الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولَئِكَ هم خَيْرُ البَرِيَّةِ﴾ . الحُكْمُ هُنا بِالعُمُومِ، كالحُكْمِ هُناكَ، ولَكِنَّهُ هُنا بِالخَيْرِيَّةِ والتَّفْضِيلِ. أمّا مِن حَيْثُ الجِنْسِ فَلا إشْكالَ؛ لِأنَّ الإنْسانَ أفْضَلُ الأجْناسِ ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: ٧٠] . وَأمّا مِن حَيْثُ العُمُومِ، فَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ فِيها ما يَدُلُّ عَلى أنَّ صالِحَ المُؤْمِنِينَ أفْضَلُ مِنَ المَلائِكَةِ. وَلَعَلَّ مِمّا يُقَوِّي هَذا الِاسْتِدْلالَ، هو أنَّ بَعْضَ أفْرادِ جِنْسِ الإنْسانِ أفْضَلُ مِن عُمُومِ أفْرادِ جِنْسِ المَلائِكَةِ، وهو الرَّسُولُ ﷺ، وإذا فُضِّلَ بَعْضُ أفْرادِ الجِنْسِ لا يُمْنَعُ في البَعْضِ الآخَرِ، ولَكِنْ هَلْ بَعْضُ أفْرادِ الأُمَّةِ بَعْدَهُ أفْضَلُ مِن عُمُومِ أوْ بَعْضِ أفْرادِ المَلائِكَةِ ؟ هَذا هو مَحَلَّ الخِلافِ. وَلِلْقُرْطُبِيِّ مَبْحَثٌ في ذَلِكَ: مَبْناهُ عَلى أصْلِ المادَّةِ ووُرُودِ النُّصُوصِ مِن جِهَةِ أصْلِ المادَّةِ إنْ كانَتِ البَرِيَّةُ مَأْخُوذَةً مِنَ البَرْيِ وهو التُّرابُ، فَلا تَدْخُلُ المَلائِكَةُ تَحْتَ هَذا التَّفْضِيلِ وإلّا فَتَدْخُلُ. وَأمّا مِن جِهَةِ النُّصُوصِ، فَقالَ في سُورَةِ البَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿قالَ ياآدَمُ أنْبِئْهم بِأسْمائِهِمْ﴾ [البقرة: ٣٣]، قالَ المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفَ العُلَماءُ في هَذا البابِ أيُّهُما أفْضَلُ، المَلائِكَةُ أوْ بَنُو آدَمَ ؟ عَلى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ قَوْلٌ إلى أنَّ الرُّسُلَ مِنَ البَشَرِ أفْضَلُ مِنَ الرُّسُلِ مِنَ المَلائِكَةِ، والأوْلِياءَ مِنَ البَشَرِ أفْضَلُ مِنَ الأوْلِياءِ مِنَ المَلائِكَةِ. (p-٥١)وَذَهَبَ آخَرُونَ إلى أنَّ المَلَأ الأعْلى أفْضَلُ، واحْتَجَّ مَن فَضَّلَ المَلائِكَةَ بِأنَّهم عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وهم بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ. وَقَوْلِهِ: ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهم ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦] . وقَوْلِهِ: ﴿قُلْ لا أقُولُ لَكم عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ ولا أعْلَمُ الغَيْبَ ولا أقُولُ لَكم إنِّي مَلَكٌ﴾ [الأنعام: ٥٠] . وَبِما في البُخارِيِّ يَقُولُ اللَّهُ: «مَن ذَكَرَنِي في مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَأٍ خَيْرٍ مِنهُ» وهَذا نَصٌّ عَلى أنَّ المَلَأ الأعْلى خَيْرٌ مِن مَلَأِ الأرْضِ. واحْتَجَّ مَن فَضَّلَ بَنِي آدَمَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولَئِكَ هم خَيْرُ البَرِيَّةِ﴾ [البينة: ٧]، بِالهَمْزِ مِن بَرَأ اللَّهُ الخَلْقَ، وقَوْلِهِ ﷺ: «إنَّ المَلائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَها رِضًا لِطالِبِ العِلْمِ» أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ. وَبِأنَّ اللَّهَ يُباهِي بِأهْلِ عَرَفاتٍ المَلائِكَةَ، ولا يُباهِي إلّا بِالأفْضَلِ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: ولا طَرِيقَ إلى القَطْعِ بِأنَّ المَلائِكَةَ خَيْرٌ مِنهم؛ لِأنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ خَبَرُ اللَّهِ، وخَبَرُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أوْ إجْماعُ الأُمَّةِ. وَلَيْسَ هاهُنا شَيْءٌ مِن ذَلِكَ خِلافًا لِلْقَدَرِيَّةِ والقاضِي أبِي بَكْرٍ، حَيْثُ قالُوا: المَلائِكَةُ أفْضَلُ. قالَ: وأمّا مَن قالَ مِن أصْحابِنا والشِّيعَةِ: إنَّ الأنْبِياءَ أفْضَلُ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ المَلائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، إلى آخِرِهِ. ثُمَّ رَدَّ هَذا الِاسْتِدْلالَ. وَقَدْ سُقْنا هَذا البَحْثَ لِبَيانِ الخِلافِ في هَذِهِ المَسْألَةِ المُشْتَمِلِ عَلَيْها لَفْظُ البَرِيَّةِ، وأعْتَقِدُ أنَّ المُفاضَلَةَ جُزْئِيَّةٌ لا كُلِّيَّةٌ، وذَلِكَ أنَّ جِنْسَ البَشَرِ خِلافُ جِنْسِ المَلائِكَةِ، والمَلائِكَةُ فِيهِمُ النَّصُّ بِأنَّهم: ﴿عِبادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٦]، والبَشَرُ فِيهِمُ النَّصُّ ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: ٧٠]، والفَرْقُ بَيْنَهُما كالفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ والفِعْلِ في الدَّلالَةِ. فَفِي المَلائِكَةِ بِالِاسْمِ: مُكْرَمُونَ، وهو يَدُلُّ عَلى الدَّوامِ والثُّبُوتِ، وفي بَنِي آدَمَ كَرَّمْنا، وهو يَدُلُّ عَلى التَّجَدُّدِ والحُدُوثِ. وَهَذا هو الواقِعُ، فالتَّكْرِيمُ ثابِتٌ ولازِمٌ ودائِمٌ لِلْمَلائِكَةِ بِخِلافِهِ في بَنِي آدَمَ إذْ فِيهِمْ (p-٥٢)وَفِيهِمْ، ولا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّ التَّفْضِيلَ في الأعْمالِ مِن حَيْثُ صُدُورِها مِن بَنِي آدَمَ ومِنَ المَلائِكَةِ، إذِ المَلائِكَةُ تَصْدُرُ عَنْهم أعْمالُ الخَيْرِ جِبِلَّةً أوْ بِدُونِ نَوازِعِ شَرٍّ، بِخِلافِ بَنِي آدَمَ، وإنَّ أعْمالَ الخَيْرِ تَصْدُرُ عَنْها بِمَجْهُودٍ مُزْدَوَجٍ، حَيْثُ رُكِّبَتْ فِيهِمُ النَّفْسُ اللَّوّامَةُ والأمّارَةُ بِالسُّوءِ. ونَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الجانِبِ الحَيَوانِيِّ. وازْدِواجِيَّةُ المَجْهُودِ، هو أنَّهُ يُنازِعُ عَوامِلَ الشَّرِّ حَتّى يَتَغَلَّبَ عَلَيْها، ويَبْذُلَ الجُهْدَ في فِعْلِ الخَيْرِ، فَهو يُجاهِدُ لِلتَّخْلِيصِ مِن نَوازِعِ الشَّرِّ، ثُمَّ هو يُجاهِدُ لِلْقِيامِ بِفِعْلِ الخَيْرِ، وهَذا مَجْهُودٌ يَقْتَضِي التَّفْضِيلَ عَلى المَجْهُودِ مِن جانِبٍ واحِدٍ. وَقَدْ جاءَ في السُّنَّةِ ما يَشْهَدُ لِذَلِكَ، لَمّا ذَكَرَ ﷺ لِأصْحابِهِ في حَقِّ مَن يَأْتِي بَعْدَهم مِن أنَّ العامِلَ مِنهم لَهُ أجْرُ خَمْسِينَ، فَقالُوا: خَمْسِينَ مِنّا أوْ مِنهم يا رَسُولَ اللَّهِ قالَ: «بَلْ خَمْسِينَ مِنكم، لِأنَّكم تَجِدُونَ أعْوانًا عَلى الخَيْرِ وهم لا يَجِدُونَ» . وَحَدِيثُ: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ ألْفِ دِرْهَمٍ» وبَيَّنَ ﷺ، أنَّ الدِّرْهَمَ سَبَقَ الأضْعافَ المُضاعَفَةَ؛ لِأنَّهُ ثانِي اثْنَيْنِ فَقَطْ، والمِائَةَ ألْفٍ جُزْءٌ مِن مَجْمُوعٍ كَثِيرٍ. فالنَّفْسُ الَّتِي تَجُودُ بِنِصْفِ ما تَمْلِكُ، ولا يَتَبَقّى لَها إلّا دِرْهَمٌ، خَيْرٌ بِكَثِيرٍ مِمَّنْ تُنْفِقُ جُزْءًا ضَئِيلًا مِمّا تَمْلِكُ ويَتَبَقّى لَها المالُ الكَثِيرُ، فَكانَتْ عَوامِلُ التَّصَدُّقِ ودَوافِعُهُ مُخْتَلِفَةً مُنَزَّلَةً في النَّفْسِ مُتَضادَّةً؛ فالدِّرْهَمُ في ذاتِهِ وماهِيَّتِهِ مِن جِنْسِ الدَّراهِمِ الأُخْرى، لَمْ تَتَفاوَتِ الماهِيَّةُ ولا الجِنْسُ، ولَكِنْ تَفاوَتَتِ الدَّوافِعُ والعَوامِلُ لِإنْفاقِهِ، ولَعَلَّ المُفاضَلَةَ المَقْصُودَةَ تَكُونُ مِن هَذا القَبِيلِ أوْلى. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب