الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ۝﴾ [النحل: ٩٨]. أمَرَ اللهُ بالاستعاذةِ مِن الشيطانِ عندَ قراءةِ القرآنِ، لأنّ الشيطانَ مع كُرْهِهِ للذِّكْرِ ونفورِهِ منه، إلاَّ أنّه يَتسلَّطُ على العبدِ باستحضارِ معاني السُّوءِ ومُتشابهاتِ القرآنِ ابتغاءً للفتنةِ منه، فيَصرِفُهُ عن التدبُّرِ والتفكُّرِ. والاستعاذةُ ليستْ آيةً في أوائلِ السُّوَرِ، وليس كلامُ السلفِ فيها كالبسملةِ، وإنّما الاستعاذةُ دعاءٌ والتِجاءٌ مِن العبدِ لربِّه عندَ قراءتِهِ القرآنَ. حُكْمُ الاستعاذةِ عندَ القِراءةِ: ويُشرَعُ عندَ استفتاحِ الصلاةِ بالفاتحةِ أن يستعيذَ القارئُ مِن الشيطانِ الرجيمِ، ولا خلافَ في ذلك، وإنّما خلافُ السلفِ في وجوبِ الاستعاذةِ عندَ ذلك على قولَيْنِ، هما روايتانِ عن أحمدَ: فذهَبتْ طائفةٌ: إلى الوجوبِ، وهو قولُ عطاءٍ والثوريِّ والأَوْزاعيِّ وداودَ، وهو روايةٌ عن أحمدَ اختارَها ابنُ بَطَّةَ مِن أصحابِنا، وقد حمَلُوا الأمرَ في الآيةِ على الوجوبِ، ومِن السلفِ: مَن يَرى وجوبَ الاستعاذةِ ولو مَرَّةً في العمرِ، فيرَوْنَ المَرَّةَ مُسقِطةً للوجوبِ. وذهَبتْ طائفةٌ: إلى استحبابِ التعوُّذِ عندَ ذلك، وهو قولُ أكثرِ العلماءِ، وهو المذهبُ عندَ أحمدَ. والأظهَرُ: أنّ الأمرَ في الآيةِ للاستحبابِ لا للوجوبِ، ولم يثبُتْ أنّ النبيَّ ﷺ أمَرَ بالاستعاذةِ عندَ القراءةِ أمرًا حمَلَهُ أصحابُهُ على الوجوبِ، ومَن تأمَّلَ كلامَ السلفِ، وجَدَ أنّهم لا يُوجِبونَ الاستعاذةَ، ويكادُ يكونُ ذلك عندَهم إجماعًا، وقد حكى الإجماعَ ابنُ جريرٍ[[«تفسير الطبري» (١٤ /٣٥٧).]] وغيرُه. وقد كان النبيُّ ﷺ يُعلِّمُ أصحابَهُ الصلاةَ، ولم يكنْ يأمُرُهُمْ بالاستعاذةِ، ولو كان واجبًا، لَما ترَكَ ذلك، ومِن ذلك تعليمُهُ المُسِيءَ في صلاتِه، وهو في «الصحيحَيْنِ»، فقد عَلَّمَهُ النبيُّ ﷺ الصلاةَ، فقال له: (إذا قُمْتَ إلى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ ما تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ...) [[أخرجه البخاري (٧٥٧)، ومسلم (٣٩٧).]]، فعلَّمَهُ الصلاةَ، ولم يُعلِّمْهُ الاستعاذةَ. على خلافٍ عندَ الفقهاءِ في مُوجِبِ الاستعاذةِ في الصلاةِ: هل هو للصلاةِ أو للقراءةِ؟: ومَن يَرى أنّها للصلاةِ، يرى الاستعاذةَ ولو لم يَتمكَّنِ المصلِّي مِن القراءةِ، فيكونُ حُكْمُها مستقِلًّا كحُكْمِ الاستفتاحِ، وإلى هذا ذهَبَ أبو يوسُفَ. وجمهورُ العلماءِ: على أنّ الاستعاذةَ للقراءةِ، ويرَوْنَها في الفَرْضِ والنَّفْلِ، وكان مالكٌ يُقيِّدُها بالنفلِ ويَكْرَهُها في الفرضِ. وإذا لم تَجِبِ الاستعاذةُ عندَ القراءةِ في الصلاةِ، فإنّها في خارجِها مِن بابِ أولى. صِيَغُ الاستعاذةِ: وقد كان النبيُّ ﷺ يستعيذُ بألفاظٍ وصِيَغٍ متعدِّدةٍ، وذلك بحَسَبِ المُوجِبِ والمُقتضِـي مِن الأحوالِ، منهـا قـولُهُ: (أعُوذُ بِوَجْهِكَ)[[أخرجه البخاري (٤٦٢٨).]]، ومنها: (أعُوذُ بِكَلِماتِ اللهِ التّامّاتِ) [[أخرجه مسلم (٢٧٠٨) و(٢٧٠٩).]]، ومنها قولُهُ: (أعُوذُ بِرِضاكَ مِن سَخَطِكَ) [[أخرجه مسلم (٤٨٦).]]، وله استعاذةٌ عندَ دخولِ الخلاءِ، وهي قولُهُ: (اللَّهُمَّ، إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ والخَبائِثِ) [[أخرجه البخاري (١٤٢)، ومسلم (٣٧٥).]]، وله استعاذةٌ عندَ الفَزَعِ، وهي قولُهُ: (بِاسْمِ اللهِ، أعُوذُ بِكَلِماتِ اللهِ التّامَّةِ، مِن غَضَبِهِ وعِقابِهِ، وشَرِّ عِبادِهِ، ومِن هَمَزاتِ الشَّياطِينِ، وأَنْ يَحْضُرُونِ) [[أخرجه أحمد (٢ /١٨١)، وأبو داود (٣٨٩٣)، والترمذي (٣٥٢٨)، والنسائي في «السنن الكبرى» (١٠٥٣٣).]]، وله استعاذةٌ عندَ تعويذِه بَنِيهِ، كما صنَع مع الحسَنِ والحُسَيْنِ، وهي قولُهُ: (أعُوذُ بِكَلِماتِ اللهِ التّامَّهْ، مِن كُلِّ شَيْطانٍ وهامَّهْ، ومِن كُلِّ عَيْنٍ لامَّهْ)، وذكَر أنّ إبراهيمَ كان يُعوِّذُ بها إسماعيلَ وإسحاقَ[[أخرجه البخاري (٣٣٧١).]]، وكان للنبيِّ ﷺ استعاذةٌ عندَ دخولِهِ المسجدَ، وهي قولُه: (أعُوذُ بِاللهِ العَظِيمِ، وبِوَجْهِهِ الكَرِيمِ، وسُلْطانِهِ القَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [[أخرجه أبو داود (٤٦٦).]]، ورُوِيَ له استعاذةٌ عندَ نزولِ المَنزِلِ[[أخرجه مسلم (٢٧٠٨).]]، وعندَ دخولِ البلدِ[[أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (٨٧٧٥).]]، وعندَ خطَراتِ النَّفْسِ ولَمَّةِ الشيطانِ[[أخرجه الترمذي (٢٩٨٨)، والنسائي في «السنن الكبرى» (١٠٩٨٥).]]. وأمّا الاستعاذةُ عندَ القراءةِ، فأصحُّ شيءٍ في ذلك هو ظاهرُ القرآنِ، وقولُه ﷺ: (أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)، كما جاء في حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٢٥٨٩).]]، وابنِ عمرَ، ولم يَختلِفِ العلماءُ على هذه الصيغةِ، وقد حكى الإجماعَ عليها غيرُ واحدٍ، كالشاطبيِّ وغيرِه. وجاء في «المسنَدِ» و«السُّننِ»: الاستعاذةُ عندَ القراءةِ بقولِه: (أعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، مِن هَمْزِهِ، ونَفْخِهِ، ونَفْثِهِ، ثُمَّ يَقْرَأُ) [[أخرجه أحمد (٣/٥٠)، وأبو داود (٧٧٥)، والترمذي (٢٤٢).]]، كما جاء في بعضِ ألفاظِ حديثِ أبي سعيدٍ وورَدَ ذِكْرُهُ في قيامِ الليلِ، كما في «السُّننِ»، ومنهم مَن حكى الإجماعَ على ذِكْرِ «السميعِ العليمِ» فيه، كأبي عمرٍو الدانيِّ، وهذا في بعضِ ألفاظِ حديثِ أبي سعيدٍ، ومِن حديثِ جُبَيْرِ بنِ مُطعِمٍ[[أخرجه أحمد (٤ /٨٠)، وأبو داود (٧٦٤)، وابن ماجه (٨٠٧).]]، وابنِ مسعودٍ[[أخرجه أحمد (١ /٤٠٣)، وابن ماجه (٨٠٨).]]، وأبي أُمامةَ[[أخرجه أحمد (٥ /٢٥٣).]]، وقد تكلَّمْنا على هذه الأحاديثِ في كتاب «العِلَلِ». وأمّا الاستعاذةُ، فلا يُجهَرُ بها، كما هو الأصحُّ في البسملةِ، وهي أوْلى بالإسرارِ مِن البسملةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب