الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلاَّ أنْ يَشاءَ اللَّهُ واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيْتَ وقُلْ عَسى أنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِن هَذا رَشَدًا ﴾ [الكهف: ٢٣ ـ ٢٤].
في هذه الآيةِ: مشروعيَّةُ الاستثناءِ عمّا يَعزِمُ الإنسانُ على فعلِهِ أو قولِهِ في المستقبَلِ، وهو أن يقولَ: «إنْ شاءَ اللهُ»، فإنّها تُقالُ بَرَكةً وتوكُّلًا على اللهِ واستعانةً به، وتُقالُ رفعًا للحَرَجِ عندَ اليمينِ والوعدِ بشيءٍ.
والاستثناءُ ينفعُ صاحِبَهُ في إيمانِهِ بربِّهِ ويقينِهِ به وتوكُّلِهِ عليه واستعانتِهِ به ولو كان مُنفصِلًا، فمَن نَسِيَهُ ينبغي له استدراكُه، فإنّه يُعلِّقُ القلبَ باللهِ، ويُعِينُ على تحقيقِ الغاياتِ المطلوبةِ، وفي «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أبي هريرةَ، قال رسولُ اللهِ ﷺ: (قالَ سُلَيْمانُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلى تِسْعِينَ امْرَأَةً، كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفارِسٍ يُجاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقالَ لَهُ صاحِبُهُ: قُلْ: إنْ شاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ: إنْ شاءَ اللهُ، فَطافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلَمْ يَحْمِلْ مِنهُنَّ إلاَّ امْرَأَةٌ واحِدَةٌ، جاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قالَ: إنْ شاءَ اللهُ، لَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فُرْسانًا أجْمَعُونَ)[[أخرجه البخاري (٦٦٣٩)، ومسلم (١٦٥٤).]].
الاستثناءُ في اليمينِ:
وذِكْرُ الاستثناءِ في اليمينِ يَحُلُّ عَقْدَها، فإنّ لليمينِ عَقْدًا لا بدَّ أن يَبقى، ويُحَلُّ بالاستثناءِ أو الكفّارةِ، ومَن استثنى عندَ حَلِفِهِ، لم يَلزَمْهُ الوفاءُ باليمينِ، لأنّ الاستثناءَ يَحُلُّها ويجعلُ الحالفَ كأنّه لم يَحلِفْ، ويُروى في الحديثِ مرفوعًا: (مَن حَلَفَ عَلى يَمِينٍ، ثُمَّ قالَ: إنْ شاءَ اللهُ، فَإنَّ لَهُ ثُنْياهُ)[[أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٤ /٣٠٣).]].
ورُوِيَ عن ابنِ عمرَ نحوُهُ مرفوعًا[[أخرجه أحمد (٢ /١٠)، وأبو داود (٣٢٦١)، والترمذي (١٥٣١)، والنسائي (٣٨٢٨).]] وموقوفًا[[«سنن الترمذي» (١٥٣١).]]، والأرجحُ وقفُه.
وبعضُ الفقهاءِ مِن أصحابِ مالكٍ يَرى أنّ الاستثناءَ يَرْفَعُ الكفارةَ، ولكنَّه لا يَحُلُّ اليمينَ.
والأشهَرُ: أنّه حَلٌّ لليمينِ، وعلى هذا عامَّةُ السلفِ.
وعامَّةُ العلماءِ: أنّ الاستثناءَ إنْ كان متَّصِلًا باليمينِ، فإنّه يَرفعُ وجوبَ وفائِهِ بها، ولكنَّهم اختلَفوا في حدِّ الاتِّصالِ المعتبَرِ تأثيرُهُ في الاستثناءِ، وفي الاستثناءِ المنفصلِ خلافٌ يسيرٌ.
أمّا الاستثناءُ المتَّصِلُ: فيتَّفِقونَ على أنّ ما كان اتصالُ الاستثناءِ بالكلامِ مع كلمةِ الحَلِفِ والقَسَمِ: أنّه معتبَرُ التأثيرِ في اليمينِ، وما لم يتَّصِلْ بالكلامِ اختُلِفَ فيه:
فمنهم مَن قال: يُعتبَرُ بالاستثناءِ ما دام في المَجْلِسِ، وبهذا قال طاوسٌ والحسنُ.
وقال عطاءٌ والشَّعْبيُّ والنخَعيُّ: إنّه لا يصحُّ إلاَّ موصولًا بالكلامِ، ولا يَضُرُّ فصلُ النَّفَسِ، وإذا انفصَلَ الحديثُ في أمرٍ آخَرَ ولو اتَّحَدَ المجلِسُ، فلا اعتبارَ بالاستثناءِ، وهذا قولُ جمهورِ العلماءِ، كمالكٍ والشافعيِّ والأوزاعيِّ.
وعن أحمدَ: أنّه ما دام في ذلك الأمرِ، ولم يتحوَّلْ إلى حديثٍ غيرِه، فإنّ الاستثناءَ صحيحٌ، وظاهرُهُ: أنّه إنِ انتقَلَ إلى حديثٍ آخَرَ ولو اتَّحَدَ المجلسُ، فإنّ الاستثناءَ لا يصحُّ.
وأمّا الاستثناءُ المنفصِلُ: فعامَّتُهم على عدمِ اعتبارِه.
وروى مجاهدٌ، عن ابنِ عبّاسٍ، في الرجُلِ يَحلِفُ، قال: «له أن يَستثنيَ ولو إلى سَنَةٍ، وكان يقولُ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيْتَ﴾»[[«تفسير الطبري» (١٥ /٢٢٥).]].
وبنحوِه قال أبو العاليةِ رُفَيْعُ بنُ مِهْرانَ والحسنُ، فقد روى الربيعُ عن أبي العاليةِ، في قولِه: ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلاَّ أنْ يَشاءَ اللَّهُ واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيْتَ﴾ الاستثناءَ، ثمَّ ذكَرْتَ فاستَثنِ[[«تفسير الطبري» (١٥ /٢٢٥).]].
ونحوُهُ عن الحسنِ، رواهُ الطبريُّ[[«تفسير الطبري» (١٥ /٢٢٦).]].
حمَلَ بعضُ الفقهاءِ ذلك: على أنّ الاستثناءَ المنفصِلَ معتبَرٌ في إسقاطِ الكفّارةِ ولو طال الزمنُ، ولعلَّ ما رُوِيَ في ذلك عن ابنِ عبّاسٍ: أنّ الاستثناءَ ـ ولو انفصَلَ ـ يصحُّ إلحاقُهُ بالكلامِ الأولِ ولو طال الفصلُ تبرُّكًا، وليس هذا مَساقَ إبطالِ الأَيْمانِ وإسقاطِ الكفّاراتِ، والآيةُ آمِرةٌ بالاستثناءِ عندَ العَزْمِ على مستقبلٍ: ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلاَّ أنْ يَشاءَ اللَّهُ واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيْتَ﴾.
وحمَل قِلَّةٌ الأمرَ على الوجوبِ، والمرادُ: أنّ المؤاخَذةَ والمُخالَفةَ تسقُطُ باستدراكِ الاستثناءِ ولو بعدَ عامٍ، لا أنّه يُسقِطُ الكفارةَ، فهذا لا يُناسِبُ فِقْهَ ابنِ عبّاسٍ، ومَن استوعَبَ قولَهُ في أبوابِ كفّاراتِ الأَيمانِ، عرَفَ أنّه لا يستقيمُ معه حملُ تفسيرِه لهذه الآيةِ على إسقاطِ الكفارةِ، فإنّ ابنَ عبّاسٍ له أقوالٌ في أبوابِ الكفّاراتِ، ولم يكنْ يُسقِطُها بالاستثناءِ، والآيةُ جاءتْ لبيانِ ذِكْرِ اللهِ عندَ النِّسْيانِ، والمشيئةِ عندَ العزمِ على ما يُستقبَلُ، وليستْ في مساقِ الأَيْمانِ والاستثناءِ بعدَها منفصِلًا.
ومَن نظَرَ في فقهِ أصحابِ ابنِ عبّاسٍ، وجَدَ أنّهم لا يقولونَ بهذا القولِ، ولو كان قولُ ابنِ عبّاسٍ كذلك، لَما تَرَكُوهُ جميعهُم، لجلالةِ قَدْرِه، والمرويُّ عنهم خلافُه، كعطاءٍ وطاوُسٍ وغيرِهما.
والقولُ بصحَّةِ الاستثناءِ المنفصِلِ كلِّه ضعيفٌ يُبطِلُ أبوابَ الأَيْمانِ وتعظيمَها، وكَفّاراتِها، ومَن نظَرَ في كلامِ أهلِ العربيَّةِ، وجَدَ أنّهم لا يَعتبِرونَ الاستثناءَ المنفصِلَ كلامًا صحيحَ الاتِّساقِ، ولا معدودًا في كلامِ العربِ، ولو صحَّ الاستثناءُ ولو بعدَ شهرٍ أو عامٍ، لم يكنْ للكفّاراتِ قِيمةٌ، ولا لوجوبِ الوفاءِ بالأَيْمانِ قَدْرٌ في الشرعِ، ويكونُ مَن حلَفَ يَستثني ولو بعدَ عامٍ ولا يُكفِّرُ ولا يَفِي، فلم يكنْ للأمرِ بالكفّارةِ معنًى، والنبيُّ ﷺ يُرشِدُ إلى الوفاءِ والكفّارةِ بعدَ لزومِ اليمينِ ولا يأمُرُ بالاستثناءِ، كما في «الصحيحِ»، قال ﷺ: (مَن حَلَفَ عَلى يَمِينٍ، فَرَأى غَيْرَها خَيْرًا مِنها، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، ولْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ)[[أخرجه مسلم (١٦٥٠).]].
واختُلِفَ في الاستثناءِ في غيرِ اليمينِ، كالطلاقِ والعَتاقِ، وعن أحمدَ ثلاثُ رواياتٍ:
إحداهـا: أنّ الاستثناءَ يصحُّ فيها كاليمينِ، وبهذا قال أبو حنيفةَ والشافعيُّ.
وثانيتها: أنّ الاستثناءَ لا يصحُّ إلاَّ في اليمينِ، وبهذا قال مالكٌ والأوزاعيُّ.
وفي ثالثةٍ: أنّه توقَّفَ، وعلى هذا أكثرُ الرواياتِ عنه.
ولا يصحُّ الاستثناءُ بالقَلْبِ، بل لا بدَّ مِن النُّطْقِ به في قولِ العلماءِ كافَّةً، خلافًا لبعضِ الفقهاءِ مِن أصحابِ مالكٍ، حيثُ جعَلُوا قياسَ قولِ مالكٍ صحةَ الاستثناءِ بالنِّيَّةِ.
ومَن عادتُهُ في يمينِهِ أنّه يَستثنِي، وحلَفَ ونَسِيَ ماذا قال، وشَكَّ في استثنائِه، فيُحمَلُ على عادتِهِ ويُعتبَرُ مستثنيًا، وعكسُهُ بعكسِه.
{"ayahs_start":23,"ayahs":["وَلَا تَقُولَنَّ لِشَا۟یۡءٍ إِنِّی فَاعِلࣱ ذَ ٰلِكَ غَدًا","إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِیتَ وَقُلۡ عَسَىٰۤ أَن یَهۡدِیَنِ رَبِّی لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَـٰذَا رَشَدࣰا"],"ayah":"وَلَا تَقُولَنَّ لِشَا۟یۡءٍ إِنِّی فَاعِلࣱ ذَ ٰلِكَ غَدًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق