الباحث القرآني
قالَ تعالى: ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: ١٩٤].
مُنِعَ النبيُّ ﷺ في شهرِ ذي القَعْدةِ سنةَ سِتٍّ مِن دخولِ مَكَّةَ، لمّا ذهَبَ إليها قاصِدًا العُمْرةَ، وتصالَحَ مع المشرِكِينَ على دخولِها العامَ القابِلَ، وأن يُقِيمَ فيها ثلاثةَ أيّامٍ، فكان لهم ذلك بعدَما أعَدَّ المسلِمُونَ العُدَّةَ، تحسُّبًا لمنعِ المشرِكِينَ النبيَّ ﷺ وأصحابَهُ مِن دخولِ مكَّةَ ونَقْضِهِمُ العهدَ، فأبدَلَ اللهُ نبيَّهُ بشهرِ الصَّدِّ سَنَةَ ستٍّ شهرَ دخولٍ سَنَةَ سبعٍ، وهو شهرُ ذي القَعْدةِ الشَّهْرُ الحرامُ، وكانتِ العربُ تسمِّيهِ «ذا القَعْدةِ»، لأنّهم يقعُدُونَ فيه عن القتالِ، فسمّاهُ اللهُ بما يَعرِفونَه.
روى ابنُ جريرٍ الطبريُّ، مِن حديثِ ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ، في قولِ اللَّهِ ـ جلَّ ثناؤُه ـ: ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ﴾، قال: «فَخَرَتْ قُريشٌ بِرَدِّها رسولَ اللهِ ﷺ يوم الحُدَيْبِيَةِ مُحْرِمًا في ذي القَعْدةِ عنِ البلدِ الحَرامِ، فأدخَلَهُ اللهُ مكَّةَ في العامِ المُقْبِلِ من ذي القَعْدةِ، فقَضى عُمرتَهُ، وأقصَّهُ بما حِيلَ بينَه وبينَها يومَ الحديبيةِ»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٠٥).]].
وروى أيضًا، من حديثِ سعيدٍ، عن قَتادةَ، قولَه: ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ﴾: «أقبَلَ نبيُّ اللهِ ﷺ وأصحابُهُ، فاعتمَرُوا في ذي القَعْدةِ ومعَهُمُ الهَدْيُ، حتّى إذا كانوا بالحُدَيْبِيَةِ، صَدَّهُمُ المشرِكُونَ، فصالَحَهُم نبيُّ اللهِ ﷺ على أنْ يَرجِعَ مِن عامِهِ ذلك، حتّى يَرجِعَ مِنَ العامِ المُقبِلِ، فيكونَ بمكَّةَ ثلاثةَ أيّامٍ، ولا يَدْخُلَها إلاَّ بسِلاحِ راكبٍ ويَخْرُجَ، ولا يَخْرُجَ بأَحَدٍ مِن أهلِ مكَّةَ، فنَحَرُوا الهَدْيَ بالحُدَيْبِيَةِ، وحَلَّقُوا وقَصَّرُوا.
حتّى إذا كانَ مِنَ العامِ المُقبِلِ، أقبَلَ نبيُّ اللهِ وأصحابُهُ حتّى دخَلُوا مَكَّةَ، فاعتمَرُوا في ذي القَعْدةِ، فأقامُوا بها ثلاثَ ليالٍ، فكانَ المشرِكُونَ قد فخَرُوا عليه حِينَ رَدُّوهُ يومَ الحُدَيْبِيَةِ، فأَقَصَّهُ اللهُ منهم، فأدخَلَهُ مَكَّةَ في ذلك الشَّهْرِ الذي كانوا رَدُّوهُ فيهِ في ذي القَعْدةِ، فقال اللَّهُ: ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ﴾»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٠٦) و(٢١/٢٩٣).]].
وروى عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قلتُ لعَطاءٍ: وسألتُهُ عن قولِه: ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ﴾، قال: «نزلَتْ في الحُدَيْبِيَةِ، مُنِعُوا في الشَّهْرِ الحرامِ، فنَزَلَت: ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ﴾: عُمْرةٌ في شَهْرٍ حَرامٍ، بِعُمْرةٍ في شَهْرٍ حَرامٍ»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٠٩).]].
الحكمةُ مِن تأخيرِ دخولِ النبي ﷺ مكَّةَ:
وكانَ تأخيرُ دخولِ النبيِّ ﷺ لمَكَّةَ لحِكَمٍ كثيرةٍ، منها: أنْ يعتادَ المؤمنونَ على الصَّبْرِ، ومنها: أنّ اللهَ جعَلَ دخولَهُمُ العامَ السابِعَ أظهَرَ في القُوَّةِ والكثرةِ، فقد تتابَعَ الناسُ في السَّنَةِ السابِعةِ أكثَرَ مِن غيرِها، فكانوا أهْيَبَ في نفوسِ المشرِكِينَ، ولذا قدَّر اللهُ لهم دخولَ مكَّةَ في العامِ التاسعِ الثامنِ بِلا كبيرِ قتالٍ، للهَيْبةِ التي جعَلَها اللهُ في نفوسِ قريشٍ مِن المسلِمِينَ، ومنها: أنّ رؤيةَ قريشٍ للمسلِمينَ مرَّتَيْنِ سَنَةَ سِتٍّ وسَنَةَ سبعٍ أشدُّ وقعًا في قلوبِهم، وعلامةٌ على ثباتِ المسلِمِينَ وصَبْرِهم وإصرارِهم.
والأشهُرُ الحُرُمُ المذكورةُ في الآيةِ أربعةٌ، وهي المذكورةُ في الآيةِ: ﴿مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التوبة: ٣٦]، وهي: ثلاثةٌ سَرْدٌ، وواحدٌ فَرْدٌ، فأمّا السَّرْدُ المتتابِعةُ، فهي ذو القَعْدةِ وذو الحِجَّةِ والمحرَّمُ، وذلك لأنّ الحجَّ واقعٌ فيها ذَهابًا ورجوعًا وأداءً.
وأمّا الشَّهْرُ الفَرْدُ، فهو شهرُ رَجَبٍ، وكان أهلُ الجاهليَّةِ يسمُّونَهُ شهرَ العُمْرةِ، وقد حرَّمَتْهُ مُضَرُ كلُّها، ولذلك يقالُ له: رَجَبُ مُضَرَ.
وقد جاءَ في «الصحيحَيْنِ»، عن أبي بَكْرةَ رضي الله عنه، عنِ النبيِّ ﷺ، قال: (إنَّ الزَّمانَ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا، مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجَّةِ، والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بَيْنَ جُمادى وشَعْبانَ) [[أخرجه البخاري (٤٤٠٦) (٥/١٧٧)، ومسلم (١٦٧٩) (٣/١٣٠٥).]].
وإنّما سمّاه النبيُّ رَجَبَ مُضَرَ، لأنّ ربيعةَ تُسمِّي رَجبًا ما بين شَعْبانَ وشَوّالٍ، وهو رَمضانُ، تسمِّيه رَجبًا.
ولو لم يحرِّمِ اللهُ القتالَ في الأشهُرِ الحُرُمِ، لتعطَّلَ الحجُّ والعُمْرةُ، ولم يصبِحْ لحَرَمِ اللهِ هَيْبةٌ، وانتقَصَ أمانُهُ وانتقَضَ.
العمرةُ في أشهرِ الحجِّ:
واعتمَرَ النبيُّ أربعَ عُمَرٍ، كلُّهُنَّ في أشهُرِ الحَجِّ، وهُنَّ أشهُرٌ حُرُمٌ، وهذا دليلٌ على أنّ العُمْرةَ في أشهُرِ الحَجِّ أفضلُ مِن العُمْرةِ في غيرِها، حتّى رمَضانَ.
وأمّا حديثُ: (عُمْرَةٌ فِي رَمَضانَ تَعْدِلُ حَجَّةً) [[أخرجه البخاري (١٧٨٢) (٣/٣)، ومسلم (١٢٥٦) (٢/٩١٧).]]، فهذا فضلٌ، لا تفضيلٌ، وتتابُعُ فِعْلِ النبيِّ ﷺ على الاعتمارِ في أشهُرِ الحجِّ دليلُ القَصْدِ، وهذا لا يحدُثُ مصادَفةً، والفعلُ المتكرِّرُ أقوى من الحثِّ بالقولِ بلا فعلٍ، والفعلُ مع القولِ أقوى مِن أحَدِهما بدونِ الآخَرِ.
وكانَ السلفُ يَعتمِرُونَ في أشهُرِ الحَجِّ أكثَرَ مِن غيرِها.
والباءُ في قولِ اللَّهِ تعالى: ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ﴾ للتعويضِ، كقولِهم: صاعًا بصاعٍ، أيْ: إنّ الحُكْمَ واحدٌ للطَّرَفَيْنِ يَتَقابَلانِ بِه، روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن أيُّوبَ، عن عِكْرِمةَ، قال: قال ابنُ عَبّاسٍ: «رَضِيَ اللهُ بالقِصاصِ مِن عِبادِهِ، ويَأْخُذُ مِنكُمُ العُدْوانَ، قالَ اللَّهُ: ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ﴾، فَحَجَّةٌ بِحَجَّةٍ، وعُمْرَةٌ بِعُمْرَةٍ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٢٩).]].
ولذا قال تعالى: ﴿والحُرُماتُ قِصاصٌ﴾، أيْ: مماثلةٌ ومقابَلةٌ في المجازاةِ والانتِصافِ، وكما تكونُ المحرَّماتُ على أحدٍ، فيَنتهِكُها، فيسقُطُ التحريمُ عمَّن يُقابِلُه، فله أنْ يجازيَهُ بمِثْلِ عُدْوانِهِ عليهِ، كالسِّنِّ، بالسِّنِّ، والعَيْنِ بالعَيْنِ، والأُذُنِ بالأُذُنِ، فأصلُ العدوانِ حرامٌ، لكنْ لو وقَعَ للمعتدى عليه، أخَذَ القِصاصَ، وكذلك فيمَنِ اختَرَقَ حُكْمَ الأشهُرِ الحُرُمِ بالقتالِ، فله مقابَلَتُهُ بالمِثْلِ، وهذا شبيهٌ بما سبَقَ في قولِهِ تعالى: ﴿ولا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: ١٩١].
حرمةُ النفسِ أعظم من حرمة المكانِ والزمان:
وفي الآياتِ: دليلٌ على أنّ حُرْمةَ النفسِ أعظَمُ مِن حُرْمةِ الأزمنةِ والأمكنةِ، فأَباحَ اللهُ في الحَرَمِ وفي الشَّهْرِ الحرامِ القتالَ لِصَدِّ العُدْوانِ على النفسِ، لأنّ الأَزْمِنةَ لا تعظَّمُ إلاَّ بأفعالٍ، والأفعالُ لا تقومُ إلاَّ بفاعِلِينَ، فصيانةُ الفاعِلِينَ ـ وهم النفوسُ المعصومةُ ـ أوْلى.
وقالَ: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾، أيْ: بالمماثَلةِ كما فعَلُوا في شهرٍ حرامٍ، فقابِلُوهُ بمقاتَلَتِهِ في شهرٍ حرامٍ.
وقد ذكَرَ اللهُ سبحانَهُ حُكْمَ القتالِ والحاجةَ إليه، وبيَّن حُكْمَ القتالِ في حَرَمِ اللهِ، وهو المكانُ الذي كان يقصدُهُ المسلمونَ للعُمْرةِ، فخَشُوا مِن تربُّصِ المشرِكِينَ وخيانتِهم لهم، فأنزَلَ اللهُ ما سبَقَ مِن حُكْمِ القتالِ في البلدِ الحرامِ، ولمّا كان ذَهابُ المؤمِنِينَ إلى مَكَّةَ في الأشهُرِ الحُرُمِ، ناسَبَ ذلك بيانَ اللهِ حُكْمَ ما يجدونَهُ مِن حَرَجٍ في القتالِ في هذه الأشهُرِ.
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى أهمِّيَّةِ العِلْمِ والفَهْمِ قبلَ العمَلِ، حتّى يجتمِعَ الناسُ على حَقٍّ مستقرٍّ سابقٍ، فإنّ مسائلَ الخلافِ في الأحوالِ الحَرِجةِ يَنقسِمُ فيها الناسُ، وربَّما يتَقاتَلُونَ عليها لتأزُّمِ النفوسِ، فكان استقرارُ العلمِ والاجتماعُ عليه ـ خاصَّةً في المهمّاتِ كالقِتالِ ـ: مِن الواجباتِ، لهذا جاءَ الحُكْمُ الإلـهيُّ ببيانِ القتالِ وحدودِهِ مكانًا وزمانًا.
روى ابنُ جريرٍ، عن أيُّوبَ، عن عِكْرِمةَ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، في هذه الآيةِ: ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ﴾، قال: «أمرَكُمُ اللهُ بالقِصاصِ، ويأخُذُ منكمُ العُدْوانَ»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٠٨).]].
وروى عن معاويةَ بنِ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عباسٍ، قولَهُ: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾: «فهذا ونحوُهُ نزَلَ بمَكَّةَ والمسلِمونَ يومئذٍ قليلٌ، وليس لهم سُلْطانٌ يَقْهَرُ المشرِكِينَ، وكان المشرِكُونَ يَتَعاطَوْنَهُمْ بالشَّتْمِ والأذى، فأمَرَ اللهُ المسلِمِينَ، مَن يُجازِي منهم أن يُجازِيَ بمثلِ ما أُتِيَ إليه، أو يصبِرَ أو يعفُوَ، فهو أمثلُ، فلمّا هاجَرَ رسولُ اللهِ ﷺ إلى المدينةِ، وأعَزَّ اللهُ سلطانَهُ، أمَرَ المسلِمِينَ أنْ ينتَهُوا في مظالمِهم إلى سُلْطانِهم، وألاَّ يَعْدُوَ بعضُهم على بعضٍ كأهلِ الجاهليَّةِ»[[«تفسير الطبري» (٣/٣١٠)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٢٩).]].
حكمُ أخذِ المسلمِ حقَّه مِن دون الحاكم:
وإذا لم يَجِدِ المسلمُ حاكمًا يُنصِفُهُ، فهل له أن يأخُذَ حقَّه بنفسِهِ في غيرِ الحدودِ من غيرِ مَفْسَدةٍ؟ في المسألةِ قولانِ، وجمهورُ السَّلَفِ وأكثرُ الفقهاءِ على الجوازِ، روى أبو نُعَيْمٍ في «الحِلْيةِ»، عن قُدامةَ بنِ الهيثمِ، قال: «سألتُ عطاءَ بنَ مَيْسَرةَ الخُراسانيَّ، فقلتُ له: لي على رجلٍ حَقٌّ، وقد جَحَدني به، وقد أعْيا عليَّ البيِّنةُ، أفأَقْتَصُّ مِن مالِهِ؟ قال: أرأيتَ لو وقَعَ بجارِيتَكَ، فعَلِمْتَ، ما كنتَ صانعًا؟!»[[«حلية الأولياء» (٥/١٩٧).]]
ولصاحبِ الحقِّ أنْ يأخُذَ حقَّه إذا ظَفِرَ به، ولو لم يَعلَمْ مِن أحدٍ به، قال ﷺ لهِنْدَ بنتِ عُتْبةَ امرأةِ أبي سُفْيانَ، لمّا قالت له: إنّ أبا سُفْيانَ رجلٌ شحيحٌ، لا يُعْطيني مِن النَّفَقةِ ما يَكْفيني ويَكْفي بَنِيَّ إلاَّ ما أخَذْتُ مِن مالِهِ بغيرِ عِلْمِه، فهَلْ عليَّ جُناحٌ؟ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: (خُذِي مِن مالِهِ بِالمَعْرُوفِ ما يَكْفِيكِ ويَكْفِي بَنِيكِ) [[أخرجه البخاري (٢٢١١) (٣/٧٩)، ومسلم (١٧١٤) (٣/١٣٣٨).]].
روى عبدُ الرزّاقِ، وابنُ جريرٍ، وابن أبي حاتمٍ، عن خالدٍ، عنِ ابنِ سِيرِينَ: ﴿وإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦]، يقولُ: «إنْ أخَذَ مِنكَ رجلٌ شيئًا، فخُذْ مِنهُ مِثلَه»[[«تفسير عبد الرزاق» (١/٣٦١)، و«تفسير الطبري» (١٤/٤٠٥ ـ ٤٠٦)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٧/٢٣٠٨).]].
وعند عبد الرزّاقِ وابن جريرٍ عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قالَ: «إنْ أخَذَ مِنكَ شيئًا، فخُذْ مِنه مِثلَه»[[«تفسير عبد الرزاق» (١/٣٦١)، و«تفسير الطبري» (١٤/٤٠٦).]].
وبجوازِ أخْذِ الحقِّ عندَ الظَّفَرِ به يقولُ أكثرُ العلماءِ، وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ والثوريِّ وغيرِهم.
وأمّا إذا وجَدَ مالًا غيرَ مالِه، ولكنَّه يُساويهِ أو هو أقلُّ منه، هل له أن يَأخُذَهُ عن حقِّه أو بعضِهِ؟ هما قولانِ للعلماءِ، والصوابُ جوازُ ذلك إذا كان هذا لا يُفضِي إلى مَفْسَدةٍ عليه أشدَّ.
قال تعالى: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ أمَرَ اللهُ بتَقْواهُ، محذِّرًا من البغيِ في القتالِ، وأن يكونَ القتالُ بالقَدْرِ الذي يُدفَعُ به عُدْوانُهم وشَرُّهم، وبالتَّقْوى يكونُ العبدُ مع اللهِ بحِفْظِهِ ورِعايتِهِ وتسديدِهِ والنَّظَرِ إليه، وفي ذلك: إشارةٌ إلى أنّ معيَّةَ اللهِ لعبدِهِ بقَدْرِ تَمسُّكِهِ بتَقْواهُ وقُرْبِهِ منه، ولا يُصابُ عبدٌ إلاَّ بسببِ ذنبٍ اقترفَهُ، لهذا فأحوَجُ ما يكونُ الإنسانُ في أزمنةِ الفِتَنِ والشدائِدِ إلى التقوى والاستغفارِ من الذنوبِ، حتّى يزولَ الذنبُ، فتزولَ آثارُه.
وقد ذكَرَ اللهُ الأمرَ بتَقْواهُ بعدَ أنْ ذكَرَ القتالَ، ليبيِّنَ أنّ العِبْرةَ بتقوى الإنسانِ للهِ أكثرُ مِن العِبْرةِ بالعددِ والمالِ، فالأبدانُ والعُدَّةُ لا تكفي ما دامَتِ العزائمُ ضعيفةً لا تُقاتِلُ عقيدةً، وإنّما تقاتِلُ حَمِيَّةً وعصبيَّةً لِنَسَبٍ أو مُلْكٍ.
ولا تكونُ معيَّةُ اللهِ وعنايتُهُ وتأييدُهُ للمقاتِلِ حتّى يكونَ بتقوى، ولذا قال: ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ ﴾، فإذا ضَعُفَتْ معيَّةُ اللهِ لعبدٍ، ضَعُفَ انتصارُهُ، ووكَلَهُ اللهُ إلى نفسِه، وكُلَّما زادَتِ التقوى والعبوديَّةُ، زادت كفايةُ اللهِ للعبدِ، كما قال اللهُ: ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: ٣٦].
والآيةُ دليلٌ على أهميَّةِ وصيَّةِ المجاهِدِ بنَفْسِهِ ومالِهِ بتقوى اللهِ، وتذكيرِهِ بوجوبِ التقرُّبِ إلى اللهِ، لِيَقْرُبَ اللهُ منه، حتّى لا يَتَّكِلَ على نفسِهِ وقوَّتِهِ، فيَكِلَهُ اللهُ إليها.
حكمُ القتالِ في الأشهرِ الحُرُمِ:
وتحريمُ القتالِ في الأشهُرِ الحُرُمِ منسوخٌ باتفاقِ العلماءِ ـ إلاَّ شيئًا قاله عطاءٌ ـ حكى الاتفاقَ جماعةٌ مِن العلماءِ، وقد كانت العلةُ التي منَعَ اللهُ لأجلِها القتالَ في الأشهُرِ الحُرُمِ هي أنّ مَكَّةَ كانت بلادَ شِرْكٍ قبلَ الفتحِ، فإبقاءُ حُكْمِ التحريمِ كان لحِفْظِ طريقِ الحاجِّ والمعتمِرِ إلى البيتِ الحرامِ مِن القُطّاعِ، ولمّا فُتِحَتْ مَكَّةُ، ولم تكُنْ بعد ذلك بَلَدًا للكفرِ، وحرَّمَ اللهُ على المشركين دخولَها: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذا﴾ [التوبة: ٢٨]، بل أمَرَ اللهُ بإخراجِهِمْ مِن جزيرةِ العربِ، كما في الحديثِ في «الصحيحَيْنِ»: (أخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِن جَزِيرَةِ العَرَبِ) [[أخرجه البخاري (٣٠٥٣) (٤/٦٩)، ومسلم (١٦٣٧) (٣/١٢٥٧)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.]] ـ كان الحُجّاجُ في مَأْمَنٍ.
وأمّا المشرِكونَ، فهم بحاجةٍ إلى تتبُّعٍ وقصدٍ وملاحَقةٍ، لدفعِ شرِّهم، ولتقويةِ شوكةِ المسلِمِينَ، لذا نسَخَ اللهُ تحريمَ القتالِ في الأشهُرِ الحُرُمِ بِزوالِ سببِهِ، بل لتمامِ الحاجةِ إلى القتالِ فيها، وهي حفظُ بلادِ المسلِمِينَ وطريقِ الحاجِّ مِن تربُّصِهم، وكلَّما اتَّسَعَتْ دائرةُ بلادِ الإسلامِ، كانتِ الحاجةُ ماسَّةً لحمايةِ الأطرافِ، ومع اتِّساعِها تتَّسِعُ الحاجةُ للقتالِ، فكان واجبُ القتالِ الاتِّساعَ وعدَمَ الضِّيقِ.
مراحلُ القتالِ في الأشهر الحُرمِ:
ولِذا فإنّ الجهادَ في الأشهُرِ الحرُمِ مَرَّ بمَراحِلَ:
أوَّلُها التحريمُ المطلَقُ، كما سبَقَ.
ثمَّ خصَّصَهُ اللهُ بقولِه: ﴿ولا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: ١٩١]، إلى قولِه: ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ﴾.
ثمَّ نسَخَهُ اللهُ بقولِهِ: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُّمْ مِنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ﴾ [التوبة: ١ ـ ٢]، إلى قولِه: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، فاللهُ ضرَبَ لهُم أجَلًا، وهو انقضاءُ الأشهُرِ الحُرُمِ من العامِ التاسعِ للهِجْرةِ في زَمَنِ حَجَّةِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه بالناسِ، ثمَّ جعَلَ اللهُ نهايةَ الأَجَلِ هو نهايةَ محرَّمٍ من العامِ العاشرِ من السنةِ التاليةِ، وهي العاشرةُ، ثمَّ أحَلَّ القتالَ في كلِّ زمَنٍ.
وهو منسوخٌ بقولِ اللهِ تعالى: ﴿إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦].
وقد صحَّ عن النبيِّ ﷺ أنّه قاتَلَ في الأشهُرِ الحُرُمِ بعد ذلك، فقد غَزا هَوازِنَ بحُنَيْنٍ، وثَقِيفًا بالطائفِ في شهرِ ذي القَعْدةِ، كما في كُتُبِ الصحيحِ.
وأَغْزى أبا عامرٍ إلى أوْطاسٍ في الشهرِ الحرامِ.
وغَزْوةُ ذاتِ الرِّقاعِ لِثَمانٍ خَلَوْنَ مِن شَهْرِ المحرَّمِ، وغزا بني قُريْظةَ لسبعٍ بَقِينَ مِن ذي القَعْدةِ، وغزا غَزْوَتَهُ في تَبُوكَ لخَمْسٍ خَلَوْنَ مِن رجَبٍ.
وقد بايَعَ النبيُّ ﷺ على قتالِ قُرَيْشٍ بَيْعةَ الرِّضْوانِ في ذي القَعْدةِ، لمّا بلَغَهُ أنّ قُرَيْشًا قتلَتْ رسولَهُ عُثْمانَ بنَ عَفّانَ حِينَما أرسلَهُ إليهم، فغَدَرُوا به، فبايَعَهُمْ على القتالِ، فبانَ أنّ عثمانَ لم يُقتَلْ فصالَحَهُمْ.
والإجماعُ منعقِدٌ على جوازِ القتالِ في جميعِ أيّامِ السَّنَةِ ولياليها، ولعطاءِ بنِ أبي رَباحٍ قولٌ بعَدَمِ النَّسْخِ، فقد روى ابنُ جريرٍ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قلتُ لِعَطاءٍ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧]، قلتُ: ما لهم، وإذْ ذاكَ لا يَحِلُّ لهم أن يَغْزُوا أهلَ الشِّرْكِ في الشهرِ الحرامِ، ثمَّ غَزَوْهُم بعدُ فيه؟! فحلَفَ لي عطاءٌ باللهِ، ما يَحِلُّ للناسِ أن يَغْزُوا في الشهرِ الحرامِ، ولا أنْ يُقاتِلوا فيه، وما يُستَحَبُّ.
قال: ولا يَدْعُونَ إلى الإسلامِ قبلَ أن يُقاتِلوا، ولا إلى الجِزْيةِ، تَرَكُوا ذلك[[«تفسير الطبري» (٣/٦٦٣).]].
وقال أبو إسحاقَ الفَزارِيُّ: «سألتُ سُفْيانَ الثَّوْريَّ عنِ القتالِ في الشهرِ الحرامِ؟ فقال: هذا منسوخٌ، فلا بأسَ بالقتالِ فيهِ وفي غيرِهِ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٣٨٥).]].
والإجماعُ انعقَدَ، والعمَلُ مَضى على خلافِهِ.
روى عبدُ الرَّزّاقِ وابنُ جريرٍ، وابن أبي حاتمٍ، عن مَعْمَرٍ، عنِ الزُّهْريِّ، قال: «كان النبيُّ ﷺ فيما بلَغَنا يحرِّمُ القتالَ في الشهرِ الحرامِ، ثمَّ أُحِلَّ بعدُ»[[«تفسير عبد الرزاق» (١/٨٨)، و«تفسير الطبري» (٣/٦٦٣)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٣٨٤).]].
وقال بالنسخِ مِن مفسِّري السلفِ: ابنُ عبّاسٍ، ومجاهِدٌ، وقتادةُ، وعطاءُ بنُ مَيْسَرةَ، والضَّحّاكُ، وحبيبُ بنُ أبي ثابتٍ، وعبدُ الرحمنِ بنُ زَيْدٍ.
{"ayah":"ٱلشَّهۡرُ ٱلۡحَرَامُ بِٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡحُرُمَـٰتُ قِصَاصࣱۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَیۡكُمۡ فَٱعۡتَدُوا۟ عَلَیۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَیۡكُمۡۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق