الباحث القرآني

قال الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ۝﴾ [الماعون: ٤ ـ ٥]. توعَّد اللهُ الغافِلِينَ عن الصلاةِ المتكاسِلينَ عنها بالوعيدِ الشديدِ، وهذه الآيةُ فيمَن يصلِّي، لأنّ اللهَ قال: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝﴾، يعني: أنّهم يُصَلُّونَ لكنَّهم يَتكاسَلونَ ويَغْفُلونَ عنها حتى يؤخِّروها عن وقتِها، وهذا ظاهرُ قولِه تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ۝﴾، فبيَّن أنّهم ساهونَ عنها، وليسوا تاركينَ لها، ولا أنّهم ساهونَ فيها فقطْ، لأنّ السَّهْوَ عنها هو غفلةٌ عن أصلِ الصلاةِ، والسهوُ فيها هو عدمُ الخشوعِ فيها، ولهذا قال عطاءُ بنُ دِينارٍ: «الحمدُ للهِ الذي قال: ﴿هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ۝﴾، ولم يقُلْ: في صلاتِهم ساهونَ»[[«تفسير الطبري» (٢٤ /٦٦٤).]]. لأنّ ذَهابَ بعضِ الخشوعِ لا يكادُ يَسلَمُ منه أحدٌ، وقد سأَلَ مُصعبُ بنُ سعدٍ سعدًا، فقال: ﴿هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ۝﴾: أهو ما يحدِّثُ به أحدُنا نفسَهُ في صلاتِه؟ قال: لا، ولكنَّ السهوَ أنْ يُؤخِّرَها عن وقتِها[[«تفسير الطبري» (٢٤ /٦٦٠).]]. وقد تقدَّم الكلامُ على الخشوعِ وحُكْمِهِ في أولِ سورةِ المؤمنونَ. وحمَلَ هذه الآيةَ على تأخيرِ الصلاةِ عن وقتِها، لا تركِها بالكليَّةِ: جماعةٌ مِن السلفِ، كسعدٍ وابنِ عبّاسٍ والشعبيِّ، ومسروقٍ[[«تفسير الطبري» (٢٤ /٦٦٠).]]. ومِن السلفِ: مَن حمَلَها على التركِ، وهذا قولٌ لابنِ عبّاسٍ رواهُ عنه عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ، ولكنَّ ابنَ عبّاسٍ قيَّد التَّرْكَ بتركِ المنافِقِ سِرًّا ويَفعَلُها علانيَةً، فقال: «فهم المُنافِقونَ، كانوا يُراؤُونَ الناسَ بصَلاتِهم إذا حضَرُوا، ويترُكُونَها إذا غابُوا، ويَمنَعُونَهُمُ العارِيَّةَ بُغْضًا لهم، وهو الماعونُ»[[«تفسير الطبري» (٢٤ /٦٦١)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١٠/٣٤٦٨).]]. وبهذا المعنى قال جماعةٌ، كمجاهِدٍ والضحّاكِ وغيرِهما[[«تفسير الطبري» (٢٤ /٦٦٢ و٦٦٥)، و«تفسير القرطبي» (٢٢ /٥١١).]]. وهذا المعنى صحيحٌ، ولا يخرُجُ عن القولِ السابقِ له، لأنّ المنافِقَ إمّا أن يكونَ نفاقُهُ أكبَرَ، فيَتْرُكَ الصلاةَ المفروضةَ في السِّرِّ بالكليَّةِ، ويُنشِئَها رِياءً وعلانيَةً للناسِ، وإمّا أن يكونَ نفاقُهُ ليس بأكبَرَ، فيَجذِبَهُ الإيمانُ عن التَّرْكِ، ويَجعلَهُ نفاقُهُ يَتراخى عن وقتِها، وهو بينَ مَدِّ النِّفاقِ وجَزْرِ الإيمانِ للوقتِ، ومِن هذا ما ثبَتَ في مسلمٍ أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (تِلْكَ صَلاةُ المُنافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ، حَتّى إذا كانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطانِ، قامَ فَنَقَرَها أرْبَعًا، لا يَذْكُرُ اللهَ فِيها إلاَّ قَلِيلًا) [[أخرجه مسلم (٦٢٢).]]، وهذا النِّفاقُ الأصغرُ الذي لم يُخرِجْهُ مِن المِلَّةِ، ولو كان أكبرَ، لم يَقُمْ لأدائِها. التلازُمُ بينَ الرِّياءِ وتأخيرِ وقتِ الصلاةِ: وثَمَّةَ تلازُمٌ بينَ تأخيرِ الصلاةِ عن وقتِها وبينَ الرِّياءِ، وكلَّما كان الرِّياءُ في قلبِ العبدِ عظيمًا، كان تَراخِيهِ عن الصلاةِ شديدًا، فإنِ اكتمَلَ الرِّياءُ، اكتمَلَ التَّرْكُ، وقد جعَلَ اللهُ الرِّياءَ مُلازِمًا للتساهُلِ في الصلاةِ في كتابِه، كما في قولِه هنا: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ۝الَّذِينَ هُمْ يُراءُونَ ۝﴾ [الماعون: ٤ ـ ٦]، فبمقدارِ الرِّياءِ يكونُ السهوُ عنها، وكذلك قرَن اللهُ الرِّياءَ بالتكاسُلِ عن الصلاةِ في قولِه تعالى: ﴿إنَّ المُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وهُوَ خادِعُهُمْ وإذا قامُوا إلى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُونَ النّاسَ﴾ [النساء: ١٤٢]، وكذلك هو في الحديثِ السابقِ فيمَن اعتاد تأخيرَ الصلاةِ إلى قُبَيْلِ المغربِ، قال ﷺ: (تِلْكَ صَلاةُ المُنافِقِ). تاركُ الصلاةِ وحُكْمُهُ: والصلاةُ الرُّكْنُ الثاني مِن أركانِ الإسلامِ، وهي أولُ الواجباتِ البدَنيَّةِ، وشريعةٌ في كلِّ الرِّسالاتِ، وفرَضَ اللهُ خَمْسَها في السماءِ بلا واسطةٍ، بخلافِ بقيَّةِ الشرائعِ المفروضةِ والمسنونةِ. وأمّا تركُ الصلاةِ، فقد استفاضَتِ النصوصُ على كفرِ فاعلِهِ مرفوعةً وموقوفةً، وقد رَوى مسلمٌ، مِن حديثِ جابرٍ، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: (إنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وبَيْنَ الشِّرْكِ والكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ) [[أخرجه مسلم (٨٢).]]. فجعَلَ الصلاةَ حائلًا بينَ الرجُلِ وبينَ الكفرِ، وإنْ ترَكَها بالكليَّةِ، فقد زالَ الحائلُ بينَهما، ودخَلَ الرجُلُ إلى الكفرِ. وقد جعَلها النبيُّ ﷺ فَيْصَلًا بينَ مَن أسْلَمَ وجْهَهُ للهِ وبينَ مَن أسلَمَ وجْهَهُ لغيرِهِ ممَّن نطَقَ الشهادتَيْنِ، فقال كما في السُّننِ: (العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنا وبَيْنَهُمُ الصَّلاةُ، فَمَن تَرَكَها، فَقَدْ كَفَرَ) [[أخرجه أحمد (٥/٣٤٦)، والترمذي (٢٦٢١)، والنسائي (٤٦٣)، وابن ماجه (١٠٧٩).]]، وبهذا كان يقولُ الصحابةُ ويفرِّقونَ بينَهم وبينَ الكفارِ، كما قال مجاهدُ بنُ جَبْرٍ لجابرٍ رضي الله عنه: «ما كانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الكُفْرِ والإيمانِ عِنْدَكُمْ مِنَ الأَعْمالِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ قالَ: الصَّلاةُ»[[أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (٨٩٣).]]. ويقولُ عبدُ اللهِ بنُ شَقِيقٍ العُقَيْلِيُّ: «كانَ أصْحابُ مُحَمَّدٍ ﷺ لا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الأَعْمالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلاةِ»[[أخرجه الترمذي (٢٦٢٢).]]. وعلى هذا كان التابعونَ، وكانوا يُطلِقُونَ على التاركِ الكفرَ، كما قال أيُّوبُ: تَرْكُ الصَّلاةِ كُفْرٌ لا يُخْتَلَفُ فِيهِ[[أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (٩٧٨).]]. ولا يُوجَدُ مِن كلامِ الصحابةِ ولا التابعينَ ما يُخرِجُ هذا العمومَ أو يُقيِّدُهُ ويُخصِّصُهُ، إلاَّ حملُ ذلك على التَّرْكِ بالكليَّةِ، وأمّا مَن كان يُؤدِّي بعضَ الصلواتِ ويترُكُ بعضًا، فهذا ليس تاركًا لها بالكليَّةِ، وإنّما يدخُلُ في الوعيدِ في هذه الآيةِ: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ۝﴾، وقد جاء عن النبيِّ ﷺ أنّه قَبِلَ إسلامَ مَن لم يُؤدِّ الصلاةَ كلَّها، كما صحَّ عن نَصْرِ بنِ عاصمٍ اللَّيْثِيِّ، عن رجلٍ منهم: «أنّه أتى النَّبِيَّ ﷺ فَأَسْلَمَ عَلى أنْ يُصَلِّيَ صَلاتَيْنِ، فَقَبِلَ مِنهُ»، رواهُ أحمدُ[[أخرجه أحمد (٥ /٣٦٣).]]. ولم يكنِ النبيُّ ﷺ لِيُقِرَّهُ على الكفرِ، وإنّما قَبِلَ منه الإسلامَ ولو كان مُسرِفًا على نفسِهِ أهوَنَ مِن بقائِهِ على الكفرِ. وإنّما اختلَفَ العلماءُ في تفسيرِ ما أُطلِقَ مِن كلامِ النبيِّ ﷺ والصحابةِ والتابعينَ ومرادِهم في كفرِ تاركِ الصلاةِ، فمِنهم مَن حمَلَهُ على الكفرِ الأكبرِ، ومنهم مَن حمَلَهُ على الأصغرِ. والمعروفُ عن أحمدَ والمشهورُ عندَ الأصحابِ: كفرُ تاركِ الصلاةِ، وليس في كلامِ أحمدَ ما يُخالِفُ ذلك، وعامَّةُ الرُّواةِ عنه ينقُلُونَ كفرَ تاركِ الصلاةِ، وأمّا ما نقَلَهُ عنه صالحٌ في «المسائلِ» أنّه سأَلَهُ عن زيادةِ الإيمانِ ونُقصانِه، فقال له: كيف يَزِيدُ ويَنقُصُ؟ قال: زيادتُه بالعملِ، ونُقْصانُه بتركِ العملِ، مِثْلُ تركِهِ الصلاةَ والزكاةَ والحجَّ وأداءَ الفرائضِ[[«مسائل الإمام أحمد»، رواية ابنه صالح (٢ /١١٩).]]. فهذا لا يُخالِفُ ما تقدَّم تقريرُه، وذلك أنّ أحمدَ أخرَجَ حديثَ نصرِ بنِ عاصمٍ في «مسندِه»، وظاهرُه: أنّه لا يُخالِفُه، فالنُّقْصانُ يكونُ بتركِ صلواتٍ، لا تركِ الصلاةِ كلِّها. وقد اختَلَفَ القولُ في ذلك عن مالكٍ والشافعيِّ، فنُقِلَ عنهم الكفرُ وعدمُهُ، وإنْ لم يأتِ عنهما نصٌّ في التصريحِ، وإنّما هي حكاياتٌ مِن الأئمَّةِ عنهم، والمشهورُ في المَحْكِيِّ عنهما في تاركِ الصلاةِ: أنّ كفرَهُ ليس بأكبَرَ. وأمّا أبو حنيفةَ، فجماهيرُ أصحابِهِ ينقُلُونَ عنه عدمَ الكفرِ. وفي كتابِ «صفةِ صلاةِ النبيِّ ﷺ» مزيدُ كلامٍ على هذه المسألةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب