الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿وأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذَلِكَ ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ ۝﴾ [هود: ١١٤]. هذه الآيةُ مُفسِّرةٌ لِما أُجمِلَ مِن وجوبِ أداءِ الصلاةِ لِوَقْتِها في قولِهِ تعالى: ﴿إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا ۝﴾ [النساء: ١٠٣]، وقد جاءَ في القرآنِ بيانٌ لمَواقِيتِ بعضِ الصلواتِ أو جميعِها، منها في هذه الآيةِ. آياتُ المَواقِيتِ: وقد جاءَ في وقتِ صلاةِ الصُّبْحِ والعَصْرِ قولُهُ تعالى: ﴿وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ الغُرُوبِ ۝﴾ [ق: ٣٩]، وفي «الصحيحَيْنِ»، أنّ النبيَّ ﷺ قال: (فَإنِ اسْتَطَعْتُمْ ألاَّ تُغْلَبُوا عَلى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِها، فافْعَلُوا)، ثمَّ قرَأَ هذه الآيةَ[[أخرجه البخاري (٥٥٤)، ومسلم (٦٣٣).]]. وقد جاءتْ جميعُ الصلَواتِ ابتداءً مِن الظُّهْرِ بالذِّكْرِ في قولِهِ تعالى: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا ۝﴾ [الإسراء: ٧٨]، والدُّلُوكُ: زوالُ الشمسِ كما رُوِيَ عن ابنِ عبّاسٍ وابنِ عمرَ[[«تفسير الطبري» (١٥ /٢٥).]]، يعني: دخولَ وقتِ الظُّهْرِ، ثمَّ في قولِهِ تعالى: ﴿إلى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾، يعني: بقيَّةَ الصلواتِ: العصرُ والمغربُ والعشاءُ، ثمَّ خَصَّ الفجرَ بالذِّكْرِ كما خَصَّ الظُّهْرَ، فقال: ﴿وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا ۝﴾، يعني: صلاةَ الفجرِ. ويذكُرُ اللهُ التسبيحَ في مَواضِعَ مِن كتابِهِ ويُريدُ به الصلاةَ، ومِن ذلك قولُه تعالى: ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وحِينَ تُصْبِحُونَ ۝ولَهُ الحَمْدُ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ وعَشِيًّا وحِينَ تُظْهِرُونَ ۝﴾ [الروم: ١٧ ـ ١٨]. وقد جاء عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه أنّه قال: الصلواتُ الخمسُ في القرآنِ، فقيل له: أينَ؟ فقال: قال اللهُ تعالى: ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾: صلاةُ المغربِ والعِشاءِ، ﴿وحِينَ تُصْبِحُونَ ۝﴾: صلاةُ الفجرِ، ﴿وعَشِيًّا ۝﴾: العصرُ، ﴿وحِينَ تُظْهِرُونَ ۝﴾: الظُّهرُ[[«تفسير الطبري» (١٨/٤٧٤)، و«تفسير القرطبي» (١٦ /٤٠٨).]]. وبنحوِه رُوِيَ عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ والضَّحّاكِ[[«تفسير القرطبي» (١٦ /٤٠٩).]]. وسأَلَ نافعُ بنُ الأَزْرَقِ ابنَ عبّاسٍ، فقال له: هل نجدُ ميقاتَ الصلواتِ الخَمْسِ في كتابِ اللهِ؟ قال: نَعَمْ، ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾ [الروم: ١٧]: المغربُ، ﴿وحِينَ تُصْبِحُونَ ۝﴾ [الروم: ١٧]: الفجرُ، ﴿وعَشِيًّا﴾ [الروم: ١٨] العصرُ، ﴿وحِينَ تُظْهِرُونَ ۝﴾ [الروم: ١٨]: الظُّهْرُ، قال: ﴿ومِن بَعْدِ صَلاةِ العِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ﴾ [النور: ٥٨] [[«تفسير الطبري» (١٨ /٤٧٤).]]. وصحَّ عن قتادةَ وابنِ زيدٍ، أنّهما جعَلاها دليلًا على أربعةِ مواقيتَ، هي: المغربُ والفجرُ والعصرُ والظُّهْرُ[[«تفسير الطبري» (١٨ /٤٧٥).]]. وحمَلَ غيرُ واحدٍ مِن السلفِ التسبيحَ على الصلاةِ في قولِه تعالى: ﴿وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِها﴾ [طه: ١٣٠]. وفي آيةِ البابِ: بيانُ وجوبِ أداءِ الصلواتِ في وقتِها، وأنّ أداءَ الصلاةِ في غيرِ وقتِها لا يحقِّقُ فَضْلَها مِن كَسْبِ الحسناتِ وتكفيرِ السيِّئاتِ، وكلَّما كانتِ الصلاةُ في وقتِها، كان ذلك أعظَمَ للأجرِ وأكبَرَ للأثرِ، وقد سُئِل النبيُّ ﷺ عن أفضَلِ العملِ؟ فقال: (الصَّلاةُ عَلى وقْتِها)[[أخرجه البخاري (٥٢٧)، ومسلم (٨٥).]]. وعامَّةُ المفسِّرينَ: أنّ المرادَ بصلاةِ طرَفِ النهارِ الأوَّلِ هي صلاةُ الفجرِ، ولا يَختلِفونَ في هذا، وإنّما يَختلِفونَ في طرَفِ النهارِ الآخَرِ وصلاةِ الزُّلَفِ مِن الليلِ، وهذا يدُلُّ على فضلِ الفجرِ على غيرِها، وكونِها مشهودةً، كما في قولِهِ تعالى: ﴿إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا ۝﴾ [الإسراء: ٧٨]. وقد قال ابنُ عبّاسٍ في قولِهِ تعالى: ﴿طَرَفَيِ النَّهارِ﴾: «إنّ المرادَ بالصلاةِ هنا هي المغرِبُ والفجرُ»، كما رواهُ عنه عليُّ بنُ أبي طلحةَ[[«تفسير الطبري» (١٢ /٦٠٣).]]، وبنحوِه رُوِيَ عن الحسنِ البصريِّ[[«تفسير الطبري» (١٢ /٦٠٣).]]. وفسَّرَ مجاهدٌ ومحمدُ بنُ كعبٍ والضحّاكُ صلاةَ طرَفَيِ النهارِ بجميعِ صلاةِ النهارِ، وهي الفجرُ والظُّهْرُ والعَصْرُ[[«تفسير الطبري» (١٢ /٦٠٢)، و«تفسير ابن كثير» (٤ /٣٥٤).]]. ومنهم: مَن جعَلَ مع الفجرِ العصرَ خاصَّةً، وبهذا قال قتادةُ والحسنُ في قولٍ[[«تفسير الطبري» (١٢ /٦٠٥).]]. وهذا كلُّه مِن التنوُّعِ لا الحصرِ الخاصِّ فيما يَظهَرُ، لصحةِ الأقوالِ عن بعضِهم في استيعابِ صلاةِ النهارِ وصلاةِ الليلِ. والزُّلَفُ هو المَنزِلةُ، والمرادُ بها الساعاتُ مِن الليلِ، وفسَّرَهُ ابنُ عبّاسٍ ومجاهدٌ: بصلاةِ العشاءِ[[«تفسير الطبري» (١٢ /٦٠٨).]]، والأصلُ: أنّ مَن أدخَلَ المغربَ في طرَفَيِ النهارِ، فإنّه يُخرِجُها مِن قولِه تعالى: ﴿وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾، ومَن أخرَجَ المغربَ مِن ﴿طَرَفَيِ النَّهارِ﴾ وخَصَّها بالفجرِ والظُّهرِ والعصرِ، فإنّه يُدخِلُ المغربَ في قولِه: ﴿وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾، حتى تكونَ الآيةُ شاملةً لمواقيتِ الصلواتِ تامةً التي أوجَبَ اللهُ أداءَها على وقتِها، كما في قولِه تعالى: ﴿إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا ۝﴾ [النساء: ١٠٣]. وجعَلَ الحسنُ: ﴿وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ صلاةَ العشاءِ وصلاةَ المغرِبِ[[«تفسير الطبري» (١٢ /٦٠٩)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٦ /٢٠٩١).]]. واستحَبَّ ابنُ عبّاسٍ بهذه الآيةِ تأخيرَ العشاءِ، أخذًا مِن قولِهِ تعالى: ﴿وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾، كما رواهُ عنه عبدُ اللهِ بنُ أبي يزيدَ[[«تفسير الطبري» (١٢ /٦٠٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٦ /٢٠٩١).]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب