تَنْبِيهٌ
فِي قَوْلِهِ تَعالى:
﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾، مَبْحَثُ التَّعْلِيمِ ومَوْرِدُ سُؤالٍ، وهو إذا كانَ تَعالى تَمَدَّحَ بِأنَّهُ عَلَّمَ بِالقَلَمِ وأنَّهُ عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ، فَكانَ فِيهِ الإشادَةُ بِشَأْنِ القَلَمِ، حَيْثُ إنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ عَلَّمَ بِهِ، وهَذا أعْلى مَراتِبِ الشَّرَفِ مَعَ أنَّهُ سُبْحانَهُ قادِرٌ عَلى التَّعْلِيمِ بِدُونِ القَلَمِ، ثُمَّ أوْرَدَهُ في مَعْرِضِ التَّكْرِيمِ في قَوْلِهِ:
﴿ن والقَلَمِ وما يَسْطُرُونَ﴾ ﴿ما أنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ [القلم: ١ - ٢]، وعِظَمُ المُقْسَمِ عَلَيْهِ وهو نِعْمَةُ اللَّهِ عَلى رَسُولِهِ ﷺ بِالوَحْيِ، يَدُلُّ عَلى عِظَمِ المُقْسَمِ بِهِ، وهو القَلَمُ وما يَسْطُرُونَ بِهِ مِن كِتابَةِ الوَحْيِ وغَيْرِهِ.
وَقَدْ ذُكِرَ القَلَمُ في السُّنَّةِ أنْواعًا مُتَفاوِتَةً، وكُلُّها بالِغَةُ الأهَمِّيَّةِ.
مِنها: أوَّلُها وأعْلاها:
القَلَمُ الَّذِي كَتَبَ ما كانَ وما سَيَكُونُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، والوارِدُ في الحَدِيثِ:
«أوَّلُ ما خَلَقَ اللَّهُ القَلَمُ، قالَ لَهُ: اكْتُبْ» الحَدِيثَ.
فَعَلى رِوايَةِ الرَّفْعِ، يَكُونُ هو أوَّلُ المَخْلُوقاتِ ثُمَّ جَرى بِالقَدَرِ كُلِّهِ، وبِما قُدِّرَ وُجُودُهُ كُلِّهِ.
ثانِيها: القَلَمُ الَّذِي يَكْتُبُ مَقادِيرَ العامِ في لَيْلَةِ القَدْرِ مِن كُلِّ سَنَةٍ، المُشارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: ٤] .
ثالِثُها: القَلَمُ الَّذِي يَكْتُبُ بِهِ المَلِكُ في الرَّحِمِ ما يَخُصُّ العَبْدَ مِن رِزْقٍ وعَمَلٍ.
رابِعُها: القَلَمُ الَّذِي بِأيْدِي الكِرامِ الكاتِبِينَ المُنَوَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨]، أيْ بِالكِتابَةِ كَما في قَوْلِهِ:
﴿كِرامًا كاتِبِينَ﴾ ﴿يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ﴾ [الإنفطار: ١١ - ١٢]، إذا قُلْنا إنَّ الكِتابَةَ في ذَلِكَ تَسْتَلْزِمُ قَلَمًا، كَما هو الظّاهِرُ.
خامِسُها: القَلَمُ الَّذِي بِأيْدِي النّاسِ يَكْتُبُونَ بِهِ ما يُعَلِّمُهُمُ اللَّهُ، ومِن أهَمِّها أقْلامُ كُتّابِ الوَحْيِ، الَّذِينَ كانُوا يَكْتُبُونَ الوَحْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وكِتابَةُ سُلَيْمانَ لِبِلْقِيسَ.
وَقَوْلُهُ تَعالى:
﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾، شامِلٌ لِهَذا كُلِّهِ، إذا كانَ هَذا كُلُّهُ شَأْنَ القَلَمِ وعِظَمَ أمْرِهِ، وعَظِيمَ المِنَّةِ بِهِ عَلى الأُمَّةِ، بَلى وعَلى الخَلِيقَةِ كُلِّها.
وَقَدِ افْتُتِحَتِ الرِّسالَةُ بِالقِراءَةِ والكِتابَةِ، فَلِماذا لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ الَّذِي أعْلَنَ عَنْ هَذا الفَضْلِ كُلِّهِ لِلْقَلَمِ ! لَمْ يَكُنْ هو كاتِبًا بِهِ، ولا مِن أهْلِهِ بَلْ هو أُمِّيٌّ لا يَقْرَأُ ولا يَكْتُبُ، كَما في قَوْلِهِ:
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنهُمْ﴾ [الجمعة: ٢] .
والجَوابُ: أنّا أشَرْنا أوَّلًا إلى ناحِيَةٍ مِنهُ، وهي أنَّهُ أكْمَلُ لِلْمُعْجِزَةِ، حَيْثُ أصْبَحَ النَّبِيُّ الأُمِّيُّ مُعَلِّمًا كَما قالَ تَعالى:
﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾ [آل عمران: ١٦٤] .
وَثانِيًا: لَمْ يَكُنْ هَذا النَّبِيُّ الأُمِّيُّ مُغْفِلًا شَأْنَ القَلَمِ، بَلْ عَنى بِهِ كُلَّ العِنايَةِ، وأوَّلُها وأعَظُهُما أنَّهُ اتَّخَذَ كُتّابًا لِلْوَحْيِ يَكْتُبُونَ ما يُوحى إلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، مَعَ أنَّهُ يَحْفَظُهُ ويَضْبُطُهُ، وتَعَهَّدَ اللَّهُ لَهُ بِحِفْظِهِ وبِضَبْطِهِ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى﴾ ﴿إلّا ما شاءَ اللَّهُ﴾ [الأعلى: ٦ - ٧]، حَتّى الَّذِي يَنْساهُ يُعَوِّضُهُ اللَّهُ بِخَيْرٍ مِنهُ أوْ مِثْلِهِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ما نَنْسَخْ مِن آيَةٍ أوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنها أوْ مِثْلِها﴾ [البقرة: ١٠٦]، ووَعَدَ اللَّهُ تَعالى بِحِفْظِهِ في قَوْلِهِ:
﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] .
وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ كانَ يَأْمُرُ بِكِتابَةِ هَذا المَحْفُوظِ وكانَ لَهُ عِدَّةُ كُتّابٍ، وهَذا غايَةٌ في العِنايَةِ بِالقَلَمِ.
وَذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ مِنَ الكُتّابِ الخُلَفاءَ الأرْبَعَةَ، ومَعَهم تَتِمَّةُ سَبْعَةَ عَشَرَ شَخْصًا، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ ﷺ في عِنايَتِهِ بِالقَلَمِ والتَّعْلِيمِ بِهِ عِنْدَ كِتابَةِ الوَحْيِ، بَلْ جَعَلَ التَّعْلِيمَ بِهِ أعَمَّ، كَما جاءَ خَبَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ العاصِ:
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أمَرَهُ أنْ يُعَلِّمَ النّاسَ الكِتابَةَ بِالمَدِينَةِ، وكانَ كاتِبًا مُحْسِنًا» ذَكَرَهُ صاحِبُ التَّرْتِيباتِ الإدارِيَّةِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ في الِاسْتِيعابِ.
وَفِي سُنَنِ أبِي داوُدَ عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ قالَ: ”عَلَّمَتُ ناسًا مِن أهْلِ الصُّفَّةِ الكِتابَةَ والقُرْآنَ“ .
وَقَدْ كانَتْ دَعْوَتُهُ ﷺ المُلُوكَ إلى الإسْلامِ بِالكِتابَةِ كَما هو مَعْلُومٌ.
وَأبْعَدُ مِن ذَلِكَ، ما جاءَ في قِصَّةِ أُسارى بَدْرٍ، حَيْثُ كانَ يُفادِي بِالمالِ مَن يَقْدِرُ عَلى الفِداءِ، ومَن لَمْ يَقْدِرْ، وكانَ يَعْرِفُ الكِتابَةَ كانَتْ مُفاداتُهُ أنْ يُعَلِّمَ عَشَرَةً مِنَ الغِلْمانِ الكِتابَةَ، فَكَثُرَتِ الكِتابَةُ في المَدِينَةِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَكانَ مِمَّنْ تَعَلَّمَ: زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ وغَيْرُهُ.
فَإذا كانَ المُسْلِمُونَ وهم في بادِئِ أمْرِهِمْ وأحْوَجُ ما يَكُونُ إلى المالِ والسِّلاحِ، بَلْ واسْتِرْقاقِ الأُسارى، فَيُقَدِّمُونَ تَعْلِيمَ الغِلْمانِ الكِتابَةَ عَلى ذَلِكَ كُلِّهِ، لَيَدُلُّ عَلى أمْرَيْنِ:
أوَّلُهُما: شِدَّةُ وزِيادَةُ العِنايَةِ بِالتَّعْلِيمِ.
وَثانِيهِما: جَوازُ تَعْلِيمِ الكافِرِ لِلْمُسْلِمِ ما لا تَعَلُّقَ لَهُ بِالدِّينِ، كَما يُوجَدُ الآنَ مِنَ الأُمُورِ الصِّناعِيَّةِ، في الهَنْدَسَةِ، والطِّبِّ، والزِّراعَةِ، والقِتالِ، ونَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ كَثُرَ المُتَعَلِّمُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، حَتّى كانَ عَدَدُ كُتّابِ الوَحْيِ اثْنَيْنِ وأرْبَعِينَ رَجُلًا، ثُمَّ كانَ انْتِشارُ الكِتابَةِ مَعَ الإسْلامِ، وجاءَ النَّصُّ عَلى الكِتابَةِ في تَوْثِيقِ الدِّينِ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ﴾ الآيَةَ
[البقرة: ٢٨٢]، وهي أطْوَلُ آيَةٍ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى رُسِمَتْ فِيها كِتابَةُ العَدْلِ الحَدِيثَةُ كُلُّها.
وَإذا كانَ هَذا شَأْنُ القَلَمِ وتَعَلُّمُهُ، فَقَدْ وقَعَ الكَلامُ في تَعْلِيمِهِ لِلنِّساءِ عَلى أنَّهُنَّ شَقائِقُ الرِّجالِ في التَّكْلِيفِ والعِلْمِ، فَهَلْ كُنَّ كَذَلِكَ في تَعَلُّمِ الكِتابَةِ أمْ لا ؟
* * *مَبْحَثُ تَعْلِيمِ النِّساءِ الكِتابَةَ
وَقَعَ الخِلافُ بِسَبَبِ نَصَّيْنِ في المَسْألَةِ:
الأوَّلُ: حَدِيثُ الشِّفاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ قالَتْ:
«دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأنا عِنْدَ حَفْصَةَ، فَقالَ لِي: ألا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَما عَلَّمْتِيها الكِتابَةَ ؟» رَواهُ المَجْدُ في المُنْتَقى عَنْ أحْمَدَ وأبِي داوُدَ وقالَ بَعْدَهُ: وهو دَلِيلٌ عَلى جَوازِ تَعَلُّمِ النِّساءِ الكِتابَةَ.
والثّانِي: حَدِيثُ عائِشَةَ رَواهُ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ البَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا:
«لا تُنْزِلُوهُنَّ الغُرَفَ ولا تُعَلِّمُوهُنَّ الكِتابَةَ يَعْنِي النِّساءَ، وعَلِّمُوهُنَّ الغَزْلَ وسُورَةَ النُّورِ» قالَ الشَّوْكانِيُّ في نَيْلِ الأوْطارِ، عَلى حَدِيثِ المُنْتَقى وحَدِيثِ عائِشَةَ: إنَّ حَدِيثَ الشِّفاءِ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ تَعْلِيمِهِنَّ، وحَدِيثُ النَّهْيِ مَحْمُولٌ عَلى مَن يُخْشى مِن تَعْلِيمِها الفَسادُ، أعْنِي تَعْلِيمَ الكِتابَةِ والقِراءَةِ.
أمّا تَعْلِيمُ العِلْمِ فَلَيْسَ مَحَلَّ خِلافٍ، والواقِعُ أنَّ هَذِهِ المَسْألَةَ واضِحَةُ المَعالِمِ، إذا نَظَرْتَ كالآتِي:
أوَّلًا: لا شَكَّ أنَّ العِلْمَ مِن حَيْثُ هو خَيْرٌ مِنَ الجَهْلِ، والعِلْمُ قِسْمانِ: عِلْمُ سَماعٍ وتَلَقٍّ، وهَذِهِ سِيرَةُ زَوْجاتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وعائِشَةُ كانَتِ القُدْوَةَ الحَسَنَةَ في ذَلِكَ في فِقْهِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وكَمِ اسْتَدْرَكَتْ عَلى الصَّحابَةِ رِضْوانُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ، وهَذا مَشْهُورٌ ومَعْلُومٌ.
والثّانِي: عِلْمُ تَحْصِيلٍ بِالقِراءَةِ والكِتابَةِ، وهَذا يَدُورُ مَعَ تَحَقُّقِ المَصْلَحَةِ مِن عَدَمِها، فَمَن رَأى أنَّ تَعْلِيمَهُنَّ مَفْسَدَةٌ مَنَعَهُ، كَما رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنَّهُ مَرَّ عَلى رَجُلٍ يُعَلِّمُ امْرَأةً الكِتابَةَ فَقالَ: لا تَزِدِ الشَّرَّ شَرًّا.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الحُكَماءِ: أنَّهُ رَأى امْرَأةً تَتَعَلَّمُ الكِتابَةَ، فَقالَ: أفْعى تُسْقى سُمًّا، وأنْشَدُوا الآتِيَ:
ما لِلنِّساءِ ولِلْكِتا بِةِ والعِمالَةِ والخَطابَهْ
هَذا لَنا ولَهُنَّ مِنّا ∗∗∗ أنْ يَبِتْنَ عَلى جَنابَهْ
وَمِثْلُهُ ما قالَهُ المَنفَلُوطِيُّ:
يا قَوْمُ لَمْ تُخْلَقْ بَناتُ الوَرى ∗∗∗ لِلدَّرْسِ والطَّرْسِ وقالَ وقِيلَ
لَنا عُلُومٌ ولَها غَيْرُها ∗∗∗ فَعَلِّمُوها كَيْفَ نَشْرُ الغَسِيل
والثَّوْبُ والإبْرَةُ في كَفِّها ∗∗∗ طَرْسٌ عَلَيْهِ كُلُّ خَطٍّ جَمِيل
وَهَذا نَظَرَ إلى تَعْلِيمِهِنَّ ومَوْقِفِهِنَّ مِن زاوِيَةٍ واحِدَةٍ. كَما قالَ الشّاعِرُ الآخَرُ:
كُتِبَ القَتْلُ والقِتالُ عَلَيْنا ∗∗∗ وعَلى الغانِياتِ جَرُّ الذُّيُول
مَعَ أنَّنا وجَدْنا في تارِيخِ المَرْأةِ نِسْوَةٌ شارَكْنَ في القِتالِ، حَتّى عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها كانَتْ تُسْقِي الماءَ، وأُمُّ سَلَمَةَ تُداوِي الجَرْحى، إذْ لا يُؤْخَذُ قَوْلُ كُلٍّ مِنهُما عَلى عُمُومِهِ.
قالَ صاحِبُ التَّراتِيبِ الإدارِيَّةِ: أوْرَدَ القَلْقَشَنْدِيُّ أنَّ جَماعَةً مِنَ النِّساءِ كُنَّ يَكْتُبْنَ، ولَمْ يَرَ أنَّ أحَدًا مِنَ السَّلَفِ أنْكَرَ عَلَيْهِنَّ. ا هـ.
وَمِنَ المَعْلُومِ رِوايَةُ كَرِيمَةَ لِصَحِيحِ البُخارِيِّ، وهي مِنَ الرِّوايَةِ المُعْتَبَرَةِ عَنِ المُحَدِّثِينَ، فَقَدْ رَأيْتُ بِنَفْسِي وأنا مُدَرِّسٌ بِالأحْساءِ نُسْخَةً لِسُنَنِ أبِي داوُدَ عِنْدَ آلِ المُبارَكِ وَعَلَيْها تَعْلِيقٌ لِأُخْتِ صَلاحِ الدِّينِ الأيُّوبِيِّ، وذَكَرَ صاحِبُ التَّراتِيبِ الإدارِيَّةِ قَوْلَهُ: وقَدْ ثَبَتَ عَنْ كَثِيرٍ مِن نِساءِ أهْلِ الصَّحْراءِ الإفْرِيقِيَّةِ خُصُوصًا شِنْقِيطَ: شِنْجِطَ، أيْ شِنْقِيطَ، وهي المَعْرُوفَةُ الآنَ بِمُورِيتانْيا، وتِيتْبِكْتُو، وقَبِيلَةَ كِنْتِ العَجَبِ، حَتّى جاءَ أنَّ الشَّيْخَ المُخْتارَ الكُنْتِيَّ الشَّهِيرَ، خَتَمَ مُخْتَصَرَ خَلِيلٍ لِلرِّجالِ، وخَتَمَتْهُ زَوْجَتُهُ في جِهَةٍ أُخْرى لِلنِّساءِ. ا هـ.
وَمِمّا يُؤَيِّدُ ما ذَكَرَهُ أنَّنا ونَحْنُ في بَعْثَةِ الجامِعَةِ الإسْلامِيَّةِ لِإفْرِيقِيا، سَمِعْنا ونَحْنُ في مَدِينَةِ أطارَ وهي عَلى مَقْرُبَةٍ مِن مَدِينَةِ شِنْجِيطَ المَذْكُورَةِ، سَمِعْنا مِن كِبارِ أهْلِها أنَّهُ كانَ يُوجَدُ بِها سابِقًا مِائَتا فَتاةٍ يَحْفَظْنَ المُدَوَّنَةَ كامِلَةً.
وَقَدْ سَمِعْتُ في الآوِنَةِ الأخِيرَةِ، أنَّهُ كانَتْ تُوجَدُ امْرَأةٌ تُدَرِّسُ في المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، الحَدِيثَ، والسِّيرَةَ، واللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ وهي شِنْقِيطِيَّةٌ.
وَيَجِبُ أنْ تَكُونَ النَّظْرَةُ لِهَذِهِ المَسْألَةِ عَلى ضَوْءِ واقِعِ الحَياةِ اليَوْمَ وفي كُلِّ يَوْمٍ، وقَدْ أصْبَحَ تَعْلِيمُ المَرْأةِ مِن مُتَطَلَّباتِ الحَياةِ، ولَكِنَّ المُشْكِلَةَ تَكْمُنُ في مَنهَجِ تَعْلِيمِها، وكَيْفِيَّةِ تَلَقِّيها العِلْمَ.
فَكانَ مِنَ اللّازِمِ أنْ يَكُونَ مَنهَجُ تَعْلِيمِها قاصِرًا عَلى النَّواحِي الَّتِي يَحْسُنُ أنْ تَعْمَلَ فِيها كالتَّعْلِيمِ والطِّبِّ وكَفى.
أمّا كَيْفِيَّةُ تَعْلِيمِها، فَإنَّ مُشْكِلَتَها إنَّما جاءَتْ مِنَ الِاخْتِلاطِ في مُدَرَّجاتِ الجامِعاتِ، وفُصُولِ الدِّراسَةِ في الثّانَوِيّاتِ في فَتْرَةِ المُراهَقَةِ، وقِلَّةِ المُراقَبَةِ، وفي هَذا يَكْمُنُ الخَطَرُ مِنها وعَلَيْها في آنٍ واحِدٍ، فَإذا كانَ لا بُدَّ مِن تَعْلِيمِها، فَلا بُدَّ أيْضًا مِنَ المَنهَجِ الَّذِي يُحَقِّقُ الغايَةَ مِنهُ، ويَضْمَنُ السَّلامَةَ فِيهِ، والتَّوْفِيقُ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ.
أمّا ما يُخْشى عَلَيْها مِنَ الِاتِّصالِ عَنْ طَرِيقِ الكِتابَةِ، فَقَدْ وُجِدَ ما هو أقْرَبُ وأسْرَعُ مِنها لِمَن شاءَتْ وهو الهاتِفُ في البُيُوتِ، فَإنَّهُ في مُتَناوَلِ المُتَعَلِّمَةِ والجاهِلَةِ. والمَدارُ في ذَلِكَ كُلِّهِ عَلى الحَصانَةِ التَّرْبَوِيَّةِ والمَتانَةِ الدِّينِيَّةِ والقُوَّةِ الأخْلاقِيَّةِ.
وَقَدْ أوْرَدْتُ هَذا المَبْحَثَ اسْتِطْرادًا لِبَيانِ وِجْهَةِ النَّظَرِ في هَذِهِ المَسْألَةِ، اقْتِباسًا مِن قَوْلِهِ تَعالى:
﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
* * *مَسْألَةٌ
بَيانُ أوَّلِيَّةِ الكِتابَةِ عامَّةً والعَرَبِيَّةِ خاصَّةً، وأوَّلُ مَن خَطَّ بِالقَلَمِ عَلى الأرْضِ:
جاءَ في المَطالِعِ النَّصْرِيَّةِ لِلْمَطابِعِ المِصْرِيَّةِ في الأُصُولِ الخَطِّيَّةِ المَطْبُوعِ سَنَةَ ١٣٠٤ هـ ما نَصُّهُ: وإنَّما أُصُولُ الكِتابَةِ اثْنَيْ عَشَرَ عَلى ما قالَهُ ابْنُ خِلِّكانَ، وتَبِعَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُؤَلِّفِينَ، كالدِّمِيرِيِّ في حَياةِ الحَيَوانِ، والحَلَبِيِّ في السِّيرَةِ وغَيْرِهِما.
قالَ: إنَّ جَمِيعَ كِتاباتِ الأُمَمِ مِن سُكّانِ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ كِتابَةً، خَمْسٌ مِنها ذَهَبَ مَن يَعْرِفُها وبَطَلَ اسْتِعْمالُها وهي: الحِمْيَرِيَّةُ، والقِبْطِيَّةُ، والبَرْبَرِيَّةُ، والأنْدَلُسِيَّةُ، واليُونانِيَّةُ، وثَلاثٌ مِنها فُقِدَ مَن يَعْرِفُها في بِلادِ الإسْلامِ ومُسْتَعْمَلَةٌ في بِلادِها، وهي السُّرْيانِيَّةُ والفارِسِيَّةُ والعِبْرانِيَّةُ والعَرَبِيَّةُ. ا هـ. كَلامُهُ بِاخْتِصارٍ وفِيهِ ما فِيهِ.
قالَ: والحِمْيَرِيَّةُ: هي خَطُّ أهْلِ اليَمَنِ قَوْمِ هُودٍ وهم عادٌ الأُولى، وهي عادُ إرَمَ، وكانَتْ كِتابَتُهم تُسَمّى المُسْنَدَ الحِمْيَرِيَّ، وكانَتْ حُرُوفُها كُلُّها مُنْفَصِلَةً، وكانُوا يَمْنَعُونَ العامَّةَ مِن تَعَلُّمِها فَلا يَتَعاطاها أحَدٌ إلّا بِإذْنِهِمْ، حَتّى جاءَتْ دَوْلَةُ الإسْلامِ، ولَيْسَ بِجَمِيعِ اليَمَنِ مَن يَكْتُبُ ويَقْرَأُ.
وَقالَ المَقْرِيزِيُّ في الخُطَطِ: القَلَمُ المُسْنَدُ، هو القَلَمُ الأوَّلُ مِن أقْلامِ حِمْيَرَ ومُلُوكِ عادٍ. ا هـ.
والمَعْرُوفُ الآنَ أنَّ الحُرُوفَ المُسْتَعْمَلَةَ في الكِتابَةِ في العالَمِ كُلِّهِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ اللُّغاتِ المَنطُوقِ بِها هي ثَلاثَةٌ فَقَطْ، الخَطُّ العَرَبِيُّ بِحُرُوفِ ألِفٍ باءٍ وبِها لُغاتُ الشَّرْقِ. والحُرُوفُ اللّاتِينِيَّةُ وبِها لُغاتُ أُورُوبّا والحُرُوفُ الصِّينِيَّةُ.
أمّا اللُّغاتُ، وهي فَوْقَ ألْفَيْ لُغَةٍ ”والأمْهَرِيَّةُ بِحَرْفٍ قَرِيبٍ مِنَ اللّاتِينِيِّ“ .
أمّا أوَّلِيَّةُ الكِتابَةِ العَرَبِيَّةِ، فَقالَ صاحِبُ المَطالِعِ النَّصْرِيَّةِ: فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّواياتُ فِيها، كَما قالَهُ الحافِظُ السُّيُوطِيُّ في الأوائِلِ.
وَكَذا في المُزْهِرِ في النَّوْعِ الثّانِي والأرْبَعِينَ، قالَ: إنَّهُ يَرى أنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أوَّلُ مَن كَتَبَ بِالقَلَمِ، وأنَّ الكِتاباتِ كُلَّها مِن وضْعِهِ، كانَ قَدْ كَتَبَها في طِينٍ وطَبَخَهُ، يَعْنِي أحْرَقَهُ ودَفَنَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وبَعْدَ الطُّوفانِ وجَدَ كُلُّ قَوْمٍ كِتابًا فَتَعَلَّمُوهُ، وكانَتِ اثْنَيْ عَشَرَ كِتابًا، فَتَعَلَّمُوهُ بِإلْهامٍ إلَهِيٍّ.
وَقِيلَ: إنَّ أوَّلَ مَن خَطَّ بِالعَرَبِيِّ إسْماعِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ. ا هـ.
وَقَدْ أطالَ السُّيُوطِيُّ في المُزْهِرِ الكَلامَ في هَذِهِ المَسْألَةِ، نَقْلًا عَنِ ابْنِ فارِسٍ الشِّدْياقِيِّ.
وَعَنِ العَسْكَرِيِّ عَنِ الأوائِلِ في ذَلِكَ أقْوالٌ، فَقِيلَ إسْماعِيلُ، وقِيلَ مِرارُ بْنُ مُرَّةَ، وهُما مِن أهْلِ الأنْبارِ، وفي ذَلِكَ يَقُولُ الشّاعِرُ:
كَتَبْتُ أبا جادٍ وخَطِّي مُرامِرُ وسَوَّرْتُ سِرْبالِي ولَسْتُ بِكاتِب
وَقِيلَ: أوَّلُ مَن وضَعَهُ أبْجَدْ، وهَوَّزْ، وحُطِّي، وكَلَمُنْ، وصَعْفَصْ، وقَرَشَتْ، وكانُوا مُلُوكًا فَسُمِّيَ الهِجاءُ بِأسْمائِهِمْ.
وَذُكِرَ عَنِ الحافِظِ أبِي طاهِرٍ السَّلَفِيِّ بِسَنَدِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: أوَّلُ مَن كَتَبَ بِالعَرَبِيَّةِ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، تَعَلَّمَ مِن أهْلِ الحِيرَةِ، وتَعَلَّمَ أهْلُ الحِيرَةِ مِن أهْلِ الأنْبارِ.
وَقالَ أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي داوُدَ في كِتابِ المَصاحِفِ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنا سُفْيانُ عَنْ مُجالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: سَألْنا المُهاجِرِينَ مِن أيْنَ تَعَلَّمْتُمُ الكِتابَةَ ؟ قالُوا: تَعَلَّمْنا مِن أهْلِ الحِيرَةِ، وسَألْنا أهْلَ الحِيرَةِ: مِن أيْنَ تَعَلَّمْتُمُ الكِتابَةَ ؟ قالُوا: مِن أهْلِ الأنْبارِ، ثُمَّ قالَ ابْنُ فارِسٍ: والَّذِي نَقُولُهُ: إنَّ الخَطَّ تَوْقِيفِيٌّ، وذَلِكَ لِظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ ﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ .
وَقَوْلِهِ:
﴿ن والقَلَمِ وما يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: ١] .
وَإذا كانَ هَذا فَلَيْسَ بِبَعِيدٍ، أنْ يُوقِفَ اللَّهُ آدَمَ أوْ غَيْرَهُ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عَلى الكِتابَةِ، فَأمّا أنْ يَكُونَ شَيْئًا مُخْتَرَعًا اخْتَرَعَهُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِهِ، فَهَذا شَيْءٌ لا نَعْلَمُ صِحَّتَهُ إلّا مِن خَبَرٍ صَحِيحٍ.
قالَ السُّيُوطِيُّ: قُلْتُ يُؤَيِّدُ ما قالَهُ مِنَ التَّوْقِيفِ، ما أخْرَجَهُ ابْنُ شُقَّةَ مِن طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ”أوَّلُ كِتابٍ أنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ أبا جادٍ“ .
وَأخْرَجَ الإمامُ أحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ أبِي ذَرٍّ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:
«أوَّلُ مَن خَطَّ بِالقَلَمِ إدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلامُ» . ا هـ.
وَقَدْ أطالَ النُّقُولَ في ذَلِكَ مِمّا يَرْجِعُ إلى الأوَّلِ، ولَيْسَ فِيهِ نَقْلٌ صَحِيحٌ يُقْطَعُ بِهِ.
وَقَدْ أوْرَدْنا هَذِهِ النُّبْذَةَ بِخُصُوصِ كَلامِ ابْنِ فارِسٍ، مِن أنَّ تَعْلِيمَ الكِتابَةِ أمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ، وما اسْتَدَلَّ بِهِ السُّيُوطِيُّ مِن أوَّلِ كِتابٍ أنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ، فَإنَّ في القُرْآنِ ما يَشْهَدُ لِإمْكانِ ذَلِكَ، وهو أنَّ اللَّهَ تَعالى أنْزَلَ الصُّحُفَ لِمُوسى مَكْتُوبَةً.
وَفِي الحَدِيثِ:
«إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الألْواحَ لِمُوسى بِيَدِهِ، وغَرَسَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ» .
وَإذا كانَ مُوسى تَلَقّى ألْواحًا مَكْتُوبَةً، فَلا بُدَّ أنْ تَكُونَ الكِتابَةُ مَعْلُومَةً لَهُ قَبْلَ إنْزالِها، وإلّا لَما عَرَفَها.
أمّا المَشْهُورُ في الأحْرُفِ الَّتِي نَكْتُبُ بِها الآنَ، فَكَما قالَ السُّيُوطِيُّ في المُزْهِرِ، ونَقَلَهُ عَنْهُ صاحِبُ المَطالِعِ المِصْرِيَّةِ ما نَصُّهُ:
المَشْهُورُ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ ما رَواهُ ابْنُ الكَلْبِيِّ عَنْ عَوانَةَ، قالَ: أوَّلُ مَن كَتَبَ بِخَطِّنا هَذا. وهو الجَزْمُ مُرامِرُ بْنُ مُرَّةَ، وأسْلَمُ بْنُ سِدْرَةَ، وعامِرُ بْنُ حَدْرَةَ. كَما في القامُوسِ. وهم مِن عَرَبِ طَيِّئٍ تَعَلَّمُوهُ مِن كُتّابِ الوَحْيِ لِسَيِّدِنا هُودٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ عَلَّمُوهُ أهْلَ الأنْبارِ، ومِنهُمُ انْتَشَرَتِ الكِتابَةُ في العِراقِ والحِيرَةِ وغَيْرِها، فَتَعَلَّمَها بِشْرُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ أخُو أُكَيْدِرَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ صاحِبِ دَوْمَةِ الجَنْدَلِ، وكانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ بِحَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ فَتَعَلَّمَ حَرْبٌ مِنهُ، ثُمَّ سافَرَ مَعَهُ بِشْرٌ إلى مَكَّةَ فَتَزَوَّجَ الصَّهْباءَ بَنْتَ حَرْبٍ أُخْتَ أبِي سُفْيانَ. فَتَعَلَّمَ مِنهُ جَماعَةٌ مِن أهْلِ مَكَّةَ.
فَبِهَذا كَثُرَ مَن يَكْتُبُ بِمَكَّةَ مِن قُرَيْشٍ قُبَيْلَ الإسْلامِ.
وَلِذا قالَ رَجُلٌ كِنْدِيٌّ مِن أهْلِ دَوْمَةِ الجَنْدَلِ، يَمُنُّ عَلى قُرَيْشٍ بِذَلِكَ:
لا تَجْحَدُوا نَعْماءَ بِشْرٍ عَلَيْكُمُ ∗∗∗ فَقَدْ كانَ مَيْمُونَ النَّقِيبَةِ أزْهَرا
أتاكم بِخَطِّ الجَزْمِ حَتّى حَفِظْتُمُو ∗∗∗ مِنَ المالِ ما قَدْ كانَ شَتّى مُبَعْثَرًا
وَأتْقَنْتُمُو ما كانَ بِالمالِ مُهْمَلًا ∗∗∗ وطَمْأنْتُمُو ما كانَ مِنهُ مُبَقَّرًا
فَأجْرَيْتُمُ الأقْلامَ عَوْدًا وبَدْأةً ∗∗∗ وضاهَيْتُمْ كُتّابَ كِسْرى وقَيْصَرًا
وَأغْنَيْتُمُ عَنْ مُسْنَدٍ إلى حِمْيَرا ∗∗∗ وما زَبَرَتْ في الصُّحْفِ أقْلامُ حِمْيَرا
قالَ: وكَذَلِكَ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ نَقَلَ عَنِ الفَرّاءِ، أنَّهُ قالَ: إنَّما كَتَبُوا الرِّبا في المُصْحَفِ بِالواوِ؛ لِأنَّ أهْلَ الحِجازِ تَعَلَّمُوا الخَطَّ مَن أهْلِ الحِيرَةِ، ولُغَتُهُمُ الرِّبَوا، فَعَلَّمُوهم صُورَةَ الخَطِّ عَلى لُغَتِهِمْ. ا هـ.
تَنْبِيهٌ آخَرُ
قَوْلُهُ تَعالى:
﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾، لا يَمْنَعُ تَعْلِيمَهُ تَعالى بِغَيْرِ القَلَمِ، كَما في قِصَّةِ الخَضِرِ مَعَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿فَوَجَدا عَبْدًا مِن عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ [الكهف: ٦٥] .
وَكَما في حَدِيثِ:
«نَفَثَ في رُوعِي أنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَها وأجَلَها» الحَدِيثَ.
وَكَما في حَدِيثِ الرُّقْيَةِ بِالفاتِحَةِ لِمَن لَدْغَتْهُ العَقْرَبُ في قِصَّةِ السَّرِيَّةِ المَعْرُوفَةِ، فَلَمّا سَألَهُ ﷺ:
«وَما يُدْرِيكَ أنَّها رُقْيَةٌ ؟ قالَ: شَيْءٌ نَفَثَ في رُوعِي» .
وَحَدِيثِ عَلِيٍّ لَمّا سُئِلَ ”هَلْ خَصَّكم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِعِلْمٍ ؟ قالَ: لا، إلّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ مَن شاءَ في كِتابِهِ. وما في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ“ .
وَقَوْلِهِ:
﴿واتَّقُوا اللَّهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢] . نَسْألُ اللَّهَ عِلْمَ ما لَمْ نَعْلَمْ، والعَمَلَ بِما نَعْلَمُ. وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.