الباحث القرآني
(p-١٢)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ العَلَق
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ﴾ ﴿اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ ﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ .
فِي هَذِهِ الآياتِ الخَمْسِ تِسْعُ مَسائِلَ مُرْتَبِطٌ بَعْضُها بِبَعْضٍ ارْتِباطَ السَّبَبِ بِالمُسَبَّبِ، والعامِّ بِالخاصِّ، والدَّلِيلِ بِالمَدْلُولِ عَلَيْهِ، وكُلُّها مِن مَنهَجِ هَذا الكِتابِ المُبارَكِ. وفي الواقِعِ أنَّها كُلَّها مَسائِلُ أساسِيَّةٌ بالِغَةُ الأهَمِّيَّةِ عَظِيمَةُ الدَّلالَةِ.
وَقَدْ قالَ عَنْها ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إنَّها وأمْثالَها مِنَ السُّوَرِ الَّتِي فِيها العَجائِبُ، وذَلِكَ لِما جاءَ فِيها مِنَ التَّأْسِيسِ لِافْتِتاحِيَّةِ تِلْكَ الرِّسالَةِ العَظِيمَةِ، ولا تَسْتَطِيعُ إيفاءَها حَقَّها عَجْزًا وقُصُورًا.
وَقَدْ كَتَبَ فِيها شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِأُسْلُوبِهِ مِائَتَيْنِ وعِشْرِينَ صَفْحَةً مُتَتالِيَةً، وفَصْلًا آخَرَ في مَباحِثَ تَتَّصِلُ بِها، ولَوْ أوْرَدْنا كُلَّ ما يَسَعُنا مِمّا تَحْتَمِلُهُ، لَكانَ خُرُوجًا عَنْ مَوْضُوعِ الكِتابِ، ولِذا فَإنّا نَقْصُرُ القَوْلَ عَلى ما يَتَّصِلُ بِمَوْضُوعِهِ، إلّا ما جَرى القَلَمُ بِهِ مِمّا لا يُمْكِنُ تَرْكُهُ، وبِاللَّهِ تَعالى التَّوْفِيقُ.
أمّا المَسائِلُ التِّسْعُ الَّتِي ذُكِرَتْ هُنا، فَإنّا نُورِدُها لِنَتَقَيَّدَ بِها وهي:
أوَّلًا: الأمْرُ بِالقِراءَةِ، يُوَجَّهُ لِنَبِيٍّ أُمِّيٍّ.
والثّانِيَةُ: كَوْنُ القِراءَةِ هَذِهِ بِاسْمِ الرَّبِّ سُبْحانَهُ مُضافًا لِلْمُخاطَبِ ﷺ بِاسْمِ رَبِّكَ.
الثّالِثَةُ: وصْفٌ لِلرَّبِّ الَّذِي خَلَقَ بَدَلًا مِنِ اسْمِ اللَّهِ، واسْمِ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
الرّابِعَةُ: خَلْقُ الإنْسانِ بِخُصُوصِهِ، بَعْدَ عُمُومِ خَلْقٍ وإطْلاقِهِ.
(p-١٣)الخامِسَةُ: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ﴾، ولَمْ يَذْكُرْ ما قَبْلَ العَلَقَةِ مِن نُطْفَةٍ أوْ خَلْقَ آدَمَ مِن تُرابٍ.
السّادِسَةُ: إعادَةُ الأمْرِ بِالقِراءَةِ مَعَ ﴿وَرَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ بَدَلًا مِن أيِّ صِفَةٍ أُخْرى، وبَدَلًا مِنَ الَّذِي خَلَقَ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ.
الثّامِنَةُ: التَّعْلِيمُ بِالقَلَمِ.
التّاسِعَةُ: تَعْلِيمُ الإنْسانِ ما لَمْ يَعْلَمْ.
* * *
لَمّا كانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ هي أوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ القُرْآنِ، وكانَتْ تِلْكَ الآياتُ الخَمْسُ أوَّلَ ما نَزَلَ مِنها عَلى الصَّحِيحِ، فَهي بِحَقٍّ افْتِتاحِيَّةُ الوَحْيِ، فَكانَتْ مَوْضِعَ عِنايَةِ المُفَسِّرِينَ وغَيْرِهِمْ، والكَلامُ عَلى ذَلِكَ مُسْتَفِيضٌ في كُتُبِ التَّفْسِيرِ والحَدِيثِ والسِّيرَةِ، فَلا مُوجِبَ لِإيرادِهِ هُنا. ولَكِنْ نُورِدُ الكَلامَ عَلى ما ذَكَرْنا مِن مَوْضُوعِ الكِتابِ إنْ شاءَ اللَّهُ.
أمّا المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ تَعالى: اقْرَأْ، فالقِراءَةُ لُغَةً الإظْهارُ، والإبْرازُ، كَما قِيلَ في وصْفِ النّاقَةِ: لَمْ تَقْرَأْ جَنِينًا، أيْ لَمْ تُنْتِجْ.
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ بَيانُ هَذا المَعْنى لُغَةً، وتَوْجِيهُ الأمْرِ بِالقِراءَةِ إلى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ لا تَعارُضَ فِيهِ؛ لِأنَّ القِراءَةَ تَكُونُ مِن مَكْتُوبٍ وتَكُونُ مِن مَتْلُوٍّ، وهُنا مِن مَتْلُوٍّ يَتْلُوهُ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهَذا إبْرازٌ لِلْمُعْجِزَةِ أكْثَرُ؛ لِأنَّ الأُمِّيَّ بِالأمْسِ صارَ مُعَلِّمًا اليَوْمَ. وقَدْ أشارَ السِّياقُ إلى نَوْعَيِ القِراءَةِ هَذَيْنِ، حَيْثُ جَمَعَ القِراءَةَ مَعَ التَّعْلِيمِ بِالقَلَمِ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعالى: اقْرَأْ بَدْءٌ لِلنُّبُوَّةِ وإشْعارٌ بِالرِّسالَةِ؛ لِأنَّهُ يَقْرَأُ كَلامَ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، تُؤَكِّدُ لِهَذا الإشْعارِ، أيْ: لَيْسَ مِن عِنْدِكَ ولا مِن عِنْدِ جِبْرِيلَ الَّذِي يُقْرِئُكَ.
وَقَدْ قَدَّمْنا الرَّدَّ عَلى كَوْنِهِ ﷺ لَمْ يَكْتُبْ ولا يَقْرَأُ مَكْتُوبًا، مِن أنَّهُ صِيانَةٌ لِلرِّسالَةِ، كَما أنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ الشِّعْرَ وما يَنْبَغِي لَهُ، إذًا لارْتابَ المُبْطِلُونَ.
كَما قالَ تَعالى: ﴿وَما كُنْتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتابٍ ولا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ الآيَةَ [العنكبوت: ٤٨] . وذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ﴾ [الجمعة: ٢] .
(p-١٤)وَهُنا لَمْ يُبَيِّنْ ما يَقْرَؤُهُ ولَكِنَّ مَجِيءَ سُورَةِ القَدْرِ بَعْدَها بِمَثابَةِ البَيانِ لِما يَقْرَؤُهُ وهي: ﴿إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ﴾ [القدر: ١]، وجاءَ بَيانُ ما أُنْزِلَ في سُورَةِ الدُّخانِ: ﴿حم﴾ ﴿والكِتابِ المُبِينِ﴾ ﴿إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ﴾ [النساء: ١ - ٣] .
وَلِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ بَيانٌ لِذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [النساء: ١١٣]، فَكَأنَّهُ في قُوَّةٍ اقْرَأْ ما يُوحى إلَيْكَ مِن رَبِّكَ، والمُرادُ بِهِ هو القُرْآنُ بِالإجْماعِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، أيِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ مُنْشِئًا ومُبْتَدِئًا القِراءَةَ بِاسْمِ رَبِّكَ، وقَدْ تَكَلَّمَ المُفَسِّرُونَ عَلى الباءِ أهِيَ صِلَةٌ، ويَكُونُ اقْرَأِ اسْمَ رَبِّكَ، أيْ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ، كَما في أوائِلِ السُّوَرِ.
وَقِيلَ: الباءُ بِمَعْنى عَلى، أيْ عَلى اسْمِ رَبِّكَ، وعَلَيْهِ: فالمَقْرُوءُ مَحْذُوفٌ.
والَّذِي يَظْهَرُ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ أيْ أنَّ ما تَقْرَؤُهُ هو مِن رَبِّكَ، وتُبَلِّغُهُ لِلنّاسِ بِاسْمِ رَبِّكَ، وأنْتَ مُبَلِّغٌ عَنْ رَبِّكَ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ: ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ ﴿إنْ هو إلّا وحْيٌ يُوحى﴾ [النجم: ٣ - ٤] .
وَقَوْلِهِ: ﴿ما عَلى الرَّسُولِ إلّا البَلاغُ﴾ [المائدة: ٩٩]، أيْ: عَنِ اللَّهِ تَعالى.
وَكَقَوْلِهِ: ﴿وَما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا لِيُطاعَ بِإذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٦٤] .
وَنَظِيرُ هَذا في الأعْرافِ الحاضِرَةِ خِطابُ الحُكْمِ، أوْ ما يُسَمّى خِطابَ العَرْشِ، حِينَما يَقُولُ مُلْقِيهِ بِاسْمِ المَلِكِ، أوْ بِاسْمِ الأُمَّةِ، أوْ بِاسْمِ الشَّعْبِ، عَلى حَسَبِ نِظامِ الدَّوْلَةِ، أيْ باسِمِ السُّلْطَةِ الَّتِي مِنها مَصْدَرُ التَّشْرِيعِ والتَّوْجِيهِ السِّياسِيِّ.
وَهُنا باسِمِ اللَّهِ، بِاسْمِ رَبِّكَ، وصِفَةُ رَبِّكَ هُنا لَها مَدْلُولُ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي يُنَبِّهُ العَبْدَ إلى ما أوْلاهُ اللَّهُ إيّاهُ مِنَ التَّرْبِيَةِ والرِّعايَةِ والعِنايَةِ، إذِ الرَّبُّ يَفْعَلُ لِعَبْدِهِ ما يُصْلِحُهُ، ومِن كَمالِ إصْلاحِهِ أنْ يُرْسِلَ إلَيْهِ مَن يَقْرَأُ عَلَيْهِ وحْيَهُ بِخَبَرَيِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، وفي إضافَتِهِ إلى المُخاطَبِ إيناسٌ لَهُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: وصْفُ الرَّبِّ بِـ الَّذِي خَلَقَ مَعَ إطْلاقِ الوَصْفِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ صِفَةَ الخَلْقِ هي أقْرَبُ الصِّفاتِ إلى مَعْنى الرُّبُوبِيَّةِ، ولِأنَّها أجْمَعُ الصِّفاتِ لِلتَّعْرِيفِ بِاللَّهِ (p-١٥)تَعالى لِخَلْقِهِ، وهي الصِّفَةُ الَّتِي يُسَلِّمُونَ بِها ﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: ٢٥] .
﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: ٨٧] .
وَلِأنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ لا بُدَّ لَهُ مِن خالِقٍ: ﴿أمْ خُلِقُوا مِن غَيْرِ شَيْءٍ أمْ هُمُ الخالِقُونَ﴾ [الطور: ٣٥]، وقَدْ أطْلَقَ صِفَةَ الخَلْقِ عَنْ ذِكْرِ مَخْلُوقٍ لِيَعُمَّ ويَشْمَلَ الوُجُودَ كُلَّهُ، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ في قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم لا إلَهَ إلّا هو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٠٢] .
﴿اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ﴾ [الزمر: ٦٢] .
﴿هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ﴾ [الحشر: ٢٤] .
وَتِلْكَ المَسائِلُ الثَّلاثُ: هي الأُصُولُ في الرِّسالَةِ وما بَعْدَها دَلالَةٌ عَلَيْها، فالأمْرُ بِالقِراءَةِ تَكْلِيفٌ لِتَحَمُّلِ الوَحْيِ، وبِاسْمِ رَبِّكَ بَيانٌ لِجِهَةِ التَّكْلِيفِ، ”والَّذِي خَلَقَ“ تَدْلِيلٌ لِتِلْكَ الجِهَةِ، أيِ الرِّسالَةِ والرَّسُولِ والمُرْسَلِ مَعَ الدَّلِيلِ المُجْمَلِ. ولا شَكَّ أنَّ المُرْسَلَ إلَيْهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا ولا بِواحِدَةٍ مِنها، فَكانَ لا بُدَّ مِن إقامَةِ الأدِلَّةِ عَلى ثُبُوتِها بِالتَّفْصِيلِ.
* * *
وَلَمّا كانَتْ جِهَةُ المُرْسَلِ هي الأساسُ وهي المَصْدَرُ، كانَ التَّدْلِيلُ عَلَيْها أوَّلًا، فَجاءَ التَّفْصِيلُ في شَأْنِها بِما يُسَلِّمُونَ بِهِ ويُسَلِّمُونَهُ في أنْفُسِهِمْ، وهي المَسْألَةُ الرّابِعَةُ.
والخامِسَةُ: خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ، وهَذا تَفْصِيلٌ بَعْدَ إجْمالٍ بِبَيانٍ لِلْبَعْضِ مِنَ الكُلِّ فالإنْسانُ بَعْضٌ مِمّا خَلَقَ، وذِكْرُهُ مِن ذِكْرِ العامِّ بَعْدَ الخاصَّ أوَّلًا، ومِن إلْزامِهِمْ بِما يُسَلِّمُونَ بِهِ ثُمَّ لِانْتِقالِهِمْ مِمّا يَعْلَمُونَ ويُقِرُّونَ بِهِ إلى ما لا يَعْلَمُونَ ويُنْكِرُونَ.
وَفِي ذِكْرِ الإنْسانِ بَعْدَ عُمُومِ الخَلْقِ تَكْرِيمٌ لَهُ، كَذِكْرِ الرُّوحِ بَعْدَ عُمُومِ المَلائِكَةِ، ﴿تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيها﴾ ونَحْوِهِ، والإنْسانُ هُنا الجِنْسُ بِدَلِيلِ الجَمْعِ في عَلَقٍ جَمْعُ عَلَقَةٍ، ولِأنَّهُ أوْضَحُ دَلالَةً عِنْدَهُ، لِيَسْتَدِلَّ بِنَفْسِهِ مِن نَفْسِهِ كَما سَيَأْتِي.
وَقَوْلُهُ: مِن عَلَقٍ، وهو جَمْعُ عَلَقَةٍ، وهي القِطْعَةُ مِنَ الدَّمِ، كالعَرَقِ أوِ الخَيْطِ بَيانٌ عَلى قُدْرَتِهِ تَعالى، وذَلِكَ لِأنَّهم يُشاهِدُونَ ذَلِكَ أحْيانًا فِيما تُلْقِي بِهِ الرَّحِمُ، ويَعْلَمُونَ أنَّهُ مَبْدَأُ خِلْقَةِ الإنْسانِ.
(p-١٦)فالقادِرُ عَلى إيجادِ إنْسانٍ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ مِن هَذِهِ العَلَقَةِ، قادِرٌ عَلى جَعْلِكَ قارِئًا وإنْ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ القِراءَةَ مِن قَبْلُ، كَما أوْجَدَ الإنْسانَ مِن تِلْكَ العَلَقَةِ ولَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِن قَبْلُ، ولِأنَّ الَّذِي يَتَعَهَّدُ تِلْكَ العَلَقَةَ حَتّى تَكْتَمِلَ إنْسانًا يَتَعَهَّدُها بِالرِّسالَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ في اخْتِيارِ الإنْسانِ بِالذّاتِ وبِخُصُوصِهِ لِتَفْصِيلِ مَرْحَلَةِ وجُودِهِ، أنَّ غَيْرَهُ مِنَ المَخْلُوقاتِ لَمْ تَعْلَمْ مَبادِئَ خِلْقَتِها كَعِلْمِهِمْ بِالإنْسانِ، ولِأنَّ الإنْسانَ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ في السُّورَةِ قَبْلَها: ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: ٤]، فَبَيَّنَ أنَّهُ مِن هَذِهِ العَلَقَةِ كانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ومِن حُسْنِ تَقْوِيمٍ إنْزالُ الكِتابِ القَيِّمِ.
وَقالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إنَّ المَقامَ هُنا مَقامُ دَلالَةٍ عَلى وُجُودِ اللَّهِ، فَبَدَأ بِما يَعْرِفُونَهُ ويُسَلِّمُونَ بِهِ لِلَّهِ، ولَمْ يَبْدَأْ مِنَ النُّطْفَةِ أوِ التُّرابِ؛ لِأنَّ خَلْقَ آدَمَ مِن تُرابٍ لَمْ يُشاهِدُوهُ، ولِأنَّ النُّطْفَةَ لَيْسَتْ بِلازِمٍ لَها خَلْقُ الإنْسانِ، فَقَدْ تُقْذَفُ في غَيْرِ رَحِمٍ كالمُحْتَلِمِ، وقَدْ تَكُونُ فِيهِ، ولا تَكُونُ مُخَلَّقَةً. ا هـ.
وَهَذا في ذاتِهِ وجِيهٌ، ولَكِنْ لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّ السُّورَةَ في مُسْتَهَلِّ الوَحْيِ وبِدايَتِهِ، فَهي كالَّذِي يَقُولُ: إذا كُنْتُ بَدَأْتُ بِالوَحْيِ إلَيْهِ ولَمْ يَكُنْ مِن قَبْلُ، ولَمْ يُوجَدْ مِنهُ شَيْءٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْكَ، فَلَيْسَ هو بِأكْثَرَ مِن إيجادِ الإنْسانِ مِن عَلَقَةٍ، بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا.
وَعَلَيْهِ يُقالُ: لَقَدْ تُرِكَتْ مَرْحَلَةُ النُّطْفَةِ مُقابِلَ مَرْحَلَةٍ مِنَ الوَحْيِ، قَدْ تُرِكَتْ أيْضًا وهي فَتْرَةُ الرُّؤْيا الصّالِحَةِ، كَما في الصَّحِيحَيْنِ: «أنَّهُ ﷺ كانَ أوَّلَ ما بُدِئَ بِهِ الوَحْيُ الرُّؤْيا الصّالِحَةُ، يَراها فَتَأْتِي كَفَلَقِ الصُّبْحِ» فَكانَ ذَلِكَ إرْهاصًا لِلنُّبُوَّةِ وتَمْهِيدًا لَها لِمُدَّةِ سِتَّةِ أشْهُرٍ، ولِذا قالَ ﷺ: «الرُّؤْيا الصّالِحَةُ يَراها الرَّجُلُ الصّالِحُ أوْ تُرى لَهُ جُزْءٌ مِن سِتٍّ وأرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» وهي نِسْبَةُ نِصْفِ السَّنَةِ مِن ثَلاثٍ وعِشْرِينَ مُدَّةِ الوَحْيِ، ولَكِنَّ الرُّؤْيا الصّالِحَةَ قَدْ يَراها الرَّجُلُ الصّالِحُ، ومِثْلُ ذَلِكَ تَمامًا فَتْرَةُ النُّطْفَةِ، فَقَدْ تَكُونُ النُّطْفَةُ ولا يَكُونُ الإنْسانُ، كَما تَكُونُ الرُّؤْيا ولا تَكُونُ النُّبُوَّةُ، أمّا العَلَقَةُ فَلا تَكُونُ إلّا في رَحِمٍ وقَرارٍ مَكِينٍ، ومِن ثَمَّ يَأْتِي الإنْسانُ مُخَلَّقًا كامِلًا، أوْ غَيْرَ مُخَلَّقٍ عَلى ما يُقَدَّرُ لَهُ.
فَلَمّا كانَتْ فَتْرَةُ النُّطْفَةِ لَيْسَتْ بِلازِمَةٍ لِخَلْقِ الإنْسانِ، وكانَ مِثْلُها فَتْرَةَ الرُّؤْيَةِ لَيْسَتْ لازِمَةً لِلنُّبُوَّةِ تُرِكَ كُلٌّ مِنها مُقابِلَ الآخَرِ، ويَبْدَأُ الدَّلِيلُ بِما هو الواقِعُ المُسَلَّمُ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى هو الخالِقُ، والخالِقُ لِلْإنْسانِ مِن عَلَقَةٍ، فَكانَ فِيهِ إقامَةُ الدَّلِيلِ مِن ذاتِيَّةِ المُسْتَدِلِّ، (p-١٧)فالدَّلِيلُ هو خَلْقُ الإنْسانِ، والمُسْتَدَلُّ بِهِ هو الإنْسانُ نَفْسُهُ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَفِي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١]، فَيَسْتَدِلُّ لِنَفْسِهِ مِن نَفْسِهِ عَلى قُدْرَةِ خالِقِهِ سُبْحانَهُ.
* * *
وَإذا تَمَّ بِهَذا الِاسْتِدْلالِ عَلى قُدْرَةِ الرَّبِّ الخالِقِ، كانَ بَعْدَهُ إقامَةُ الدَّلِيلِ عَلى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ ورِسالَةِ الرَّسُولِ ﷺ، فَجاءَتِ المَسْألَةُ السّادِسَةُ وهي إعادَةُ القِراءَةِ في قَوْلِهِ: ﴿اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾، إذْ أقامَ الدَّلِيلَ عَلى أنَّكَ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ تُبَلِّغُ عَنْهُ وتَقْرَأُ بِاسْمِهِ، فاعْلَمْ أنَّ تِلْكَ القِراءَةَ وهَذا الوَحْيَ مِن رَبِّكَ الأكْرَمِ، والأكْرَمُ قالُوا: هو الَّذِي يُعْطِي بِدُونِ مُقابِلٍ، ولا انْتِظارِ مُقابِلٍ، والواقِعُ أنَّ مَجِيءَ الوَصْفِ هُنا بِالأكْرَمِ بَدَلًا مِن أيِّ صِفَةٍ أُخْرى، لِما في هَذِهِ الصِّفَةِ مِن تَلاؤُمٍ لِلسِّياقِ، ما لا يُناسِبُ مَكانَها غَيْرُها لِعِظَمِ العَطاءِ وجَزِيلِ المِنَّةِ.
فَأوَّلًا: رَحْمَةُ الخَلِيقَةِ بِهَذِهِ القِراءَةِ الَّتِي رَبَطَتِ العِبادَ بِرَبِّهِمْ. وكَفى.
وَثانِيًا: نِعْمَةُ الخَلْقِ والإيجادِ، فَهُما نِعْمَتانِ مُتَكامِلَتانِ: الإيجادُ مِنَ العَدَمِ بِالخَلْقِ، والإيجادُ الثّانِي مِنَ الجَهْلِ إلى العِلْمِ، ولا يَكُونُ هَذا كُلُّهُ إلّا مِنَ الرَّبِّ الأكْرَمِ سُبْحانَهُ.
* * *
ثُمَّ تَأْتِي المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: وهي مِنَ الدَّلالَةِ عَلى النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ، ﴿وَرَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾، سَواءٌ كانَ الوَقْفُ عَلى: اقْرَأْ، وابْتِداءُ الكَلامِ: ورَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ.
أوِ الوَقْفُ عَلى الأكْرَمِ وابْتِداءُ الكَلامِ: الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ؛ لِأنَّ مَن يُعَلِّمُ الجاهِلَ بِالقَلَمِ، يُعَلِّمُ غَيْرَهُ بِدُونِ القَلَمِ بِجامِعِ التَّعْلِيمِ بَعْدَ الجَهْلِ. فالقادِرُ عَلى هَذا قادِرٌ عَلى ذَلِكَ.
* * *
والتّاسِعَةُ: بَيانٌ لِهَذا الإجْمالِ حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ ما الَّذِي عَلَّمَهُ بِالقَلَمِ. فَقالَ: عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ، وهَذا مُشاهَدٌ مَلْمُوسٌ في أشْخاصِهِمْ: ﴿واللَّهُ أخْرَجَكم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكم لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: ٧٨] .
فاللَّهُ الَّذِي عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ، وكُلُّ ما تَعَلَّمَهُ الإنْسانُ فَهو مِنَ اللَّهِ ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤]، وهَلِ الرِّسالَةُ والنُّبُوَّةُ إلّا تَعْلِيمُ الرَّسُولِ ما لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ ؟ وبِهَذا تَمَّ إقامَةُ الدَّلِيلِ عَلى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، أيِ الرِّسالَةِ والرَّسُولِ والمُرْسَلِ، وهي أُسُسُ الدَّعْوَةِ والبَعْثَةِ الجَدِيدَةِ.
وَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ النّاسِ أنَّهُ نُبِّئَ بِـ ”اقْرَأْ“ وأُرْسِلَ بِـ ”المُدَّثِّرِ“ ولَكِنْ في (p-١٨)نَفْسِ هَذِهِ السُّورَةِ مَعْنى الرِّسالَةِ، لِما قَدَّمْنا مِن أنَّ القِراءَةَ بِاسْمِ رَبِّكَ، إشْعارٌ بِأنَّهُ مُرْسَلٌ مِن رَبِّهِ إلى مَن يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ، فَفِيها إثْباتُ الرِّسالَةِ مِن أوَّلِ بَدْءِ الوَحْيِ.
{"ayah":"ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق