الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿وراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وغَلَّقَتِ الأَبْوابَ وقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أحْسَنَ مَثْوايَ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ ۝﴾ [يوسف: ٢٣]. نادَتِ امرأةُ العزيزِ يوسُفَ بعدَ مُراوَدةٍ على الفاحشةِ، وإغلاقٍ للأبوابِ عن الخَلْقِ، وقد ذكَرَ اللهُ وقوعَ المُراوَدةِ مِن امرأةِ العزيزِ ليوسُفَ بقولِه: ﴿الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها﴾، يعني: أنّه أُرِيدَ مِن ذاتِ سُلْطانٍ وجاهٍ، وهذا مِن عظيمِ الفتنةِ للرِّجالِ، كما قال ﷺ في السَّبْعَةِ الذين يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه: (ورَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجَمالٍ)[[أخرجه البخاري (١٤٢٣)، ومسلم (١٠٣١).]]، فقدَّمَ المَنصِبَ على الجمالِ، لأَثَرِهِ في النفوسِ، والأصلُ: أنّ الملوكَ لا يَختارونَ إلاَّ ذاتَ الجمالِ ولو كانتْ بلا دِينٍ، ولم يذكُرِ اللهُ جمالَ امرأةِ العزيزِ في السورةِ، لأنّها حتى لو كانتْ كذلك، فلا يَلِيقُ أنْ يُظَنَّ بنبيٍّ أنّه ينظُرُ إليها، فذكَرَ اللَّهُ المَنصِبَ والجاهَ: ﴿هُوَ فِي بَيْتِها﴾، ولم يذكُرْ جمالَها، فالجاهُ يحضُرُ في قلبِ الإنسانِ، خاصَّةً إن كان متَّصِلًا به بسببٍ، كحالِ يوسُفَ، فهو مُشترًى منهم، مُستعبَدٌ لدَيْهم، وجاهُهُمْ لم يتكلَّفْ يوسُفُ حضورَهُ في قلبِهِ، كما يتكلَّفُ الإنسانُ عادةً النظرَ إلى المرأةِ، فحضورُ الجاهِ واردٌ، وإطلاقُ البصرِ صادرٌ. أسبابُ امتِناعِ يُوسُفَ مِنِ امرأةِ العَزِيزِ: وامتنَعَ يوسُفُ مِن امرأةِ العزيزِ لِسَبَبَيْنِ: الأوَّلُ: الخوفُ مِن اللهِ، لقولِه: ﴿مَعاذَ اللَّهِ ۝﴾، وهذا التجاءٌ إلى اللهِ مِن أن يقَعَ فيما يُغضِبُه. الثاني: تعظيمُ خيانةِ مَن ائتمَنَكَ على بيتِهِ وأهلِهِ، وذلك في قولِه تعالى: ﴿إنَّهُ رَبِّي أحْسَنَ مَثْوايَ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ ۝﴾، قال مجاهدٌ وابنُ إسحاقَ: ﴿رَبِّي ۝﴾، يعني: سيِّدي[[«تفسير الطبري» (١٣ /٧٩)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٧ /٢١٢٢).]]، يُريدُ: العزيزَ، فإنّه ائتمَنَهُ على بيتِهِ وأهلِه، فإنّ الفِطَرَ والشرائعَ دالَّةٌ على أنّ الحرامَ الواحدَ يغلَّظُ إنِ اجتمَعَ فيه أسبابٌ مكروهةٌ أُخرى، فإنّ اللهَ جعَلَ الزِّنى بحَلِيلَةِ الجارِ أعظَمَ مِن الزِّنى بالبعيدةِ، وقد سُئِلَ النبيُّ ﷺ: أيُّ الذنبِ أعظَمُ؟ فقال بعدَما ذكَرَ الشِّرْكَ: (أنْ تُزانِيَ حَلِيلَةَ جارِكَ) [[أخرجه البخاري (٤٤٧٧)، ومسلم (٨٦).]]، والزِّنى بذاتِ المَحرَمِ أعظَمُ مِن غيرِها، وزِنى الشيخِ الأُشَيْمِطِ أعظَمُ مِن زِنى الشابِّ، كما في مسلمٍ، مِن حديثِ أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ ـ قالَ أبُو مُعاوِيَةَ: ولا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ ـ ولَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ: شَيْخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كَذّابٌ، وعائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ) [[أخرجه مسلم (١٠٧).]]. ويوسُفُ عظَّمَ الذنبَ مِن جهتَيْه: مِن جهةِ حقِّ اللهِ، ومِن جهةِ حقِّ المخلوقِ عليه. حُكْمُ الوَعْظِ بوازِعِ الطَّبْعِ: وفي هذا: دليلٌ على جوازِ الاستِدلالِ بوازِعِ الطبعِ على الإقلاعِ عن المحرَّمِ، ولكنَّ الكمالَ ألاَّ يُذكَرَ إلاَّ بعدَ وازِعِ الشرعِ، وهو الخوفُ مِن اللهِ، وأنّه يجوزُ وعظُ الناسِ للإقلاعِ عن المحرَّمِ بوازعِ الطبعِ، كقولِ: لا يصحُّ مِن العربِ ولا أخلاقِهم الخيانةُ والغدرُ والفجورُ، وذلك أنّ طلبَ الإقلاعِ عن المحرَّمِ أهوَنُ مِن طلبِ الامتثالِ بالعبادةِ، وأعظَمُ الغاياتِ في الحرامِ هو أن يُترَكَ، وأعظَمُ الغاياتِ مِن فعلِ العبادةِ إخلاصُها للهِ، فإنّ الحرامَ لو ترَكَهُ الإنسانُ لغيرِ اللهِ، لم يَأْثَمْ، لكنَّه لا يُؤجَرُ، ولكنَّ العبادةَ لو فعَلَها أحدٌ لغيرِ اللهِ، أشرَكَ بفعلِه ذلك، بل تركُهُ لها خيرٌ مِن إنشائِها لغيرِ اللهِ. ولا يجوزُ أن يُوعَظَ الناسُ بالطبعِ المجرَّدِ عن قصدِ التعبُّدِ بفعلِ العباداتِ، ولكنْ يصحُّ تَبَعًا، كأنْ يأمُرَهُ بالصلاةِ والصيامِ والحجِّ ويُذكِّرَهُ بحقِّ اللهِ ووجوبِ الوفاءِ له بامتثالِ أمرِه، ثمَّ يذكُرَ فضلَ قومِهِ وأخلاقَهُمْ وصِدقَهُمْ وعبادتَهُمْ للهِ. ويَدُلُّ على جوازِ الوعظِ للإقلاعِ عن المحرَّمِ بوازِعِ الطبعِ قولُهُ ﷺ: (مَنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ) [[أخرجه البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩).]]، يعني: حتى لا يقَعَ الناسُ فيه، فعليه أنْ يَحمِيَ عِرْضَهُ بتَرْكِ الشُّبُهاتِ. وقال تعالى: ﴿الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها﴾، ولم يقُلْ: «في بيتِ العزيزِ»، إشارةً إلى أنّ المرأةَ سيِّدةٌ في بيتِها، ولمّا ذكَرَ اللهُ العزيزَ، قال: ﴿وأَلْفَيا سَيِّدَها لَدى البابِ﴾ [يوسف: ٢٥]، يعني: أنّ المرأةَ سيِّدةٌ في بيتِها، والزوجَ سيِّدٌ على زوجتِه، كما جاء في حديثِ أبي هريرةَ عندَ ابنِ السُّنِّيِّ[[سيأتي تخريجه.]]: «وإذا حضَرَتْ سيادةُ الزوجِ، غابتْ سيادةُ المرأةِ»، كما يأتي في الآيةِ التاليةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب