الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِن ألْفِ شَهْرٍ﴾ . القَدْرُ: الرِّفْعَةُ، والقَدْرُ: بِمَعْنى المِقْدارِ. (p-٣٤)قالَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ في مُذَكِّرَةِ الإمْلاءِ ووَجْهِ تَسْمِيَتِها لَيْلَةَ القَدْرِ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّ مَعْنى القَدْرِ الشَّرَفُ والرِّفْعَةُ، كَما تَقُولُ العَرَبُ: فُلانٌ ذُو قَدْرٍ، أيْ: رِفْعَةٍ وشَرَفٍ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّها سُمِّيَتْ لَيْلَةَ القَدْرِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى يُقَدِّرُ فِيها وقائِعَ السَّنَةِ، ويَدُلُّ لِهَذا التَّفْسِيرِ الأخِيرِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إنّا كُنّا مُنْذِرِينَ﴾ ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ﴾ ﴿أمْرًا مِن عِنْدِنا﴾ [الدخان: ٣ - ٥] . وَهَذا المَعْنى قَدْ ذَكَرَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ في سُورَةِ الدُّخانِ مِنَ الأضْواءِ. والواقِعُ أنَّ في السُّورَةِ ما يَدُلُّ لِلْوَجْهِ الأوَّلِ وهو القَدْرُ والرِّفْعَةُ، وهو قَوْلُهُ: ﴿وَما أدْراكَ ما لَيْلَةُ القَدْرِ﴾ ﴿لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِن ألْفِ شَهْرٍ﴾ . فالتَّساؤُلُ بِهَذا الأُسْلُوبِ لِلتَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ: ﴿القارِعَةُ﴾ ﴿ما القارِعَةُ﴾ ﴿وَما أدْراكَ ما القارِعَةُ﴾ [القارعة: ١ - ٣]، وقَوْلُهُ: ﴿خَيْرٌ مِن ألْفِ شَهْرٍ﴾، فِيهِ النَّصُّ صَراحَةً عَلى عُلُوِّ قَدْرِها ورِفْعَتِها، إذْ أنَّها تَعْدِلُ في الزَّمَنِ فَوْقَ ثَلاثٍ وثَمانِينَ سَنَةً، أيْ فَوْقَ مُتَوَسِّطِ أعْمارِ هَذِهِ الأُمَّةِ. وَأيْضًا كَوْنُها اخْتَصَّتْ بِإنْزالِ القُرْآنِ فِيها، وبِتَنَزُّلِ المَلائِكَةِ والرُّوحِ فِيها، وبِكَوْنِها سَلامًا هي حَتّى مَطْلَعِ الفَجْرِ، لَفِيهِ الكِفايَةُ بِما لَمْ تَخْتَصَّ وتُشارِكْها فِيهِ لَيْلَةٌ مِن لَيالِي السَّنَةِ. وَعَلَيْهِ: فَلا مانِعَ مِن أنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، لِكَوْنِها مَحَلًّا لِتَقْدِيرِ الأُمُورِ في كُلِّ سَنَةٍ، وأنَّها بِهَذا وبِغَيْرِهِ عَلا قَدْرُها وعَظُمَ شَأْنُها، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ كُبْرى: إذا كانَتْ أعْمالُ العَبْدِ تَتَضاعَفُ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ، حَتّى تَكُونَ خَيْرًا مِن ألْفِ شَهْرٍ، كَما في هَذا النَّصِّ الكَرِيمِ. فَإذا صادَفَها العَبْدُ في المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ يُصَلِّي، وصَلاةٌ فِيهِ بِألْفِ صَلاةٍ، فَكَمْ تَكُونُ النِّعْمَةُ وعِظَمُ المِنَّةِ، مِنَ المُنْعِمِ المُتَفَضِّلِ سُبْحانَهُ، إنَّهُ لَمِمّا يُعْلِي الهِمَّةَ ويُعَظِّمُ الرَّغْبَةَ. وَقَدِ اقْتَصَرْتُ عَلى ذِكْرِ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ دُونَ المَسْجِدِ الحَرامِ، مَعَ زِيادَةِ المُضاعَفَةِ (p-٣٥)فِيهِ؛ لِأنَّ بَعْضَ المُفَسِّرِينَ قالَ بِمُضاعَفَةِ السَّيِّئَةِ فِيهِ. كَذَلِكَ أيْ أنَّ المَعْصِيَةَ في لَيْلَةِ القَدْرِ كالمَعْصِيَةِ في ألْفِ شَهْرٍ، والمَسْجِدُ الحَرامُ يُحاسَبُ فِيهِ العَبْدُ عَلى مُجَرَّدِ الإرادَةِ، فَيَكُونُ الخَطَرُ أعْظَمَ، وفي المَدِينَةِ أسْلَمَ. وَلَعَلَّ ما يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أنَّ لَيالِيَ القَدْرِ كُلَّها، كانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ في المَدِينَةِ، وقَدْ أثْبَتَها أهْلُ السُّنَّةِ كافَّةً، وادَّعَتِ الشِّيعَةُ نَسْخَها ورَفْعَها كُلِّيَّةً، وهَذا لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ لِصِحَّةِ النُّصُوصِ شِبْهِ المُتَواتِرَةِ. * * * * تَنْبِيهٌ لَمْ يَأْتِ تَحْدِيدٌ لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ مِن أيِّ رَمَضانَ تَكُونُ، وقَدْ أكْثَرَ العُلَماءُ في ذَلِكَ القَوْلِ وإيرادِ النُّصُوصِ. فالأقْوالُ مِنها عَلى أعَمِّ ما يَكُونُ، مِن أنَّها مِن عُمُومِ السَّنَةِ، وهَذا لَمْ يَأْتِ بِجَدِيدٍ، وهو عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وإنَّما أرادَ الِاجْتِهادَ. وَمِنها: أنَّها في عُمُومِ رَمَضانَ، وهَذا حَسَبُ عُمُومِ نَصِّ القُرْآنِ. وَمِنها: أنَّها في العَشْرِ الأواخِرِ مِنهُ، وهَذا أخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَمِنها: أنَّها في الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأواخِرِ، وهَذا أخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَمِنها: أنَّها في آحادِ الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأواخِرِ. فَقِيلَ: في إحْدى وعِشْرِينَ. وَقِيلَ: ثَلاثٍ وعِشْرِينَ. وَقِيلَ: خَمْسٍ وعِشْرِينَ. وَقِيلَ: سَبْعٍ وعِشْرِينَ. وَقِيلَ: تِسْعٍ وعِشْرِينَ. وَقِيلَ: آخِرُ لَيْلَةٍ مِن رَمَضانَ عَلى التَّعْيِينِ، وفي كُلٍّ مِن ذَلِكَ نُصُوصٌ. وَلَكِنَّ أشْهَرَها وأكْثَرَها وأصَحَّها، ما جاءَ أنَّها في سَبْعٍ وعِشْرِينَ، وإحْدى (p-٣٦)وَعِشْرِينَ، ولا حاجَةَ إلى سَرْدِ النُّصُوصِ الوارِدَةِ في كُلِّ ذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ كِتابٌ مِن كُتُبِ التَّفْسِيرِ إلّا ذَكَرَها، ولا سِيَّما ابْنُ كَثِيرٍ والقُرْطُبِيُّ. * * * * تَنْبِيهٌ إذا كانَتْ كُلُّ النُّصُوصِ الَّتِي ورَدَتْ في الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأواخِرِ صَحِيحَةً، فَإنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ تَكُونَ لَيْلَةُ القَدْرِ دائِرَةً بَيْنَها، ولَيْسَتْ بِلازِمَةٍ في لَيْلَةٍ مِنها ولا تَخْرُجُ عَنْها، فَقَدْ تَكُونُ في سَنَةٍ هي لَيْلَةُ إحْدى وعِشْرِينَ، بَيْنَما في سَنَةٍ أُخْرى لَيْلَةُ خَمْسٍ أوْ سَبْعٍ وعِشْرِينَ، وفي أُخْرى لَيْلَةُ ثَلاثٍ أوْ تِسْعٍ وعِشْرِينَ، وهَكَذا. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. وَقَدْ حَكى هَذا الوَجْهَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ مالِكٍ والشّافِعِيِّ وأحْمَدَ وغَيْرِهِمْ، وقالَ: وهو الأشْبَهُ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ ﷺ قَدْ أُنْسِيَها، لِتَجْتَهِدَ الأُمَّةُ في الشَّهْرِ كُلِّهِ أوْ في العَشْرِ كُلِّها، ومِمّا يُؤَكِّدُ أنَّها في العَشْرِ الأواخِرِ اعْتِكافُهُ ﷺ، التِماسًا لِلَيْلَةِ القَدْرِ. وَقَدْ جاءَ في فَضْلِها ما اسْتَفاضَتْ بِهِ كُتُبُ الحَدِيثِ والتَّفْسِيرِ، ويَكْفِي فِيها نَصُّ القُرْآنِ الكَرِيمِ. وَفِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مَباحِثُ عَدِيدَةٌ يَطُولُ تَتَبُّعُها، مِنها ما يَذْكُرُ مِن أماراتِها. وَمِنها: مُحاوَلَةُ البَعْضِ اسْتِخْراجَها مِنَ القُرْآنِ. وَمِنها: عَلاقَتُها بِحُكْمِ بَنِي أُمَيَّةَ، ولَيْسَ عَلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ نَصٌّ يُمْكِنُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ، لِذا لا حاجَةَ إلى إيرادِهِ، اللَّهُمَّ إلّا ما جاءَ في بَعْضِ أماراتِ نَهارِها صَبِيحَتَها، حَيْثُ جاءَ التَّنْوِيهُ عَنْ شَيْءٍ مِنهُ في الحَدِيثِ: «وَرَأيْتُنِي أسْجُدُ صَبِيحَتَها في ماءٍ وطِينٍ» . فَذَكَرُوا مِن عَلاماتِ يَوْمِها أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ بَيْضاءَ، وقالُوا: لِأنَّ أنْوارَ المَلائِكَةِ عِنْدَ صُعُودِها، تَتَلاقى مَعَ أشِعَّةِ الشَّمْسِ فَتُحْدِثُ فِيها بَياضَ الضَّوْءِ، وهَذا مَرْوِيٌّ عَنْ أُبَيٍّ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَمِنها: اعْتِدالُ هَوائِها وجَوِّها ونَحْوِ ذَلِكَ، ومِمّا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ لَهُ صِلَةٌ بِالسُّورَةِ ذاتِها، ما حَكاهُ ابْنُ كَثِيرٍ أنَّ بَعْضَ السَّلَفِ، أرادَ اسْتِخْراجَها مِن كِتابِ اللَّهِ في نَفْسِ السُّورَةِ، فَقالَ: إنَّ كَلِمَةَ ”هي“ في قَوْلِهِ: ﴿سَلامٌ هِيَ﴾ [القدر: ٥]، تَقَعُ السّابِعَةَ (p-٣٧)والعِشْرِينَ مِن عَدِّ كَلِماتِها، فَتَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وعِشْرِينَ. وَقِيلَ أيْضًا: إنَّ حُرُوفَ كَلِمَةِ لَيْلَةِ القَدْرِ تِسْعَةُ أحْرُفٍ، وقَدْ تَكَرَّرَتْ ثَلاثَ مَرّاتٍ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُها سَبْعَةً وعِشْرِينَ حَرْفًا، فَتَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وعِشْرِينَ. وَلَعَلَّ أصْوَبَ ما يُقالُ: هو ما قَدَّمْنا مِن أنَّها تَتَّصِلُ في لَيالِي الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأواخِرِ، ولا تَخْرُجُ عَنْها. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب