الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَلّا إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى﴾ ﴿أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ . ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الِاسْتِغْناءَ مُوجِبٌ لِلطُّغْيانِ عِنْدَ الإنْسانِ، ولَفْظُ الإنْسانِ هُنا عامٌّ، ولَكِنْ وجَدْنا بَعْضَ الإنْسانِ يَسْتَغْنى ولا يَطْغى، فَيَكُونُ هَذا مِنَ العامِّ المَخْصُوصِ، ومُخَصِّصُهُ إمّا مِن نَفْسِ الآيَةِ أوْ مِن خارِجٍ عَنْها، فَفي نَفْسِ الآيَةِ ما يُفِيدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: أنْ رَآهُ، أيْ: إنْ رَأى الإنْسانُ نَفْسَهُ، وقَدْ يَكُونُ رَأْيًا واهِمًا ويَكُونُ الحَقِيقَةُ خِلافَ ذَلِكَ، ومَعَ ذَلِكَ يَطْغى، فَلا يَكُونُ الِاسْتِغْناءُ هو سَبَبُ الطُّغْيانِ.
وَلِذا جاءَ في السُّنَّةِ ذَمُّ العائِلِ المُتَكَبِّرِ؛ لِأنَّهُ مَعَ فَقْرِهِ يَرى نَفْسَهُ اسْتَغْنى، فَهو مَعْنِيٌّ في نَفْسِهِ لا بِسَبَبِ غِناهُ.
أمّا مِن خارِجِ الآيَةِ، فَقَدْ دَلَّ عَلى هَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأمّا مَن طَغى﴾ ﴿وَآثَرَ الحَياةَ الدُّنْيا﴾ ﴿فَإنَّ الجَحِيمَ هي المَأْوى﴾ [النازعات: ٣٧ - ٣٩]، فَإيثارُ الحَياةِ الدُّنْيا هو مُوجِبُ الطُّغْيانِ، وكَما في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِي جَمَعَ مالًا وعَدَّدَهُ﴾ ﴿يَحْسَبُ أنَّ مالَهُ أخْلَدَهُ﴾ ﴿كَلّا﴾ الآيَةَ [الهمزة: ٢ - ٤] .
(p-٢٧)وَمَفْهُومُهُ: أنَّ مَن لَمْ يُؤْثِرِ الحَياةَ الدُّنْيا، ولَمْ يَحْسَبْ أنَّ مالَهُ أخْلَدَهُ، فَلَنْ يُطْغِيَهُ مالُهُ ولا غِناهُ، كَما جاءَ في قِصَّةِ النَّفَرِ الثَّلاثَةِ الأعْمى والأبْرَصِ والأقْرَعِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ.
وَقَدْ نَصَّ القُرْآنُ عَلى أوْسَعِ غِنًى في الدُّنْيا في نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمانَ، آتاهُ اللَّهُ مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ مِن بَعْدِهِ، ومَعَ هَذا قالَ: ﴿إنِّي أحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتّى تَوارَتْ بِالحِجابِ﴾ ﴿رُدُّوها عَلَيَّ﴾ الآيَةَ [ص: ٣٢] .
وَقِصَّةُ الصَّحابِيِّ المَوْجُودَةُ في المُوَطَّأِ: لَمّا شُغِلَ بِبُسْتانِهِ في الصَّلاةِ، حِينَ رَأى الطّائِرَ لا يَجِدُ فُرْجَةً مِنَ الأغْصانِ، يَنْفُذُ مِنهُ، فَجاءَ إلى النَّبِيِّ ﷺ وقالَ: ”يا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي فُتِنْتُ بِبُسْتانِي في صَلاتِي، فَهو في سَبِيلِ اللَّهِ“ فَعَرَفْنا أنَّ الغِنى وحْدَهُ لَيْسَ مُوجِبًا لِلطُّغْيانِ، ولَكِنْ إذا صَحِبَهُ إيثارُ الحَياةِ الدُّنْيا عَلى الآخِرَةِ، وقَدْ يَكُونُ طُغْيانُ النَّفْسِ مِن لَوازِمِها لَوْ لَمْ يَكُنْ غِنًى ﴿إنَّ النَّفْسَ لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: ٥٣] . وأنَّهُ لا يَقِي مِنهُ إلّا التَّهْذِيبُ بِالدِّينِ كَما قالَ تَعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ ولَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ﴾ الآيَةَ [الشورى: ٢٧] .
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ فِرْعَوْنَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ حِينَ قالَ: ﴿ألَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهَذِهِ الأنْهارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف: ٥١]، وكَذَلِكَ قالَ قارُونُ: ﴿إنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: ٧٨]، وقالَ ثالِثُ الثَّلاثَةِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ: ”إنَّما ورِثْتُهُ كابِرًا عَنْ كابِرٍ“ بِخِلافِ المُسْلِمِ، إلى آخِرِهِ. فَلا يَزِيدُهُ غِناهُ إلّا تَواضُعًا وشُكْرًا لِلنِّعْمَةِ، كَما قالَ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمانُ: ﴿قالَ هَذا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ أمْ أكْفُرُ ومَن شَكَرَ فَإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ومَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: ٧٨]، وقَدْ نَصَّ في نَفْسِ السُّورَةِ أنَّهُ شَكَرَ اللَّهَ: ﴿فَتَبَسَّمَ ضاحِكًا مِن قَوْلِها وقالَ رَبِّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلى والِدَيَّ وأنْ أعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ في عِبادِكَ الصّالِحِينَ﴾ [النمل: ١٩] .
وَفِي العُمُومِ قَوْلُهُ: ﴿حَتّى إذا بَلَغَ أشُدَّهُ وبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلى والِدَيَّ وأنْ أعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ وأصْلِحْ لِي في ذُرِّيَّتِي إنِّي تُبْتُ إلَيْكَ وإنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف: ١٥] .
وَقَدْ كانَ في أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن أصْحابِ المالِ الوَفِيرِ فَلَمْ يَزِدْهم إلّا قُرْبًا لِلَّهِ، كَعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وأمْثالِهِمْ، وفي الآيَةِ (p-٢٨)رَبْطٌ لَطِيفٌ بِأوَّلِ السُّورَةِ، إذا كانَ خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ، وهي أحْوَجُ ما يَكُونُ إلى لُطْفِ اللَّهِ وعِنايَتِهِ ورَحْمَتِهِ في رَحِمِ أُمِّهِ، فَإذا بِها مُضْغَةٌ ثُمَّ عِظامٌ، ثُمَّ تُكْسى لَحْمًا، ثُمَّ تُنْشَأُ خَلْقًا آخَرَ، ثُمَّ يَأْتِي إلى الدُّنْيا طِفْلًا رَضِيعًا لا يَمْلِكُ إلّا البُكاءَ، فَيُجْرِي اللَّهُ لَهُ نَهْرَيْنِ مِن لَبَنِ أُمِّهِ، ثُمَّ يُنْبِتُ لَهُ الأسْنانَ، ويَفْتِقُ لَهُ الأمْعاءَ، ثُمَّ يَشِبُّ ويَصِيرُ غُلامًا يافِعًا، فَإذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ بِشَيْءٍ مِنَ المالِ أوِ العافِيَةِ، فَإذا هو يَنْسى كُلَّ ما تَقَدَّمَ، ويَنْسى حَتّى رَبَّهُ ويَطْغى ويَتَجاوَزُ حَدَّهُ حَتّى مَعَ اللَّهِ خالِقِهِ ورازِقِهِ، كَما رَدَّ عَلَيْهِ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿أوَلَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِن نُطْفَةٍ فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ ﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا ونَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ ﴿قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أنْشَأها أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ الآيَةَ [يس: ٧٧ - ٧٩] .
وَمِمّا في الآيَةِ مِن لُطْفِ التَّعْبِيرِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾، أيْ أنَّ الطُّغْيانَ الَّذِي وقَعَ فِيهِ عَنْ وهْمٍ، تَراءى لَهُ أنَّهُ اسْتَغْنى سَواءٌ بِمالِهِ أوْ بِقُوَّتِهِ؛ لِأنَّ حَقِيقَةَ المالِ ولَوْ كانَ جِبالًا، لَيْسَ لَهُ مِنهُ إلّا ما أكَلَ ولَبِسَ وأنْفَقَ.
وَهَلْ يَسْتَطِيعُ أنْ يَأْكُلَ لُقْمَةً واحِدَةً إلّا بِنِعْمَةِ العافِيَةِ، فَإذا مَرِضَ فَماذا يَنْفَعُهُ مالُهُ، وإذا أكَلَها وهَلْ يَسْتَفِيدُ مِنها إلّا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَمِن هَذِهِ الآيَةِ أخَذَ بَعْضُ النّاسِ، أنَّ الغَنِيَّ الشّاكِرَ أعْظَمُ مِنَ الفَقِيرِ الصّابِرِ؛ لِأنَّ الغِنى مُوجِبٌ لِلطُّغْيانِ.
وَقَدْ قالَ بَعْضُ النّاسِ: الصَّبْرُ عَلى العافِيَةِ، أشَدُّ مِنَ الصَّبْرِ عَلى الحاجَةِ.
{"ayah":"كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق