الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأمّا اليَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾ ﴿وَأمّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ ﴿وَأمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾
مَجِيءُ الفاءِ هُنا مُشْعِرٌ، إمّا بِتَفْرِيعٍ وهَذا ضَعِيفٌ، وإمّا بِإفْصاحٍ عَنْ تَعَدُّدٍ، وقَدْ ذَكَرَ الجُمَلَ بِتَقْدِيرِ مَهْما يَكُنْ مِن شَيْءٍ.
(p-٥٦٤)وَقَدْ ساقَ تَعالى هُنا ثَلاثَ مَسائِلَ: الأُولى: مُعامَلَةُ الأيْتامِ، فَقالَ: ﴿فَأمّا اليَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾، أيْ: كَما آواكَ اللَّهُ فَآوِهِ، وكَما أكْرَمَكَ فَأكْرِمْهُ.
وَقالُوا: قَهْرُ اليَتِيمِ أخْذُ مالِهِ وظُلْمِهِ.
وَقِيلَ: قُرِئَ بِالكافِ: ”تَكْهَرْ“، فَقالُوا: هو بِمَعْنى القَهْرِ إلّا أنَّهُ أشَدَّ.
وَقِيلَ: هو بِمَعْنى عَبُوسَةِ الوَجْهِ، والمَعْنى أعَمُّ، كَما قالَ ﷺ: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ ومِنَ العَجْزِ والكَسَلِ، ومِنَ الجُبْنِ والبُخْلِ، ومِن غَلَبَةِ الدَّيْنِ وقَهْرِ الرِّجالِ» فالقَهْرُ أعَمُّ مِن ذَلِكَ.
وَبِالنَّظَرِ في نُصُوصِ القُرْآنِ العَدِيدَةِ في شَأْنِ اليَتِيمِ، والَّتِي زادَتْ عَلى العِشْرِينَ مَوْضِعًا، فَإنَّهُ يُمْكِنُ تَصْنِيفُها إلى خَمْسَةِ أبْوابٍ كُلُّها تَدُورُ حَوْلَ دَفْعِ المَضارِّ عَنْهُ، وجَلْبِ المَصالِحِ لَهُ في مالِهِ وفي نَفْسِهِ، فَهَذِهِ أرْبَعَةٌ، وفي الحالَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وهي الخامِسَةُ. أمّا دَفْعُ المَضارِّ عَنْهُ في مالِهِ، فَفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾، جاءَتْ مَرَّتَيْنِ في سُورَةِ ”الأنْعامِ“ والأُخْرى في سُورَةِ ”الإسْراءِ“ [الإسراء: ٣٤]، وفي كُلٍّ مِنَ السُّورَتَيْنِ ضِمْنَ الوَصايا العَشْرِ المَعْرُوفَةِ في سُورَةِ ”الأنْعامِ“، بَدَأتْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكم عَلَيْكم ألّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ [الأنعام: ١٥١] .
وَذَكَرَ قَتْلَ الوَلَدِ، وقُرْبانَ الفَواحِشِ، وقَتْلَ النَّفْسِ، ثُمَّ مالَ اليَتِيمِ: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ .
وَيُلاحَظُ أنَّ النَّهْيَ مُنْصَبٌّ عَلى مُجَرَّدِ الِاقْتِرابِ مِن مالِهِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ، وقَدْ بَيَّنَ تَعالى الَّتِي هي أحْسَنُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَن كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ومَن كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ﴾ [النساء: ٦] .
وَقَدْ نَصَّ الفُقَهاءُ عَلى أنَّ مَن ولِيَ مالَ اليَتِيمِ واسْتَحَقَّ أجْرًا، فَلَهُ الأقَلُّ مِن أحَدِ أمْرَيْنِ: إمّا نَفَقَتُهُ في نَفْسِهِ، وإمّا أُجْرَتُهُ عَلى عَمَلِهِ، أيْ: إنْ كانَ العَمَلُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ ألْفِ رِيالٍ، ونَفَقَتُهُ يَكْفِي لَها خَمْسُمِائَةٍ أخَذَ نَفَقَتَهُ فَقَطْ، وإنْ كانَ العَمَلُ يَكْفِيهِ أُجْرَةُ مِائَةِ رِيالٍ، ونَفَقَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ أخَذَ أُجْرَتَهُ مِائَةً فَقَطْ؛ حِفْظًا لِمالِهِ.
ثُمَّ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ اقْتِرابِ مالِ اليَتِيمِ ذَلِكَ، فَقَدْ تَتَطَلَّعُ بَعْضُ النُّفُوسِ إلى فَوارِقَ (p-٥٦٥)بَسِيطَةٍ مِن بابِ التَّحَيُّلِ أوْ نَحْوِهِ، مِنِ اسْتِبْدالِ شَيْءٍ مَكانَ شَيْءٍ، فَيَكُونُ طَرِيقًا لِاسْتِبْدالِ طَيِّبٍ بِخَبِيثٍ، فَجاءَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَآتُوا اليَتامى أمْوالَهم ولا تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ولا تَأْكُلُوا أمْوالَهم إلى أمْوالِكم إنَّهُ كانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: ٢] .
والحُوبُ: أعْظَمُ الذَّنْبِ، فَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ اسْتِبْدالِ طَيِّبِ مالِهِ بِخَبِيثِ مالِ الوَلِيِّ أوْ غَيْرِهِ حَسَدًا لَهُ عَلى مالِهِ، كَما نَهى عَنْ خَلْطِ مالِهِ مَعَ مالِ غَيْرِهِ كَوَسِيلَةٍ لِأكْلِهِ مَعَ مالِ الغَيْرِ، وهَذا مَنعٌ لِلتَّحَيُّلِ، وسَدٌّ لِلذَّرِيعَةِ؛ حِفْظًا لِمالِهِ.
ثُمَّ يَأْتِي الوَعِيدُ الشَّدِيدُ في صُورَةٍ مُفْزِعَةٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا إنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نارًا وسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: ١٠] .
* * *
وَقَدِ اتَّفَقَ العُلَماءُ: أنَّ الآيَةَ شَمِلَتْ في النَّهْيِ عَنْ أكْلِ أمْوالِ اليَتامى كُلَّ ما فِيهِ إتْلافٌ أوْ تَفْوِيتٌ، سَواءٌ كانَ بِأكْلٍ حَقِيقَةً، أوْ بِاخْتِلاسٍ، أوْ بِإحْراقٍ، أوْ إغْراقٍ، وهو المَعْرُوفُ عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ بِالإلْحاقِ بِنَفْيِ الفارِقِ، إذْ لا فَرْقَ في ضَياعِ مالِ اليَتِيمِ عَلَيْهِ، بَيْنَ كَوْنِهِ بِأكْلٍ أوْ إحْراقٍ بِنارٍ أوْ إغْراقٍ في ماءٍ حَتّى الإهْمالُ فِيهِ، فَهو تَفْوِيتُ عَلَيْهِ وكُلُّ ذَلِكَ حِفْظًا لِمالِهِ.
وَأخِيرًا، فَإذا تَمَّ الحِفاظُ عَلى مالِهِ لَمْ يَقْرَبْهُ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ، ولَمْ يُبَدِّلْهُ بِغَيْرِهِ أقَلَّ مِنهُ، ولَمْ يَخْلِطْهُ بِمالِهِ لِيَأْكُلَهُ عَلَيْهِ، ولَمْ يَعْتَدِ عَلَيْهِ بِأيِّ إتْلافٍ كانَ مَحْفُوظًا لَهُ، إلى أنْ يَذْهَبَ يُتْمُهُ ويَثْبُتَ رُشْدُهُ، فَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وابْتَلُوا اليَتامى حَتّى إذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوالَهم ولا تَأْكُلُوها إسْرافًا وبِدارًا أنْ يَكْبَرُوا﴾ [النساء: ٦] .
ثُمَّ أحاطَ دَفْعَ المالِ إلَيْهِ بِمُوجِباتِ الحِفْظِ بِقَوْلِهِ في آخِرِ الآيَةِ: ﴿فَإذا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوالَهم فَأشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: ٦] أيْ: حَتّى لا تَكُونَ مُناكَرَةً فِيما بَعْدُ.
وَفِي الخِتامِ يُنَبِّهُ اللَّهُ فِيهِمْ وازِعَ مُراقَبَةِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [النساء: ٦] وفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ أمْوالَهُ تُدْفَعُ إلَيْهِ بَعْدَ مُحاسِبَةٍ دَقِيقَةٍ فِيما لَهُ وعَلَيْهِ.
وَمَهْما يَكُنْ مِن دِقَّةِ الحِسابِ، فاللَّهُ سَيُحاسِبُ عَنْهُ، ﴿وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾، وهَذا كُلُّهُ في حِفْظِ مالِهِ.
أمّا جَلْبُ المَصالِحِ، فَإنَّنا نَجِدُ فِيها أوَّلًا جَعْلَهُ مَعَ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ في عِدَّةِ (p-٥٦٦)مُواطِنَ، مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِن خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ واليَتامى﴾ [البقرة: ٢١٥] .
وَمِنها قَوْلُهُ إيرادُهُ في أنْواعِ البِرِّ مِنَ الإيمانِ بِاللَّهِ وإنْفاقِ المالِ: ﴿وَلَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ والمَلائِكَةِ والكِتابِ والنَّبِيِّينَ وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينَ﴾ [البقرة: ١٧٧] إلى آخِرِ الآيَةِ.
وَمِنها: ما هو أُدْخِلَ في المَوْضُوعِ حَيْثُ جُعِلَ لَهُ نَصِيبًا في التَّرِكَةِ في قَوْلِهِ: ﴿وَإذا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُو القُرْبى واليَتامى والمَساكِينُ فارْزُقُوهم مِنهُ﴾ [النساء: ٨]، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مَباحِثِ الآيَةِ مِن جِهاتٍ أُخْرى، ومَرَّةً أُخْرى يَجْعَلُ لَهم نَصِيبًا فِيما هو أعْلى مَنزِلَةً في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ إنْ كُنْتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ﴾ [الأنفال: ٤١] .
وَكَذَلِكَ في سُورَةِ ”الحَشْرِ“ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِن أهْلِ القُرى فَلِلَّهِ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ﴾ الآيَةَ [الحشر: ٧] .
فَجَعَلَهُمُ اللَّهُ مَعَ ذِي القُرْبى مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ .
وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ في عُمُومِ وصْفِ الأبْرارِ، وسَبَبًا لِلْوُصُولِ إلى أعْلى دَرَجاتِ النَّعِيمِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الأبْرارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُورًا﴾ [الإنسان: ٥] .
وَذَكَرَ أفْعالَهُمُ الَّتِي مِنها: ”أنَّهم ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾“ [الإنسان: ٧] ثُمَّ بَعْدَها أنَّهم: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأسِيرًا﴾ [الإنسان: ٨] .
وَجَعَلَ هَذا الإطْعامَ اجْتِيازُ العَقَبَةِ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ ﴿وَما أدْراكَ ما العَقَبَةُ﴾ ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ ﴿أوْ إطْعامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ ﴿يَتِيمًا ذا مَقْرَبَةٍ﴾ الآيَةَ [البلد: ١١ - ١٥] .
وَلَقَدْ وجَدْنا ما هو أعْظَمُ مِن ذَلِكَ، وهو أنْ يَسُوقَ اللَّهُ الخَضِرَ ومُوسى - عَلَيْهِما السَّلامُ - لِيُقِيما جِدارًا لِيَتِيمَيْنِ عَلى كَنْزٍ لَهُما حَتّى يَبْلُغا أشَدَّهُما، في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأمّا الجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المَدِينَةِ وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وكانَ أبُوهُما صالِحًا فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما ويَسْتَخْرِجا كَنْزَهُما رَحْمَةً مِن رَبِّكَ وما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي﴾ [الكهف: ٨٢] .
(p-٥٦٧)هَذا هو الجانِبُ المالِيُّ مِن دَفْعِ المَضَرَّةِ عَنْهُ في حِفْظِ مالِهِ، ومِن جانِبِ جَلْبِ النَّفْعِ إلَيْهِ عَنْ طَرِيقِ المالِ.
أمّا الجانِبُ النَّفْسِيُّ فَكالآتِي:
أوَّلًا: عَدَمُ مَساءَتِهِ في نَفْسِهِ، فَمِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أرَأيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ﴾ ﴿وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ [الماعون: ١ - ٣] .
وَمِنها قَوْلُهُ: ﴿كَلّا بَل لا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ﴾ ﴿وَلا تَحاضُّونَ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ [الفجر: ١٧ - ١٨]، فَقَدَّمَ إكْرامَهُ إشارَةً لَهُ.
ثانِيًا: في الإحْسانِ إلَيْهِ، مِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا وذِي القُرْبى واليَتامى﴾ [البقرة: ٨٣] فَيُحْسِنُ إلَيْهِ كَما يُحْسِنُ لِوالِدَيْهِ ولِذِي القُرْبى.
وَمِنها سُؤالُ وجَوابُهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى: ﴿وَيَسْألُونَكَ عَنِ اليَتامى قُلْ إصْلاحٌ لَهم خَيْرٌ وإنْ تُخالِطُوهم فَإخْوانُكم واللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ﴾ [البقرة: ٢٢٠]، أيْ: تُعامِلُونَهم كَما تُعامِلُونَ الإخْوانَ، وهَذا أعْلى دَرَجاتِ الإحْسانِ والمَعْرُوفِ؛ ولِذا قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ﴾ .
وَفِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ المُفْسِدِ عَلى المُصْلِحِ: إشْعارٌ لِشِدَّةِ التَّحْذِيرِ مِنَ الإفْسادِ في مُعامَلَتِهِ، ولِأنَّهُ مَحَلُّ التَّحْذِيرِ في مَوْطِنٍ آخَرَ جَعَلَهم بِمَنزِلَةِ الأوْلادِ في قَوْلِهِ: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافًا خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ولْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: ٩] .
أيْ: حَتّى في مُخاطَبَتِهِمْ إيّاهم لِأنَّهم بِمَنزِلَةِ أوْلادِهِمْ، بَلْ رُبَّما كانَ لَهم أوْلادٌ فِيما بَعْدُ أيْتامًا مِن بَعْدِهِمْ، فَكَما يَخْشَوْنَ عَلى أوْلادِهِمْ إذا صارُوا أيْتامًا مِن بَعْدِهم، فَلْيُحْسِنُوا مُعامَلَةَ الأيْتامِ في أيْدِيهِمْ، وهَذِهِ غايَةُ دَرَجاتِ العِنايَةِ والرِّعايَةِ.
تِلْكَ هي نُصُوصُ القُرْآنِ في حُسْنِ مُعامَلَةِ اليَتِيمِ وعَدَمِ الإساءَةِ إلَيْهِ، مِمّا يُفَصِّلُ مُجْمَلَ قَوْلِهِ: ﴿فَأمّا اليَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾ [الضحى: ٩] .
لا بِكَلِمَةٍ غَيْرِ سَدِيدَةٍ، ولا بِحِرْمانِهِ مِن شَيْءٍ يَحْتاجُهُ، ولا بِإتْلافِ مالِهِ، ولا بِالتَّحَيُّلِ عَلى أكْلِهِ وإضاعَتِهِ، ولا بِشَيْءٍ بِالكُلِّيَّةِ، لا في نَفْسِهِ ولا في مالِهِ.
(p-٥٦٨)والأحادِيثُ مِنَ السُّنَّةِ عَلى ذَلِكَ عَدِيدَةٌ بالِغَةٌ مَبْلَغَها في حَقِّهِ، وكانَ ﷺ أرْحَمَ النّاسِ بِهِ وأشْفَقَهم عَلَيْهِ، حَتّى قالَ: «”أنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ كَهاتَيْنِ“، يُشِيرُ إلى السَّبّابَةِ والوُسْطى وفَرَّجَ بَيْنَهُما» . رَواهُ البُخارِيُّ، وأبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ.
وَفِي رِوايَةِ أبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ ومالِكٍ: «كافِلُ اليَتِيمِ لَهُ أوْ لِغَيْرِهِ» أيْ: قَرِيبٌ لَهُ، أوْ بَعِيدٌ عَنْهُ.
وَعِنْدَ أحْمَدَ والطَّبَرانِيِّ مَرْفُوعًا: «مَن ضَمَّ يَتِيمًا مِن بَيْنِ أبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إلى طَعامِهِ وشَرابِهِ، وجَبَتْ لَهُ الجَنَّةَ» قالَ المُنْذِرِيُّ: رُواةُ أحْمَدَ مُحْتَجٌّ بِهِمْ إلّا عَلِيَّ بْنَ زَيْدٍ.
وَعِنْدَ ابْنِ ماجَهْ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أنَّهُ ﷺ قالَ: «خَيْرُ بَيْتٍ في المُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ، يُحْسَنُ إلَيْهِ. وشَرُّ بَيْتٍ في المُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُساءُ إلَيْهِ» .
وَجاءَ عِنْدَ أبِي داوُدَ ما هو أبْعَدُ مِن هَذا وذَلِكَ، حَتّى إنَّ الأُمَّ لَتُعَطِّلُ مَصالِحَها مِن أجْلِ أيْتامِها، في قَوْلِهِ ﷺ: «أنا وامْرَأةٌ سَفْعاءُ الخَدَّيْنِ كَهاتَيْنِ يَوْمَ القِيامَةِ ”، وأوْمَأ بِيَدِهِ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ - بِفَتْحِ الزّايِ وإسْكانِ الياءِ - بِالوُسْطى والسَّبّابَةِ“ امْرَأةٌ آمَتْ زَوْجَها " - بِألِفٍ مَمْدُودَةٍ ومِيمٍ مَفْتُوحَةٍ وتاءٍ - أصْبَحَتْ أيِّمًا بِوَفاةِ زَوْجِها، ذاتُ مَنصِبٍ وجِمالٍ حَبَسَتْ نَفْسَها عَلى يَتاماها حَتّى بانُوا أوْ ماتُوا» .
وَجَعَلَهُ اللَّهُ دَواءً لِقَساوَةِ القَلْبِ، كَما رَوى أحْمَدُ، ورِجالُهُ رِجالُ الصَّحِيحِ: عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنَّ رَجُلًا شَكا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقالَ: ”امْسَحْ رَأْسَ اليَتِيمِ، وأطْعِمِ المِسْكِينَ“» .
وَهُنا يَتَجَلّى سِرٌّ لَطِيفٌ في مِثالِيَّةِ التَّشْرِيعِ الإسْلامِيِّ، حَيْثُ يُخاطِبُ اللَّهُ تَعالى أفْضَلَ الخَلْقِ وأرْحَمَهم، وأرْأفَهم بِعِبادِ اللَّهِ، المَوْصُوفَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨] وبِقَوْلِهِ: ﴿وَإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤]، لِيَكُونَ مِثالًا مِثالِيًّا في أُمَّةٍ قَسَتْ قُلُوبُها وغَلُظَتْ طِباعُها، فَلا يَرْحَمُونَ ضَعِيفًا، ولا يُؤَدُّونَ حَقًّا إلّا مِن قُوَّةٍ يَدِينُونَ لِمَبْدَأِ: مَن عَزَّ بَزَّ، ومَن غَلَبَ اسْتَلَبَ، يُفاخِرُونَ بِالظُّلْمِ ويَتَهاجَوْنَ بِالأمانَةِ، كَما قالَ شاعِرُهم:
؎قَبِيلَةٌ لا يَخْفِرُونَ بِذِمَّةٍ ولا يَظْلِمُونَ النّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلٍ
وَيَقُولُ حَكِيمُهم:(p-٥٦٩)
؎وَمَن لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ ∗∗∗ يُهْدَمْ ومَن لَمْ يَظْلِمِ النّاسَ يُظْلَمِ
قَوْمٌ يَئِدُونَ بَناتَهم، ويَحْرِمُونَ مِنَ المِيراثِ نِساءَهم، ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أكْلًا لَمًّا﴾، ﴿وَتُحِبُّونَ المالَ حُبًّا﴾، فَقَلَبَ مَقايِيسَهم، وعَدَلَ مَفاهِيمَهم، فَألانَ قُلُوبَهم ورَقَّقَ طِباعَهم، فَلانُوا مَعَ هَذا الضَّعِيفِ وحَفِظُوا حَقَّهُ.
وَحَقِيقَةُ هَذا التَّشْرِيعِ الإلَهِيِّ الحَكِيمِ مُنْذُ أرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا، تَأْتِي فَوْقَ كُلِّ ما تَتَطَلَّعُ إلَيْهِ آمالُ الحَضاراتِ الإنْسانِيَّةِ كُلِّها، مِمّا يُحَقِّقُ كَمالَ التَّكامُلِ الِاجْتِماعِيِّ بِأبْهى مَعانِيهِ، المُنَوِّهِ عَنْهُ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافًا خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ولْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: ٩]، فَجَعَلَ كافِلَ اليَتِيمِ اليَوْمَ، إنَّما يَعْمَلُ حَتّى فِيما بَعْدُ لَوْ تَرَكَ ذُرِّيَّةً ضِعافًا، وعَبَّرَ هُنا عَنِ الأيْتامِ بِلازِمِهِمْ، وهو الضَّعْفُ إبْرازًا لِحاجَةِ اليَتِيمِ إلى الإحْسانِ، بِسَبَبِ ضَعْفِهِ فَيَكُونُونَ مَوْضِعَ خَوْفِهِمْ عَلَيْهِمْ لِضَعْفِهِمْ، فَلْيُعامِلُوا الأيْتامَ تَحْتَ أيْدِيهِمْ، كَما يُحِبُّونَ أنْ يُعامِلَ غَيْرُهم أيْتامَهم مِن بَعْدِهِمْ.
وَهَكَذا تَضَعُ الآيَةُ أمامَنا تَكافُلًا اجْتِماعِيًّا في كَفالَةِ اليَتِيمِ، بَلْ إنَّ اليَتِيمَ نَفْسَهُ، فَإنَّهُ يَتِيمُ اليَوْمِ ورَجُلُ الغَدِ، فَكَما تُحْسِنُ إلَيْهِ يُحْسِنُ هو إلى أيْتامِكَ مِن بَعْدِكَ، وكَما تَدِينُ تُدانُ، فَإنْ كانَ خَيْرًا كانَ الخَيْرُ بِالخَيْرِ والبادِئُ أكْرَمُ، وإنْ شَرًّا كانَ بِمِثْلِهِ والبادِئُ أظْلَمُ.
وَمَعَ هَذا الحَقِّ المُتَبادَلِ، فَإنَّ الإسْلامَ يَحُثُّ عَلَيْهِ ويَعْنِي بِهِ، ورَغَّبَ في الإحْسانِ إلَيْهِ وأجْزَلَ المَثُوبَةَ عَلَيْهِ، وحَذَّرَ مِنَ الإساءَةِ عَلَيْهِ، وشَدَّدَ العُقُوبَةَ فِيهِ.
وَقَدْ يَكُونُ فِيما أوْرَدْناهُ إطالَةٌ، ولَكِنَّهُ وفاءٌ بِحَقِّ اليَتِيمِ أوَّلًا، وتَأثُّرٌ بِكَثْرَةِ ما يُلاقِيهِ اليَتِيمُ ثانِيًا.
تَنْبِيهٌ.
لَيْسَ مِن بابِ الإساءَةِ إلى اليَتِيمِ تَأْدِيبُهُ والحَزْمُ مَعَهُ، بَلْ ذَلِكَ مِن مَصْلَحَتِهِ كَما قِيلَ:
؎قَسا لِيَزْدَجِرُوا ومَن يَكُ حازِمًا ∗∗∗ فَلْيَقْسُ أحْيانًا عَلى مَن يَرْحَمُ
{"ayah":"فَأَمَّا ٱلۡیَتِیمَ فَلَا تَقۡهَرۡ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق