الباحث القرآني

(p-٣٩)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ البَيِّنَة قالَ الألُوسِيُّ: وتُسَمّى سُورَةَ القِيامَةِ، وسُورَةَ البَلَدِ، وسُورَةَ المُنْفَكِّينَ، وسُورَةَ البَرِيَّةِ، وسُورَةَ لَمْ يَكُنْ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ﴾ ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ ﴿فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ ﴿وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾ . ذَكَرَ هُنا الَّذِينَ كَفَرُوا، ثُمَّ جاءَتْ مِن، وجاءَ بَعْدَها أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ، مِمّا يُشْعِرُ بِأنَّ وصْفَ الكُفْرِ يَشْمَلُ كُلًّا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ، كَما يُشْعِرُ مَرَّةً أُخْرى أنَّ المُشْرِكِينَ لَيْسُوا مِن أهْلِ الكِتابِ لِوُجُودِ العَطْفِ، وأنَّ أهْلَ الكِتابِ لَيْسُوا مِنَ المُشْرِكِينَ. وَهَذا المَبْحَثُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ المُتَكَلِّمِينَ وعُلَماءِ التَّفْسِيرِ، واتَّفَقُوا عَلى أنَّ أهْلَ الكِتابِ هُمُ اليَهُودُ والنَّصارى، وأنَّ المُشْرِكِينَ هم عَبَدَةُ الأوْثانِ، والكُفْرَ يَجْمَعُ القِسْمَيْنِ. وَأهْلُ الكِتابِ مُخْتَصٌّ بِاليَهُودِ والنَّصارى، ولَكِنَّ الخِلافَ هَلِ الشِّرْكُ يَجْمَعُهُما أيْضًا أمْ لا ؟ فَبَيْنَ الفَرِيقَيْنِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ، عُمُومٌ في الكُفْرِ وخُصُوصٌ في أهْلِ الكِتابِ لِلْيَهُودِ والنَّصارى، وخُصُوصٌ في المُشْرِكِينَ لِعَبَدَةِ الأوْثانِ. وَلَكِنْ جاءَتْ آياتٌ تَدُلُّ عَلى أنَّ مُسَمّى الشِّرْكِ يَشْمَلُ أهْلَ الكِتابِ أيْضًا، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وقالَتِ النَّصارى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهم بِأفْواهِهِمْ يُضاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا واحِدًا لا إلَهَ إلّا هو سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: ٣٠ - ٣١] . (p-٤٠)فَجَعَلَ مَقالَةَ كُلٍّ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى إشْراكًا. وَجاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَنعُ نِكاحِ الكِتابِيَّةِ وقالَ: " وهَلْ أكْبَرُ إشْراكًا مِن قَوْلِها: ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا﴾ [البقرة: ١١٦]، فَهو وإنْ كانَ مُخالِفًا لِلْجُمْهُورِ في مَنعِ الزَّواجِ مِنَ الكِتابِيّاتِ، إلّا أنَّهُ اعْتَبَرَهُنَّ مُشْرِكاتٍ. وَلِهَذا الخِلافِ والِاحْتِمالِ وقَعَ النِّزاعُ في مُسَمّى الشِّرْكِ، هَلْ يَشْمَلُ أهْلَ الكِتابِ أمْ لا ؟ مَعَ أنَّنا وجَدْنا فَرْقًا في الشَّرْعِ في مُعامَلَةِ أهْلِ الكِتابِ ومُعامَلَةِ المُشْرِكِينَ، فَأحَلَّ ذَبائِحَ أهْلِ الكِتابِ ولَمْ يُحِلَّها مِنَ المُشْرِكِينَ، وأحَلَّ نِكاحَ الكِتابِيّاتِ ولَمْ يُحِلَّهُ مِنَ المُشْرِكاتِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَلا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢١] . وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوافِرِ﴾ [الممتحنة: ١٠] . وَقالَ: ﴿لا هُنَّ حِلٌّ لَهم ولا هم يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ [الممتحنة: ١٠]، بَيَّنَ ما في حَقِّ الكِتابِيّاتِ قالَ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِكم إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [المائدة: ٥]، فَكانَ بَيْنَهُما مُغايَرَةٌ في الحُكْمِ. وَقَدْ جَمَعَ والِدُنا الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الأمِينُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ بَيْنَ تِلْكَ النُّصُوصِ في دَفْعِ إيهامِ الِاضْطِرابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُها جَمْعًا مُفَصَّلًا مَفادُهُ أنَّ الشِّرْكَ الأكْبَرَ المُخْرِجَ مِنَ المِلَّةِ أنْواعٌ، وأهْلُ الكِتابِ مُتَّصِفُونَ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، إلى آخِرِ ما أوْرَدَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ. وَلَعَلَّ في نَفْسِ آيَةِ ﴿وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾، فِيها إشارَةٌ إلى ما ذَكَرَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُضاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أيْ يُشابِهُونَهم في مَقالَتِهِمْ، وهَذا القَدْرُ اتَّصَفَ بِهِ المُشْرِكُونَ مِن أنْواعِ الشِّرْكِ. الثّانِي: تَذْيِيلُ الآيَةِ بِصِيغَةِ المُضارِعِ عَمّا يُشْرِكُونَ بَيْنَما وصَفَ عَبَدَةَ الأوْثانِ في سُورَةِ البَيِّنَةِ بِالِاسْمِ ”والمُشْرِكِينَ“ . (p-٤١)وَمَعْلُومٌ أنَّ صِيغَةَ الفِعْلِ تَدُلُّ عَلى التَّجَدُّدِ والحُدُوثِ، وصِيغَةَ الِاسْمِ تَدُلُّ عَلى الدَّوامِ والثُّبُوتِ، فَمُشْرِكُو مَكَّةَ وغَيْرُهم دائِمُونَ عَلى الإشْراكِ وعِبادَةِ الأصْنامِ، وأهْلُ الكِتابِ يَقَعُ مِنهم حِينًا وحِينًا. وَقَدْ أخَذَ بَعْضُ العُلَماءِ: أنَّ الكُفْرَ مِلَّةٌ واحِدَةٌ، فَوَرَّثَ الجَمِيعَ مِن بَعْضٍ، ومَنَعَ الآخَرُونَ عَلى أساسِ المُغايَرَةِ والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. * * * * تَنْبِيهٌ بَقِيَ المَجُوسُ وجاءَتِ السُّنَّةُ أنَّهم يُعامَلُونَ مُعامَلَةَ أهْلِ الكِتابِ لِحَدِيثِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ» . وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مُنْفَكِّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ﴾، اخْتُلِفَ في ”مُنْفَكِّينَ“ اخْتِلافًا كَثِيرًا عِنْدَ جَمِيعِ المُفَسِّرِينَ، حَتّى قالَ الفَخْرُ الرّازِيُّ عِنْدَ أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ ما نَصُّهُ: قالَ الواحِدِيُّ في كِتابِ البَسِيطِ: هَذِهِ الآيَةُ مِن أصْعَبِ ما في القُرْآنِ العَظِيمِ نَظْمًا وتَفْسِيرًا، وقَدْ تَخَبَّطَ فِيها الكِبارُ مِنَ العُلَماءِ. ثُمَّ إنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُلَخِّصْ كَيْفِيَّةَ الإشْكالِ فِيها. وَأنا أقُولُ وجْهَ الإشْكالِ: أنَّ تَقْدِيرَ الآيَةِ: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ﴾، الَّتِي هي الرَّسُولُ ﷺ، ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أنَّهم مُنْفَكُّونَ عَنْ ماذا، لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ، إذِ المُرادُ هو الكُفْرُ الَّذِي كانُوا عَلَيْهِ. فَصارَ التَّقْدِيرُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ، الَّتِي هي الرَّسُولُ، ثُمَّ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ كُفْرَهم قَدِ ازْدادَ عِنْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ بَيْنَ الآيَةِ الأُولى والآيَةِ الثّانِيَةِ تَناقُضٌ في الظّاهِرِ، هَذا مُنْتَهى الإشْكالِ فِيما أظُنُّ. ا هـ. حَرْفِيًا. وَقَدْ سُقْتُ كَلامَهُ لِبَيانِ مَدى الإشْكالِ في الآيَتَيْنِ، وهو مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ مُنْفَكِّينَ بِمَعْنى تارِكِينَ: وعَلَيْهِ جَمِيعُ المُفَسِّرِينَ. والَّذِي جاءَ عَنِ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ في إمْلائِهِ: أنَّ مُنْفَكِّينَ أيْ: (p-٤٢)مُرْتَدِعِينَ عَنِ الكُفْرِ والضَّلالِ، حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ، أيْ: أتَتْهم. وَلَكِنْ في مُنْفَكِّينَ، وجْهٌ يَرْفَعُ هَذا الإشْكالَ، وهو أنْ تَكُونَ مُنْفَكِّينَ بِمَعْنى مَتْرُوكِينَ لا بِمَعْنى تارِكِينَ، أيْ: لَمْ يَكُونُوا جَمِيعًا مَتْرُوكِينَ عَلى ما هم عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ والشِّرْكِ حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ عَلى مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ أنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: ٣٦]، وقَوْلِهِ: ﴿الم﴾ ﴿أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وهم لا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ١ - ٢]، أيْ: لَنْ يُتْرَكُوا وقَرِيبٌ مِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا ياهُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ﴾ [هود: ٥٣] . وَقَدْ حَكى أبُو حَيّانَ قَوْلًا عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ قَوْلُهُ: ويَتَّجِهُ في مَعْنى الآيَةِ قَوْلٌ ثالِثٌ بارِعُ المَعْنى، وذَلِكَ أنْ يَكُونَ المُرادُ: لَمْ يَكُنْ هَؤُلاءِ القَوْمُ مُنْفَكِّينَ مِن أمْرِ اللَّهِ تَعالى وقُدْرَتِهِ ونَظَرِهِ لَهم، حَتّى يَبْعَثَ اللَّهُ تَعالى إلَيْهِمْ رَسُولًا مُنْذِرًا، تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الحُجَّةُ، ويُتِمُّ عَلى مَن آمَنَ النِّعْمَةَ، فَكَأنَّهُ قالَ: ما كانُوا لِيُتْرَكُوا سُدًى، ولِهَذا نَظائِرُ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى ا هـ. فَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ يَتَّفِقُ مَعَ ما ذَكَرْناهُ، ويُزِيلُ الإشْكالَ الكَبِيرَ عَنِ المُفَسِّرِينَ، كَما أسْلَفْنا. وَلِابْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلٌ في ذَلِكَ نَسُوقُهُ لِشُمُولِهِ، وهو ضِمْنُ كَلامِهِ عَلى هَذِهِ السُّورَةِ في المَجْمُوعِ مُجَلَّدِ ٦١ ص ٥٩٤ قالَ: وَفِي مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: لَمْ يَكُنْ هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مُنْفَكِّينَ. ثَلاثَةُ أقْوالٍ ذَكَرَها غَيْرُ واحِدٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ. هَلِ المُرادُ: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنِ الكُفْرِ ؟ أوْ هَلْ لَمْ يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدٍ حَتّى بُعِثَ، فَلَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ مِن مُحَمَّدٍ والتَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِهِ حَتّى بُعِثَ. أوِ المُرادُ: أنَّهم لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ حَتّى يُرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولٌ. وَناقَشَ تِلْكَ الأقْوالَ ورَدَّها كُلَّها ثُمَّ قالَ: فَقَوْلُهُ: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ﴾، أيْ: لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ بِاخْتِيارِ أنْفُسِهِمْ يَفْعَلُونَ ما يَهْوَوْنَهُ (p-٤٣)لا حَجْرَ عَلَيْهِمْ، كَما أنَّ المُنْفَكَّ لا حَجْرَ عَلَيْهِ، وهو لَمْ يَقُلْ مَفْكُوكِينَ، بَلْ قالَ: مُنْفَكِّينَ، وهَذا أحْسَنُ، إلى أنْ قالَ: والمَقْصُودُ أنَّهم لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ لا يُؤْمَرُونَ ولا يُنْهَوْنَ ولا تُرْسَلُ إلَيْهِمْ رُسُلٌ. والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ لا يُخَلِّيهِمْ ولا يَتْرُكُهم، فَهو لا يَفُكُّهم حَتّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولًا، وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ أنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾، لا يُؤْمَرُ، ولا يُنْهى، أيْ: أيَظُنُّ أنَّ هَذا يَكُونُ ؟ هَذا ما لا يَكُونُ البَتَّةَ، بَلْ لا بُدَّ أنْ يُؤْمَرَ ويُنْهى. وَقَرِيبٌ مِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ ﴿وَإنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ ﴿أفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ [الزخرف: ٣ - ٥] . وهَذا اسْتِفْهامُ إنْكارٍ أيْ: لِأجْلِ إسْرافِكم نَتْرُكُ إنْزالَ الذِّكْرِ، ونُعْرِضُ عَنْ إرْسالِ الرُّسُلِ. تَبَيَّنَ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ أنَّ الأصَحَّ في ”مُنْفَكِّينَ“ مَعْنى ”مَتْرُوكِينَ“ وبِهِ يَزُولُ الإشْكالُ الَّذِي أوْرَدَهُ الفَخْرُ الرّازِيُّ، ويَسْتَقِيمُ السِّياقُ، ويَتَّضِحُ المَعْنى، وبِاللَّهِ تَعالى التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ﴾ ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ . أجْمَلَ البَيِّنَةَ ثُمَّ فَصَّلَها فِيما بَعْدَها ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا﴾ . وَفِي هَذا قِيلَ: إنَّ البَيِّنَةَ هي نَفْسُ الرَّسُولِ في شَخْصِهِ، لِما كانُوا يَعْرِفُونَهُ قَبْلَ مَجِيئِهِ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ﴾ [الصف: ٦]، وقَوْلِهِ: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ﴾ [البقرة: ١٤٦] . فَكَأنَّ وُجُودَهُ ﷺ بِذاتِهِ بَيِّنَةٌ لَهم. وَلِذا جاءَ في الآثارِ الصَّحِيحَةِ أنَّهم عَرَفُوا يَوْمَ مَوْلِدِهِ بِظُهُورِ نَجْمِ نَبِيِّ الخِتانِ إلى آخَرِ أخْبارِهِ ﷺ، وكانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا، وكَذَلِكَ المُشْرِكُونَ كانُوا يَعْرِفُونَهُ عَنْ طَرِيقِ أهْلِ الكِتابِ، وبِما كانَ مُتَّصِفًا بِهِ ﷺ، ومِن جَمِيلِ الصِّفاتِ كَما قالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ عِنْدَ بَدْءِ الوَحْيِ لَهُ وفَزَعِهِ مِنهُ: «كَلّا واللَّهِ لَنْ يُخْزِيَكَ اللَّهُ، واللَّهِ إنَّكَ لَتَحْمِلُ الكَلَّ وتُعِينُ عَلى نَوائِبِ الدَّهْرِ» إلى آخِرِهِ. وَقَوْلِ عَمِّهِ أبِي طالِبٍ: «واللَّهِ ما رَأيْتُهُ لَعِبَ مَعَ الصِّبْيانِ ولا عَلِمْتُ عَلَيْهِ كِذْبَةً» إلَخْ. وقَدْ لَقَّبُوهُ بِالأمِينِ. (p-٤٤)وَحادِثَةُ شَقِّ الصَّدْرِ في رِضاعِهِ، بَلْ وقِيلَ ذَلِكَ في قِصَّةِ أبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، لَمّا تَعَرَّضَتْ لَهُ المَرْأةُ تُرِيدُهُ لِنَفْسِها، فَأبى. ولَمّا تَزَوَّجَ ودَخَلَ بِآمِنَةَ أُمِّ النَّبِيِّ ﷺ لَقِيَها بَعْدَ ذَلِكَ، فَقالَتْ لَهُ: لا حاجَةَ لِي بِكَ، فَقالَ: وكَيْفَ كُنْتِ تَتَعَرَّضِينَ لِي ؟ فَقالَتْ: رَأيْتُ نُورًا في وجْهِكَ، فَأحْبَبْتُ أنْ يَكُونَ لِي، فَلَمّا تَزَوَّجْتَ وضَعْتَهُ في آمِنَةَ ولَمْ أرَهُ فِيكَ الآنَ، فَلا حاجَةَ لِي فِيكَ. فَكُلُّها دَلائِلُ عَلى أنَّهُ ﷺ كانَ في شَخْصِهِ بَيِّنَةٌ لَهم، ثُمَّ أكْرَمَهُ اللَّهُ بِالرِّسالَةِ، فَكانَ رَسُولًا يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً، مِنَ الأباطِيلِ والزَّيْغِ وما لا يَلِيقُ بِالقُرْآنِ. وَمِمّا اسْتُدِلَّ بِهِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى عَنْهُ: ﴿وَداعِيًا إلى اللَّهِ بِإذْنِهِ وسِراجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٩] فَعَلَيْهِ يَكُونُ ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ﴾ بَدَلٌ مِنَ ”البَيِّنَةِ“ مَرْفُوعٌ عَلى البَدَلِيَّةِ، أوْ أنَّ البَيِّنَةَ ما يَأْتِيهِمْ بِهِ الرَّسُولُ مِمّا يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصُّحُفِ المُطَهَّرَةِ فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ. فالتَّشْرِيعُ الَّذِي فِيها والإخْبارُ الَّذِي أعْلَنَهُ تَكُونُ البَيِّنَةُ. وعَلى كُلٍّ، فَإنَّ البَيِّنَةَ تَصْدُقُ عَلى الجَمِيعِ، كَما تَصْدُقُ عَلى المَجْمُوعِ، ولا يَنْفَكُّ أحَدُهُما عَنِ الآخَرِ، فَلا رَسُولَ إلّا بِرِسالَةٍ تُتْلى، ولا رِسالَةَ تُتْلى إلّا بِرَسُولٍ يَتْلُوها. وَقَدْ عُرِّفَ لَفْظُ البَيِّنَةِ، لِلْإشارَةِ إلى وُجُودِ عِلْمٍ عَنْها مُسْبَقٍ عَلَيْها. فَكَأنَّهُ قِيلَ: حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ المَوْصُوفَةُ لَهم في كُتُبِهِمْ، ويُشِيرُ إلَيْها ما قَدَّمْنا في أخْبارِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْهُ، وآخَرِ سُورَةِ الفَتْحِ: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهم في التَّوْراةِ ومَثَلُهم في الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ﴾ الآيَةَ [الفتح: ٢٩] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب