الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ والبَحْرِ حَتّى إذا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وجاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ مَكانٍ وظَنُّوا أنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أنْجَيْتَنا مِن هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ ۝﴾ [يونس: ٢٢]. حُكْمُ رُكُوبِ البحرِ والغَزْوِ فيه: ذكَرَ اللهُ تسييرَهُ لعبادِه في البَرِّ والبحرِ ممتنًّا بذلك عليهم، مذكِّرًا بنعمتِهِ ووجوبِ شُكْرِهِ وحقِّه بالعبادةِ، وذِكْرُ اللهِ للبحرِ وقَرْنُهُ السيرَ فيه بالبَرِّ: دليلٌ على أنّ ركوبَ البحرِ كركوبِ البَرِّ مِن جهةِ إباحتِهِ وحِلِّه، وهذا له نظائرُ في القرآنِ، كقولِهِ: ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وحَمَلْناهُمْ فِي البَرِّ والبَحْرِ ورَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ [الإسراء: ٧٠]، وكقَرْنِهِ الاهتداءَ بالنجومِ لسائرِ البحرِ كسائرِ البَرِّ في قولِهِ: ﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ﴾ [الأنعام: ٩٧]، وقال: ﴿أمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ﴾ [النمل: ٦٣]، وجعَلَ رُكوبَهُ وتسخيرَهُ كرامةً للإنسانِ، كما في قولِهِ: ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وحَمَلْناهُمْ فِي البَرِّ والبَحْرِ﴾ [الإسراء: ٧٠]، وجعَلَهُ مَحَلًّا لطلبِ المَنافِعِ كالبَرِّ في قولِهِ: ﴿والفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ﴾ [البقرة: ١٦٤]، وقال: ﴿وهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنهُ لَحْمًا طَرِيًّا وتَسْتَخْرِجُوا مِنهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها﴾ [النحل: ١٤]، وقال: ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الفُلْكَ فِي البَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ [الإسراء: ٦٦]، وجعَلَ الابتغاءَ مِن فضلِهِ في البحرِ في هذه الآيةِ: ﴿لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ۝﴾ كالابتغاءِ مِن فضلِهِ في البَرِّ لمّا ذكَرَ اللهُ الانصرافَ مِن صلاةِ الجُمُعةِ: ﴿فَإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: ١٠]، وحَثَّ على ركوبِ البحرِ لرؤيةِ آياتِه، كما قال: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ الفُلْكَ تَجْرِي فِي البَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِن آياتِهِ﴾ [لقمان: ٣١]. وذكَرَ اللهُ مَخاطِرَ البحرِ في مَواضِعَ، ولم يَنْهَ عن ركوبِه في سياقِ واحدةٍ منها، كما قال تعالى: ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِن ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً﴾ [الأنعام: ٦٣]، وقال: ﴿وإذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلاَّ إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٦٧]. والنهيُ الواردُ عن ركوبِ البحرِ لا يَثبُتُ عن النبيِّ ﷺ منه شيءٌ، فمِن ذلك ما رواهُ أبو داودَ، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، مرفوعًا: (لا يَرْكَبُ البَحْرَ إلاَّ حاجٌّ، أوْ مُعْتَمِرٌ، أوْ غازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإنَّ تَحْتَ البَحْرِ نارًا، وتَحْتَ النّارِ بَحْرًا) [[أخرجه أبو داود (٢٤٨٩).]]. وبنحوِه أخرَجَهُ الحارثُ عن أبي بَكْرَةَ[[أخرجه الحارث في «مسنده» (٣٥٩).]]، والبزّارُ عن ابنِ عمرَ[[أخرجه البزار في «مسنده» (البحر الزخار) (٥٨٩٧).]]، ولا يصحُّ في هذا البابِ شيءٌ. وركوبُ البحرِ كركوبِ البَرِّ في حالِ استقامةِ الحالِ وعدمِ المَخاطِرِ، وعندَ المَخاطِرِ والمَخاوِفِ فيُكرَهُ ركوبُهُ، وقد يحرُمُ إنْ غلَبَ على الظنِّ الهلاكُ، وقد حكى ابنُ عبدِ البَرِّ الاتِّفاقَ على أنّه يحرُمُ ركوبُهُ عندَ ارتجاجِه[[«الاستذكار» (١٤ /٢٨٧).]]، ويُروى في «المُسنَدِ»، مِن حديثِ أبي عِمْرانَ الجَوْنِيِّ، قال: حَدَّثَنِي بَعْضُ أصْحابِ مُحَمَّدٍ، وغَزَوْنا نَحْوَ فارِسَ، فَقالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (مَن باتَ فَوْقَ بَيْتٍ لَيْسَتْ لَهُ إجّارٌ فَوَقَعَ فَماتَ، فَبَرِئَتْ مِنهُ الذِّمَّةُ، ومَن رَكِبَ البَحْرَ عِنْدَ ارْتِجاجِهِ فَماتَ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنهُ الذِّمَّةُ) [[أخرجه أحمد (٥ /٧٩).]]. أخرَجَهُ أحمدُ، مِن حديثِ محمدِ بنِ ثابتٍ، عن أبي عِمْرانَ، به، وابنُ ثابتٍ ضعيفٌ. ولأنّ البحرَ أخطَرُ مِن البَرِّ، وحِيلةَ الإنسانِ فيه ضيِّقةٌ، بخلافِ حيلتِهِ في البَرِّ، كان الغزوُ فيه أعظَمَ، لأنّ الشِّدَّةَ والمشقَّةَ فيه أكبَرُ، فغزوُ البحرِ أفضَلُ مِن غزوِ البَرِّ، وقد جاءتْ أحاديثُ كثيرةٌ في فضلِ غزوِ البحرِ وشهيدِهِ مِن حديثِ أبي أُمامَةَ وأُمِّ حَرامٍ وعائشةَ وابنِ عبّاسٍ وعِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ وأبي الدَّرْداءِ، وهي متكلَّمٌ فيها. وقد جاء تفضيلُ غزوةٍ في البحرِ على عَشْرِ غزَواتٍ في البَرِّ، رواهُ الطبرانيُّ، وغيرُهُ، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو[[أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» (٣١٤٤)، وابن أبي عاصم في «الجهاد» (٢٨٠)، والحاكم في «المستدرك» (٢ /١٤٣)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٤ /٣٣٤).]]، وابنُ ماجَهْ، مِن حديثِ أبي الدَّرداءِ[[أخرجه ابن ماجه (٢٧٧٧).]]، ولا يصحُّ. وقد جاء فضلُ الميِّتِ بالغرَقِ، وأنّه شهيدٌ، ولو لم يكنْ في غزوِ البحرِ وشهيدِهِ إلاَّ ما يجدُهُ مِن شِدَّةٍ وخوفٍ قبلَ نَزْعِ رُوحِه، لكان كافيًا، فميِّتُ الغرَقِ والحَرَقِ والهَدَمِ يُدرِكُهُ مِن بُطْءِ الموتِ ومُعالجتِهِ والهَلَعِ منه: ما لا يجدُهُ غيرُهُ، فهو يَزيدُ على ألمِ الاحتضارِ ألمًا فوقَهُ. وأَمْثَلُ ما جاء في فضلِ غزوِ البحرِ وهو صحيحٌ: ما رواهُ الشيخانِ، مِن حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، أنّه قال: «كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدْخُلُ عَلى أُمِّ حَرامٍ بِنْتِ مِلْحانَ فَتُطْعِمُهُ ـ وكانَتْ أُمُّ حَرامٍ تَحْتَ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ ـ فَدَخَلَ عَلَيْها رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَأَطْعَمَتْهُ وجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وهُوَ يَضْحَكُ، قالَتْ: فَقُلْتُ: وما يُضْحِكُكَ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: (ناسٌ مِن أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزاةً فِي سَبِيلِ اللهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذا البَحْرِ مُلُوكًا عَلى الأَسِرَّةِ ـ أوْ: مِثْلَ المُلُوكِ عَلى الأَسِرَّةِ ـ)، قالَتْ: فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أنْ يَجْعَلَنِي مِنهمْ، فَدَعا لَها رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ وضَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: وما يُضْحِكُكَ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: (ناسٌ مِن أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزاةً فِي سَبِيلِ اللهِ) ـ كَما قالَ فِي الأَوَّلِ ـ قالَتْ: فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أنْ يَجْعَلَنِي مِنهُمْ، قالَ: (أنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ)، فَرَكِبَتِ البَحْرَ فِي زَمانِ مُعاوِيَةَ بْنِ أبِي سُفْيانَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دابَّتِها حِينَ خَرَجَتْ مِنَ البَحْرِ، فَهَلَكَتْ»[[أخرجه البخاري (٢٧٨٨) ومسلم (١٩١٢).]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب