَنِيمَةَ، إلاَّ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أجْرِهِمْ مِنَ الآخِرَةِ، ويَبْقى لَهُمُ الثُّلُثُ، وإنْ لم يُصِيبُوا غَنِيمَةً، تَمَّ لَهُمْ أجْرُهُمْ) [[أخرجه مسلم (١٩٠٦) (٣/١٥١٤).]]، وهذا غالِبٌ لا مُطَّرِدٌ بمقدارِ تعلُّقِ القلبِ بالغنيمةِ، وهذا في الناسِ كثيرٌ، وربَّما لا يكادُ يَسْلَمُ منه إلا القليلُ، فالغنائمُ مالٌ وسَبْيُ نساءٍ، وثَمَرٌ ولِباسٌ، وهذا لا بدَّ أنْ يَعْلَقَ مِن القلبِ منه عالِقةٌ ولو قليلًا، وبمقدارِ ما عَلِقَ ينقُصُ مِن أجرِ الآخِرةِ، ولكنْ لا يأثَمُ به صاحِبُهُ ما دام قاصدًا إعلاءَ كَلِمةِ اللهِ، لأنّ اللهَ ما أحَلَّ الغنيمةَ وهم يأثَمُونَ بها.
ولمّا كانت منزِلةُ أصحابِ الأنبياءِ أقَلَّ مِن منزلةِ أصحابِ نبيِّنا محمَّدٍ ﷺ، ومنزِلةُ أتباعِهِمْ أقلَّ مِن منزِلةِ أتباعِ أصحابِ محمدٍ ﷺ ـ: رَحِمَهُمُ اللهُ بتحريمِ الغنيمةِ عليهم، وابتلاهُم بذلك، فهو ابتلاءٌ عاجِلٌ، ورحمةٌ آجِلةٌ.
الحكمةُ من تأخيرِ القتالِ:
ولم يكنِ القتالُ مأذونًا به في أولِ الأمرِ، لِضَعْفِ المؤمنينَ وقُوَّةِ المشرِكِينَ، فإنّ فَرْضَهُ أولَ الأمرِ يُخالِفُ الأخذَ بالأسبابِ الحسيَّةِ، ثمَّ أُذِنَ بالقتالِ بقولِهِ تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ [الحج: ٣٩]، ثمَّ نزَلَتْ آيةُ قتالِ المُبادِئِينَ بقتالِ المسلِمِينَ، كما تقدَّمَ في سورةِ البقرةِ في قولِه تعالى: ﴿وقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٠].
وهذه الآيةُ في ظاهرِ أمرِها أنّها نزَلتْ مِن اللهِ بعدَ آياتِ الفرائضِ المكتوبةِ، كالصومِ والقِصاصِ والوصيَّةِ.
ثم أذِنَ اللهُ بالقتالِ ابتداءً، ولم يَفرِضْهُ ولم يأمُرْ به، ثمَّ فرَضَهُ في هذه الآيةِ، وبيَّنَ حُكْمَهُ، ودفَعَ ما يَجِدُهُ الإنسانُ في نفسِهِ مِن الكراهيةِ لفَقْدِ النفسِ والمالِ والأهلِ، وأنّ ذلك يَعلَمُهُ اللهُ، ويجبُ ألاَّ يؤثِّرَ على حكمِ اللهِ وتشريعِهِ، ولهذا قال تعالى: ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾، إشارةً إلى الأمرِ الغيبيِّ مِن المصلحةِ التي تظهَرُ للإنسانِ بما يدركُهُ بحواسِّه.
وقولُه تعالى: ﴿وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾، يعني: لأجلِ خوفِ فقدِ النفسِ والمالِ، وهجرِ الأهلِ والأوطانِ.
والكُرْهُ بضمِّ الكافِ هو: الكراهِيَةُ ونُفُورُ الطبعِ مِن الشيءِ حسًّا أو معنًى، وكذلك الكَرْهُ بفتحِ الكافِ: هو أيضًا نفورُ الطبعِ على الأصحِّ، لأنّه جاء هنا بقراءةِ الوجهَيْنِ: الفتحِ والضمِّ.
وقيل: الكُرْهُ بالضمِّ: المشقةُ ونفورُ الطبعِ، وبالفتحِ: هو الإكراهُ مِن غيرِه جَبْرًا وقَسْرًا.
أنواعُ الكرْه والمحبَّةِ:
والكُرْهُ والمحبَّةُ كلاهما على نوعَيْنِ: كُرْهٌ ومحبَّةٌ طَبَعيَّةٌ، وكرهٌ ومحبَّةٌ شرعيَّةٌ:
الأولُ: الكُرْهُ الطَّبعيُّ، والمحبَّةُ الطبعيَّةُ، وذلك كما في الآيةِ، وكقولِهِ تعالى: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ووَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ [الأحقاف: ١٥]، وهذا النوعُ لو وجَدَهُ العبدُ في أمرٍ شرعيٍّ، ككراهةِ النفسِ للقتلِ ولو كان في سبيلِ اللهِ لِحُبِّ النفسِ للحياةِ، وشدةِ إخراجِ المالِ على النفسِ ولو كان زكاةً ونَفَقةً، وكراهةِ الوضوءِ في اليومِ الباردِ، وكراهةِ المرأةِ أنْ يتزوَّجَ عليها زَوْجُها ـ: فلا يقَعُ فيه تكليفٌ، ما لم يُنزلْهُ الإنسانُ على التشريعِ وحُكْمِ اللهِ، فيَكْرَهَ التشريعَ وحُكْمَ اللهِ بعينِهِ، لا آثارَهُ عليه، وإلا فالأصلُ أنّ حُكمَهُ حُكْمُ خَطَراتِ النفسِ وحديثِها.
وعلامةُ ذلك: أنّ المؤمِنَ قد يَجِدُ في نفسِهِ كُرْهًا لآثارِ الحُكْمِ، لا لذاتِ الحُكْمِ، فلو عَلِمَ أنّه لن يُقتَلَ، لَزالَ عنه ما يَجِدُ، ولو لم يَجِدْ شدةَ البَرْدِ، لَزالَ عنه ما يجدُ مِن كُرْهِ الوضوءِ في الشتاءِ، والمرأةُ تجدُ في نفسِها في زواجِ زوجِها عليها، ولا تجدُ في نفسِها عندَ زواجِ غيرِ زوجِها على زوجتِه، فهذا الكُرْهُ طَبَعيٌّ، لا يُؤاخَذُ الإنسانُ عليه، بل يُؤجَرُ على مجاهدتِهِ والصبرِ عليه.
فالنفورُ مِن الشيءِ في نفسِهِ يختلِفُ عن النفورِ مِن آثارِه، فمَن كَرِهَ الجهادَ ولو كان يقومُ به غيرُهُ، والنفقةَ ولو كانت مِن مالِ غيرِه، فهذا كرهُ التشريعِ، وكُرْهُهُ ليس كُرْهَ طَبْعٍ، ونفورُهُ ليس نفورَ نَفْسٍ.
وهذا هو الكُرْهُ الطبعيُّ، فكذلك المحبَّةُ الطبعيَّةُ، وذلك كميلِ النفسِ إلى حُبِّ المالِ والتكثُّرِ منه ولو كان حقًّا للغير، مع كرهِ السرقةِ ونحوِها واعتقادِ تحريمِها وكمَيْلِ النفسِ الأمّارةِ بالسوءِ إلى شهوةِ الفرجِ الحرامِ مع كُرْهِ الزِّنى واعتقادِ تحريمِهِ، فهذا لا يأثمُ به ما لم يَعْمَلْ أو يعتقِدْ، فإنْ عَمِلَ بلا اعتقادٍ، أثِمَ، وإنِ اعتقَدَ ولو لم يَعْمَلْ، كفَرَ، ولكنْ ما يجِدُهُ في نفسِهِ مِن مَيْلٍ ومحبةٍ، فلا يُؤاخَذُ به، بل يُؤجَرُ على مجاهَدةِ النفسِ بطردِهِ والبعدِ عن أسبابِه، لأنّ اللهَ ابتَلى به النفوسَ اختبارًا وامتحانًا، ولِتُؤجَرَ على مجاهدتِه ويعظُمَ لها الأجرُ بذلك، ولو كانتِ النفوسُ لا تشتهي الحرامَ مالًا ونساءً وطعامًا وشرابًا ولباسًا بطبعِها، ما كان للأجرِ على التركِ معنًى، لهذا يُؤجَرُ الإنسانُ على تركِ ما يُحِبُّه ويشتهِيهِ مِن الحرامِ، كلُبْسِ الحريرِ وشُرْبِ الخمرِ وأكلِ ما لم يُذكَرِ اسمُ اللهِ عليه، ولا يُؤجَرُ على تركِ ما لا يشتهِيهِ وما تَعافُهُ النفسُ بطبعِها، كشُرْبِ النجاسةِ كالبولِ، وأَكْلِها كالعَذِرَةِ.
الثاني: الكُرْهُ الشرعيُّ، والمحبَّةُ الشرعيَّةُ، وهي ما يعتقِدُهُ الإنسانُ ويتديَّنُهُ مِن محبَّةِ العقائدِ والأقوالِ والأعمالِ التي أمَرَ بها اللهُ ورسولُهُ ومحبَّةِ أهلِها، وكُرْهِ ما نَهى اللهُ عنه وكُرْهِ مَن وقَعَ في النهيِ.
وهي المحبَّةُ والكراهِيَةُ الخارجةُ عن الطبعِ، وهي المكتسَبةُ، فيقَعُ عليها التكليفُ، كحُبِّ أوامرِ اللهِ وأحكامِهِ، كالصلاةِ والزكاةِ والصومِ والحجِّ والجهادِ والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكَرِ، وحُبِّ أهلِها، ولو وجَدَ الإنسانُ بنفسِهِ كرهًا وتثاقلًا عنها لحظِّ نفسِهِ ولا يجدُ في نفسِه هذا الشيءَ لحظِّ غيرِهِ بل يُحِبُّها، فمَن كَرِهَ إقامةَ حدِّ السرقةِ لكونِهِ سارِقًا لخوفِهِ القطعَ، ولم يَجِدْهُ في نفسِهِ لو كان الحدُّ على غيرِهِ، لم يكنْ مُؤاخَذًا، أو وجَدَهُ مِن رحمةٍ طَبَعيَّةٍ لا تؤثِّرُ على اعتقادِهِ وقولِه، فلا يؤثِّرُ هذا على إيمانِه.
وعكسُ هذا كراهةُ ما نَهى اللهُ عنه مِنَ الخمرِ والميسرِ والقِمارِ والزِّنى والرِّبا وغيرِها.
وذِكْرُ اللَّهِ كراهةَ القتالِ في هذه الآيةِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾: دليلٌ على أنّ أحكامَ اللهِ لا تُؤخَذُ بما تَهْوى النفوسُ أو تَنفِرُ منه، فإنّ النفوسَ قد تُحِبُّ ما تُسلِّمُ العقولُ بشرِّهِ، فلا يكونُ حلالًا لأجلِ حبِّ النَّفْسِ وقد تكرَهُ النفوسُ ما تسلِّمُ العقولُ بخَيْرِهِ، فلا يكون حرامًا لأجلِ كراهةِ النَّفْسِ، وهذا فيما بينَ النفسِ وعقلِها، مع ضعفِ العقلِ وقصورِهِ عن علمِ اللهِ وإحاطتِه بأحوالِ الأحكامِ ومآلاتِها وآثارِها، فكيف بعلمِ مَن لا يَخْفى عليه شيءٌ، والسرُّ والجهرُ، والخفاءُ والعَلَنُ، والعاجِلُ والآجِلُ، والحاضِرُ والغائِبُ: عندَهُ في العلمِ سواءٌ؟!
وقولُه تعالى: ﴿وعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾: «عسى» في القرآنِ للتحقيقِ والوقوعِ، والمرادُ: ما تكرهونَهُ مِن أحكامِ اللهِ، ففيه الخيرُ الكثيرُ، ولكنْ حالَ دونَ إدراكِ ذلك النفسُ وقصورُ العلمِ.
ومِثلُه قولُه: ﴿وعَسى أنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وهُوَ شَرٌ لَكُمْ﴾، يعني: ما تُحِبُّهُ نفوسُكُمْ ممّا يَنْهى اللهُ عنه ففيه شَرٌّ لكم غالِبٌ، وبيَّنَ العلةَ مِن ذلك بقولِهِ: ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾.
والمرادُ بما يَكْرَهونَ هنا: هو الجهادُ، وما يُحِبُّونَ: هو القعودُ عنه، قاله سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ وغيرُهُ مِن السلفِ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٣٨٣ ـ ٣٨٤).]].
وجهلُ البشرِ بسَعَةِ عِلمِ اللهِ وقصورِ عِلْمِهم: هو سببُ ضلالِهم ومخالفتِهِمْ لأمرِ اللهِ، لأنّهم يُدرِكُونَ ما يَعلَمُونَ ويَظُنُّونَهُ كلَّ العِلْمِ، ولو عَلِموا ما غابَ عنهم، لاحتَقَرُوا عِلْمَهم وسلَّمُوا لحُكْمِ اللهِ، ولكنِ ابتلاهُمُ اللهُ بإدراكِ ما يعلَمُونَ، ففُتِنُوا فيه، وجَحَدُوا غيرَهُ.
وفي الآيةِ: إثباتٌ مِن اللهِ لمشيئةِ العبدِ، ولكنَّها بعدَ مشيئتِهِ تعالى، فهم قد يُحِبُّونَ ما يَكرَهُ اللهُ، وقد يَكرَهُونَ ما يُحِبُّ اللهُ، فيَفعَلونَ ما يَكرَهُهُ، ويَترُكونَ ما يُحِبُّه، مُخالِفينَ أمْرَ اللهِ، لِضَعْفِهم وعِصْيانِهم.
{"ayah":"كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهࣱ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـࣰٔا وَهُوَ خَیۡرࣱ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تُحِبُّوا۟ شَیۡـࣰٔا وَهُوَ شَرࣱّ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق