الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وشَهِدَ شاهِدٌ مِن أهْلِها إنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهُوَ مِنَ الكاذِبِينَ ۝وإنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وهُوَ مِنَ الصّادِقِينَ ۝فَلَمّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قالَ إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ۝﴾ [يوسف: ٢٦ ـ ٢٨]. اختُلِفَ في الشاهدِ الذي شَهِدَ على امرأةِ العزيزِ: فمنهم مَن قال: إنّه صبيٌّ نَطَقَ في مَهْدِه، وهذا رُوِيَ عن ابنِ عبّاسٍ[[«تفسير الطبري» (١٣ /١٠٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٧ /٢١٢٨).]]، وسعيدِ بنِ جُبيرٍ[[«تفسير الطبري» (١٣ /١٠٥)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٧ /٢١٢٨).]]، والحسنِ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٧ /٢١٢٨).]]. ومـنـهـم مَن قال: إنّه مِن غيرِ الإنسِ، وبهذا قال مجاهدٌ[[«تفسير الطبري» (١٣ /١١١)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٧ /٢١٢٨).]]. وقيل: رجلٌ مِن أهلِها، ورُوِيَ هذا عن ابنِ عبّاسٍ وقتادةَ وعِكْرمةَ[[«تفسير الطبري» (١٣ /١٠٨ ـ ١١٠)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٧ /٢١٢٩).]]. شهادةُ القَرِيبِ على قَرِيبِهِ، والأخذُ بالقرائنِ: وفي قولِه تعالى: ﴿وشَهِدَ شاهِدٌ مِن أهْلِها﴾ دليلٌ على قَبُولِ شهادةِ القريبِ على قريبِه، وذلك أنّ الشاهدَ مِن أهلِها لو شَهِدَ لامرأةِ العزيزِ، لكان مُتَّهَمًا، ولكنَّه لمّا شَهِدَ عليها، دَلَّ على صِدْقِه. وشهادةُ القَراباتِ وأهلِ البيتِ تُقبَلُ مِن بعضِهم على بعضٍ، ما لم يكنْ هناك تُهَمَةُ خصومةٍ، لأنّ القريبَ مع قريبِهِ والشريكَ مع شريكِهِ بينَهما محبَّةٌ ومودَّةٌ، ويُحِبُّ جَلْبَ الخيرِ له ودفْعَ الشرِّ عنه، فإنْ شَهِدَ عليه، فكان لتمحُّضِ صِدْقِهِ وإخلاصِهِ في طلبِ الحقِّ، ما لم يكنْ هناك تُهَمةٌ بينَهما ككراهيةٍ، كشهادةِ الزوجةِ على زوجِها وبينَهما خصومةٌ وكُرْهٌ، وكذلك سائرُ القَراباتِ، وهذا يُرجَعُ فيه إلى معرفةِ الحالِ، وأمّا شهادةُ القراباتِ والشُّرَكاءِ بعضِهم لبعضٍ، فلا تُقبَلُ، للتُّهَمةِ في ذلك. وقد تقدَّمَ الكلامُ على ذلك عندَ قولِهِ تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ أوِ الوالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ﴾ [النساء: ١٣٥]، وقولِهِ تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ألاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ [المائدة: ٨]. وفي هذا: اعتبارُ القرينةِ في الفَصْلِ في الخصوماتِ، فإنّ قميصَ يوسُفَ شُقَّ مِن دُبُرِه، لأنّها كانتْ تطلُبُهُ وهو يهرُبُ منها إلى البابِ، فجُعِلَ شَقُّ القميصِ مِن الخَلْفِ قرينةً على هروبِهِ منها، وجُعِلَ شقُّ القميصِ مِن الأمامِ قرينةً على إقبالِهِ عليها، وجُعِلَ وجودُ شقٍّ في القميصِ قرينةً على وجودِ ممتنِعٍ مِن الفاحشةِ مِن الطرَفَيْنِ. والقرائنُ مُعتبَرةٌ في الشريعةِ، ومتى قَوِيَتْ ولم يُوجَدْ قرينةٌ أقْوى منها تُخالِفُها وكانتْ قويَّةً، قامتْ مقامَ الدليلِ، وإذا وُجِدَ ما هو مِثلُها أو أقْوى منها أو ما يُقارِبُها ممّا يُذهِبُ قُوَّتَها، تُرِكَتْ، كما تقدَّمَ في قرينةِ وضعِ الدمِ على قميصِ يوسُفَ، ورَدِّ يعقوبَ لها بقرائنَ أقْوى منها. والقرائنُ ليستْ على مَرْتَبةٍ واحدةٍ في الشريعةِ ولا في العقلِ، فإمّا أن تكونَ قاطعةً، أو ظنيَّةً، أو متوهَّمةً، وكلُّ واحدةٍ مِن هذه القرائنِ تختلِفُ منزلتُها مِن حاكمٍ إلى آخَرَ، ومِن حالٍ إلى أُخرى، بحسَبِ ما يقعُ في النفوسِ: فأمّا القرائنُ القاطعةُ: فهي ما كان الحُجَجُ فيه غيرَ بيِّناتٍ: ممّا يَقطعُ معها الحاكمُ لزومَ الحقِّ لجهةٍ، كأنْ يُوجَدَ سجينٌ مقتولٌ بآلةٍ أو بخَنْقٍ بيِّنٍ، ولا يُوجَدُ معه إلاَّ واحدٌ، ولا يدخُلُ عليهما أحدٌ، وانتفَتْ قرائنُ الانتحارِ، وقد تجتمِعُ عِدَّةُ قرائنَ ظنيَّةٍ وتتكاثَرُ ولا يُقابِلُها شيءٌ، فتكونُ مجتمِعةً قرينةً قطعيَّةً، وإن كانتْ كلُّ واحدةٍ منها ظنيَّةً. والقرائنُ القاطعةُ مُعتبَرةٌ عندَ أكثرِ الفقهاءِ، وقد قَضى النبيُّ ﷺ لأحدِ ابنَيْ عَفْراءَ لمّا تداعَيا قتلَ أبي جهلٍ، فقال لهما رسولُ اللهِ ﷺ: (هَلْ مَسَحْتُما سَيْفَيْكُما؟)، قالا: لا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقالَ: (كِلاكُما قَتَلَهُ)، وقَضى بِسَلَبِهِ لِمُعاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ[[أخرجه البخاري (٣١٤١)، ومسلم (١٧٥٢).]]. فأخَذَ بأثرِ السيفِ وما عليه مِن دمٍ. ومِن ذلك: أنّ النبيَّ ﷺ أمَرَ المُلتقِطَ أن يدفَعَ اللُّقَطَةَ إلى واصِفِها، وأمَرَهُ أن يَعرِفَ عِفاصَها ووِعاءَها ووِكاءَها، فجعَل وصْفَهُ لها قرينةً تُملِّكُهُ الحقَّ. وأمّا القرائنُ الظنيَّةُ: فهي ما كان مِن القرائنِ التي لا تكفي وحدَها للحُكْمِ على أحدٍ بحقٍّ، ولا يجسُرُ الحاكمُ معها على تكذيبِ صاحِبِها ولا تصديقِه، ما لم يأتِ بقرينةٍ مِثلِها أو أقْوى منها، كعدمِ تمزيقِ قميصِ يوسُفَ: قرينةٌ على براءةِ الذئبِ منه، وكشَقِّ قميصِ يوسُفَ مِن ورائِه: قرينةٌ على أنّها تُراوِدُهُ لا يُراوِدُها، وقد تجتمِعُ مع ظنيّاتٍ أُخَرَ، كما تقدَّمَ، فتكونُ قرينةً قاطعةً. وأمّا القرائنُ المتوهَّمةُ: فهي القرائنُ التي لا اعتبارَ بها، ولو انضَمَّ إليها مِثْلُها، ما لم تَستفِضْ، وذلك كوجودِ طعامٍ في بيتِ أحدٍ اتُّهِمَ بسرقتِه، وهذا الطعامُ يُوجَدُ في بيوتِ أكثَرِ الناسِ مِثلُهُ كالتمرِ والعنبِ، ما لم يكنْ في بَيْدَرٍ أو وسْقٍ أو حاويةٍ على وصْفٍ ولونٍ يَختَصُّ بالمسروقِ، فتلك قرينةٌ أُخرى تَرفَعُ التوهُّمَ إلى الظنِّ. ومِن القرائنِ: ما لا يُمكِنُ وصفُهُ ولا تمييزُه، وذلك ممّا يبدو على وجوهِ المُتخاصِمِينَ، مِن جسارةٍ بالمُطالَبةِ، أو ارتباكٍ، أو حِرْصٍ، أو تناقُضٍ وتردُّدٍ، فهذا مما لا يَقدِرُ القاضي على التعبيرِ عنه بالكتابةِ، ولكنَّها قرائنُ تقوِّي غيرَها. وقد تجتمِعُ قرائنُ مِن ذلك، ظنيّاتٌ مع متوهَّماتٍ، تقوِّي القضاءَ بالقرينةِ، كما في قولِ سُلَيْمانَ نبيِّ اللهِ ﷺ للمرأتَيْنِ اللتَيْنِ ادَّعَتا الولدَ، فحكَمَ به داودُ ﷺ للكُبْرى، فقال سُلَيْمانُ: «ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أشُقُّهُ بَيْنَهُما»، فسمَحَتِ الكُبْرى بذلك، فقالتِ الصُّغرى: «لا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللهُ، هُوَ ابْنُها!»، فَقَضى بِهِ لِلصُّغْرى[[أخرجه البخاري (٣٤٢٧)، ومسلم (١٧٢٠).]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب