الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿والأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ ومَنافِعُ ومِنها تَأْكُلُونَ ۝﴾ [النحل: ٥]. إظهارُ النِّعْمةِ في هذه الآيةِ بالانتفاعِ مِن صُوفِ الأنعامِ ووَبَرِها وجلودِها: دليلٌ على طهارةِ جلودِها. والآيةُ ذكَرَتِ الانتفاعَ بالجلودِ والشَّعَرِ والصوفِ بقولِه: ﴿لَكُمْ فِيها دِفْءٌ ومَنافِعُ﴾، ولم يُذكَرِ الذَّبْحُ، وذلك لا دَلالةَ فيه صريحةً على مسألةِ جِلدِ المَيْتَةِ، وذلك لأنّ اللهَ تعالى ذكَرَ الأكلَ بعدَ ذلك فقال: ﴿ومِنها تَأْكُلُونَ ۝﴾، ولا يعني ذلك جوازَ أكلِ المَيْتَةِ، ثمَّ إنّ الآيةَ جرَتْ على الأصلِ، أنّ الناسَ تَذبَحُ بهائمَ الأنعامِ ولا تُمِيتُها بخَنقٍ وغيرِ ذلك. وفي الآيةِ قُدِّمَ الدِّفءُ على الأكلِ، لأنّه أظهَرُ في النفعِ وأكثَرُ، فإنّ الناسَ تَلبَسُ وتَستدفئُ مِن الشُّعُورِ والصُّوفِ والجِلدِ أكثَرَ مِن أكلِها لِلَّحْمِ، فالاستِدفاءُ واللُّبسُ دائمٌ، والأكلُ عارضٌ، ثمَّ إنّ اللُّبسَ أدوَمُ وأَبْقى فيَلبَسُ الإنسانُ مِن جلودِ الأنعامِ وشَعَرِها ما يَبقى معه أعوامًا، والأكلُ منها يَستهلكُه في يومِه. وظاهرُ القرآنِ والسُّنَّةِ دالٌّ على أنّ جلودَ بهائمِ الأنعامِ المُذَكّاةِ طاهرةٌ جائزةُ الاستعمالِ، وهذا لا خلافَ فيه. الانتفاعُ مِن جُلُودِ المَيْتَةِ: وقد اختلَفَ العلماءُ في جلودِ المَيتةِ: هل يجوزُ الانتفاعُ بها بعدَ دَبْغِها أم تأخُذُ عمومَ تحريمِ المَيتةِ؟ على أقوالٍ: ذهَب أكثَرُ الفقهاءِ إلى أنّ الدِّباغَ يُطهِّرُها، والسُّنَّةُ دالَّةٌ على أنّ جِلدَ المَيتةِ إذا دُبِغَ فهو طاهرٌ، وذلك لقولِه ﷺ في حديثِ ميمونةَ لمّا مَرَّ بمَيتةٍ: (هَلاَّ أخَذْتُمْ إهابَها فَدَبَغْتُمُوهُ فانْتَفَعْتُمْ بِهِ)[[أخرجه مسلم (٣٦٣).]]، وقولِه ﷺ: (أيُّما إهابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ)[[أخرجه أحمد (١/٢١٩)، والترمذي (١٧٢٨)، والنسائي (٤٢٤١)، وابن ماجه (٣٦٠٩).]]. ولمالكٍ قولٌ أنّ جلودَ المَيتةِ لا تَطهُرُ بالدِّباغِ، ولكنَّه يُنتفَعُ مِن الجِلدِ بالشيءِ اليابسِ ولا يُصلّى عليه ولا يُؤكَلُ فيه، كما رواهُ عنه ابنُ عبدِ الحَكَمِ[[«التمهيد» (٤ /١٥٦ ـ ١٥٧)، و«تفسير القرطبي» (١٢ /٣٩٨).]]. وذهَب أحمدُ إلى أنّ المَيتةَ لا يُنتفَعُ منها بشيءٍ، لحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُكَيْمٍ[[أخرجه أحمد (٤ /٣١٠)، وأبو داود (٤١٢٨)، والترمذي (١٧٢٩)، والنسائي (٤٢٤٩)، وابن ماجه (٣٦١٣).]]، وقد ضعَّفَ الحديثَ ابنُ مَعِينٍ[[«تاريخ ابن معين» ـ رواية ابن محرز (١ /١٢٣).]] وغيرُه. وأمّا جلودُ ما دَلَّ الدليلُ على نجاستِه كالكلبِ والخِنزيرِ، فجمهورُ العلماءِ على تحريمِ الانتِفاعِ بجِلدِه، ولا يَطهُرُ بالدِّباغِ، خلافًا لداودَ وسُحْنُونٍ. وقد خصَّ مالكٌ المنعَ مِن الخِنزيرِ وحدَه، ولم يَرَ تحريمَ الانتفاعِ بجِلدِ الكلبِ، لأنّه لا يَرى نجاسةَ بدَنِه، ويخُصُّها بلُعابِه. وأمّا صوفُ المَيتةِ وشعورُها، فهو حلالٌ، وبهذا قال مالكٌ وأبو حنيفةَ والشافعيُّ في أحدِ أقوالِه. واستحَبَّ المالكيَّةُ غسْلَها، لِما رُوي عن أمِّ سلمةَ رضي الله عنها عن النبيِّ ﷺ أنّه قال: (لا بَأْسَ بِمَسْكِ المَيْتَةِ إذا دُبِغَ، ولا بَأْسَ بِصُوفِها وشَعَرِها وقُرُونِها إذا غُسِلَ بِالماءِ). وقد رواهُ الطبرانيُّ والدارقطنيُّ[[أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (٢٣ /٢٥٨)، والدارقطني في «سننه» (١ /٤٧).]]، ولا يصحُّ، ففيه يوسُفُ بنُ السَّفْرِ، وهو متروكُ الحديثِ. وقال الشافعيُّ في أحدِ قولَيْهِ بنجاسةِ شَعَرِ المَيتةِ وصُوفِها، وهو الصحيحُ عندَ جماعةٍ مِن أصحابِه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب