الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ .
أيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ أوْ غَيْرُ مَمْنُونٍ بِهِ عَلَيْهِمْ.
وَعَلى الأوَّلِ: فالأجْرُ هو الثَّوابُ، إمّا بِدَوامِ أعْمالِهِمْ لِكَمالِ عُقُولِهِمْ، وإمّا بِأنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ المَلائِكَةَ أنْ تَكْتُبَ لَهم مِنَ الأجْرِ ما كانُوا يَعْمَلُونَهُ في حالِ قُوَّتِهِمْ مِن صِيامٍ وقِيامٍ، وتَصَدُّقٍ مِن كَسْبِهِمْ ونَحْوِ ذَلِكَ، لِلْأحادِيثِ في حَقِّ المَرِيضِ والمُسافِرِ، فَيَظَلُّ ثَوابُ أعْمالِهِمْ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهِمْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ.
وَعَلى الثّانِي: فَيَكُونُ الأجْرُ هو النَّعِيمُ في الجَنَّةِ يُعْطُونَهُ ولا يُمَنُّ بِهِ عَلَيْهِمْ، ولا يُقْطَعُ عَنْهم كَما قالَ تَعالى:﴿أُكُلُها دائِمٌ وظِلُّها تِلْكَ عُقْبى الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ [الرعد: ٣٥] .
* تَنْبِيهٌ
وَهُنا وِجْهَةُ نَظَرٍ مِن وجْهَيْنِ: وجْهٌ خاصٌّ وآخَرُ عامٌّ.
(p-٩)أمّا الخاصُّ: فَإنَّ كَلِمَةَ رَدَدْناهُ، فالرَّدُّ يُشْعِرُ إلى رَدٍّ لِأمْرٍ سابِقٍ، والأمْرُ السّابِقُ هو خَلْقُ الإنْسانِ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وأحْسَنُ تَقْوِيمٍ شامِلٌ لِشَكْلِهِ ومَعْناهُ، أيْ جِسْمِهِ وإنْسانِيَّتِهِ، فَرَدُّهُ إلى أسْفَلِ سافِلِينَ، يَكُونُ بِعَدَمِ الإيمانِ كالحَيَوانِ بَلْ هو في تِلْكَ الحالَةِ أسْفَلُ دَرْكًا مِنَ الحَيَوانِ، وأشْرَسُ نَفْسًا مِنَ الوَحْشِ، فَلا إيمانَ يَحْكُمُهُ ولا إنْسانِيَّةَ تُهَذِّبُهُ، فَيَكُونُ طاغِيَةً جَبّارًا يَعِيثُ في الأرْضِ فَسادًا، وعَلَيْهِ يَكُونُ الِاسْتِثْناءُ ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ فَبِإيمانِهِمْ وعَمَلِهِمُ الصّالِحاتِ يَتَرَفَّعُونَ عَنِ السَّفالَةِ، ويَرْتَفِعُونَ إلى الأعْلى فَلَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ.
والوِجْهَةُ العامَّةُ وهي الشّامِلَةُ لِمَوْضُوعِ السُّورَةِ مِن أوَّلِها ابْتِداءً مِنَ التِّينِ والزَّيْتُونِ وما مَعَهُ في القَسَمِ إلى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآيَةَ [التين: ٤ - ٦] .
فَإنَّهُ إنْ صَحَّ ما جاءَ في قِصَّةِ آدَمَ في قَوْلِهِ: ﴿فَأكَلا مِنها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِن ورَقِ الجَنَّةِ﴾ [طه: ١٢١] . رَوى المُفَسِّرُونَ أنَّ آدَمَ لَمّا بَدَتْ لَهُ سَوْأتُهُ ذَهَبَ إلى أشْجارِ الجَنَّةِ لِيَأْخُذَ مِنَ الوَرَقِ لِيَسْتُرَ نَفْسَهُ، وكُلَّما جاءَ شَجَرَةً زَجَرَتْهُ ولَمْ تُعْطِهِ، حَتّى مَرَّ بِشَجَرَةِ التِّينِ فَأعْطَتْهُ، فَأخْلَفَها اللَّهُ الثَّمَرَةَ مَرَّتَيْنِ في السَّنَةِ، وكافَأها بِجَعْلِ ثَمَرَتِها باطِنِها كَظاهِرِها لا قِشْرَ لَها ولا عَجَمَ.
وَقَدْ رَوى الشَّوْكانِيُّ في أنَّها شَجَرَةُ التِّينِ الَّتِي أخَذَ مِنها الوَرَقَ. فَقالَ: وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ”لَمّا أسْكَنَ اللَّهُ آدَمَ الجَنَّةَ كَساهُ سِرْبالًا مِنَ الظُّفْرِ، فَلَمّا أصابَ الخَطِيئَةَ سَلَبَهُ السِّرْبالَ فَبَقِيَ في أطْرافِ أصابِعِهِ“ .
قالَ: وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ وابْنُ عَساكِرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ”كانَ لِباسُ آدَمَ وحَوّاءَ كالظُّفْرِ - وذَكَرَ الأثَرَ - ﴿وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِن ورَقِ الجَنَّةِ﴾“ قالَ: يَنْزِعانِ ورَقَ التِّينِ، فَيَجْعَلانِهِ عَلى سَوْآتِهِما.
وَبِهَذا النَّقْلِ يَكُونُ ذِكْرُ التِّينِ هُنا مَعَ خَلْقِ الإنْسانِ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدُّهُ أسْفَلَ سافِلِينَ إلّا الَّذِينَ آمَنُوا سِرٌّ لَطِيفٌ جِدًّا، وهو إشْعارُ الإنْسانِ الآنَ، أنَّ جِنْسَ الإنْسانِ كُلَّهُ بِالإنْسانِ الأوَّلِ أبِي البَشَرِ، وقَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ في أحْسَنِ حالَةٍ حِسًّا ومَعْنًى، حَتّى رَفَعَهُ إلى (p-١٠)مَنزِلَةِ إسْجادِ المَلائِكَةِ لَهُ وسُكْناهُ الجَنَّةَ، فَهي أعْلى مَنزِلَةِ التَّكْرِيمِ، ولَهُ فِيها أنَّهُ لا يَجُوعُ ولا يَعْرى ولا يَظْمَأُ فِيها ولا يَضْحى، وظَلَّ كَذَلِكَ عَلى ذَلِكَ إلى أنْ أغْواهُ الشَّيْطانُ ونَسِيَ عَهْدَ رَبِّهِ إلَيْهِ، ووَقَعَ فِيما وقَعَ فِيهِ وكانَ لَهُ ما كانَ، فَدَلّاهُما بِغُرُورٍ وانْتَقَلا مِن أعْلى عِلِّيِّينَ إلى أسْفَلِ سافِلِينَ، فَنَزَلَ إلى الأرْضِ يَحْرُثُ ويَزْرَعُ ويَحْصُدُ ويَطْحَنُ ويَعْجِنُ ويَخْبِزُ، حَتّى يَجِدَ لُقْمَةَ العَيْشِ، فَهَذا خَلْقُ الإنْسانِ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ ورَدُّهُ أسْفَلَ سافِلِينَ.
وَهَذا شَأْنُ أهْلِ الأرْضِ جَمِيعًا، ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ بِرُجُوعِهِمْ إلى الجَنَّةِ كَما رَجَعَ إلَيْها آدَمُ بِالتَّوْبَةِ ﴿فَتَلَقّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٣٧] ﴿ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وهَدى﴾ [طه: ١٢٢] .
وَإنَّ في ذِكْرِ البَلَدِ الأمِينِ لَتَرْشِيحٌ لِهَذا المَعْنى؛ لِأنَّ اللَّهَ جَعَلَ الحَرَمَ لِأهْلِ مَكَّةَ أمْنًا كَصُورَةِ الآمِنِ في الجَنَّةِ، فَإنِ امْتَثَلُوا وأطاعُوا نَعِمُوا بِهَذا الأمْنِ، وإنْ تَمَرَّدُوا وعَصَوْا، فَيَخْرُجُونَ مِنها ويُحْرَمُونَ أمْنَها.
وَهَكَذا تَكُونُ السُّورَةُ رَبْطًا بَيْنَ الماضِي والحاضِرِ، وانْطِلاقًا مِنَ الحاضِرِ إلى المُسْتَقْبَلِ، ﴿فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِأحْكَمِ الحاكِمِينَ﴾ [التين: ٧ - ٨] . فِيما فَعَلَ بِآدَمَ وفِيما يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ، حَيْثُ أنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالأمْنِ والعَيْشِ الرَّغَدِ، وإرْسالِكَ إلَيْهِمْ وفِيما يَفْعَلُ لِمَن آمَنَ أوْ بِمَن يَكْفُرُ، اللَّهُمَّ بَلى.
{"ayah":"إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَیۡرُ مَمۡنُونࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق