الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ - بَحْثُ هَذِهِ المَسْألَةِ، وإيرادُ كُلِّ النُّصُوصِ في عِدَّةِ مَواضِعَ، أشارَ إلَيْها كُلِّها في سُورَةِ ”النَّجْمِ“ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثى مِن نُطْفَةٍ إذا تُمْنى﴾ [النجم: ٤٥ - ٤٦]، وقَدْ قُرِئَتْ بِعِدَّةِ قِراءاتٍ مِنها: ﴿خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾، ومِنها ”والذَّكَرَ والأُنْثى“ . وَذَكَرَها ابْنُ كَثِيرٍ مَرْفُوعَةً إلى النَّبِيِّ ﷺ في صَحِيحِ البُخارِيِّ ومُسْلِمٍ، وعَلى القِراءَةِ المَشْهُورَةِ. ﴿وَما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾، اخْتُلِفَ في لَفْظَةِ: ”ما“ فَقِيلَ: إنَّها مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ: وخَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثى. وَقِيلَ: بِمَعْنى مَن، أيْ: والَّذِي خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثى. فَعَلى الأوَّلِ يَكُونُ القَسَمُ (p-٥٤٥)بِصِفَةٍ مِن صِفاتِ اللَّهِ - وهي صِفَةُ الخَلْقِ، ويَكُونُ خَصَّ الذَّكَرَ والأُنْثى؛ لِما فِيهِما مِن بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ وقُوَّةِ قُدْرَتِهِ سُبْحانَهُ عَلى ما يَأْتِي. وَعَلى قِراءَةِ: ”والذَّكَرَ والأُنْثى“ . يَكُونُ القَسَمُ بِالمَخْلُوقِ كاللَّيْلِ والنَّهارِ، لِما في الخُلُقِ مِن قُدْرَةِ الخالِقِ أيْضًا، وعَلى أنَّها بِمَعْنى الَّذِي يَكُونُ القَسَمُ بِالخالِقِ سُبْحانَهُ، وتَكُونُ ما هُنا مِثْلَ ما في قَوْلِهِ: ﴿والسَّماءِ وما بَناها﴾ [الشمس: ٥]، وغايَةُ ما فِيهِ اسْتِعْمالُها وهي في الأصْلِ لِغَيْرِ أُولِي العِلْمِ، إلّا أنَّها لُوحِظَ فِيها مَعْنى الصِّفَةِ، وهي صِفَةُ الخَلْقِ أوْ عَلى ما تَسْتَعْمِلُهُ العَرَبُ عِنْدَ القَرِينَةِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾ [النساء: ٢٢]، وقَوْلِهِ: ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ﴾ [النساء: ٣]، لِما لُوحِظَ فِيهِ مَعْنى الصِّفَةِ وهو الِاسْتِمْتاعُ؛ ساغَ اسْتِعْمالُ ما بَدَلًا عَنْ مَن. وَفِي اخْتِصاصِ خَلْقِ الذَّكَرِ والأُنْثى في هَذا المَقامِ لَفْتُ نَظَرٍ إلى هَذِهِ الصِّفَةِ، لِما فِيها مِن إعْجازِ البَشَرِ عَنْها، كَما في اللَّيْلِ والنَّهارِ مِنَ الإعْجازِ لِلْبَشَرِ: مِن أنْ يَقْدِرُوا عَلى شَيْءٍ في خُصُوصِهِ، كَما قَدَّمْنا في السُّورَةِ قَبْلَها. وَذَلِكَ: أنَّ أصْلَ التَّذْكِيرِ والتَّأْنِيثِ أمْرٌ فَوْقَ إدْراكِ وقُوى البَشَرِ، وهي كالآتِي: أوَّلًا: في الحَيَواناتِ الثَّدْيِيَّةِ، وهي ذَواتُ الرَّحِمِ تَحْمِلُ وتَلِدُ، فَإنَّها تُنْتِجُ عَنْ طَرِيقِ اتِّصالِ الذُّكُورِ بِالإناثِ. وتَذْكِيرُ الجَنِينِ أوْ تَأْنِيثُهُ لَيْسَ لِأبَوَيْهِ دَخْلٌ فِيهِ، إنَّهُ مِن نُطْفَةٍ أمْشاجٍ، أيْ: أخْلاطٍ مِن ماءِ الأبِ والأُمِّ، وجَعَلَ هَذا ذَكَرًا وذاكَ أُنْثى، فَهو هِبَةٌ مِنَ اللَّهِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿يَهَبُ لِمَن يَشاءُ إناثًا ويَهَبُ لِمَن يَشاءُ الذُّكُورَ أوْ يُزَوِّجُهم ذُكْرانًا وإناثًا ويَجْعَلُ مَن يَشاءُ عَقِيمًا إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: ٤٩ - ٥٠] . وَقَدْ ثَبَتَ عِلْمِيًّا أنَّ سَبَبَ التَّذْكِيرِ والتَّأْنِيثِ مِن جانِبِ الرَّجُلِ، أيْ: أنَّ ماءَ المَرْأةِ صالِحٌ لِهَذا وذاكَ، وماءُ الرَّجُلِ هو الَّذِي بِهِ يَكُونُ التَّمْيِيزُ؛ لِانْقِسامٍ يَقَعُ فِيهِ. فالمَرْأةُ لا تَعْدُو أنْ تَكُونَ حَرْثًا، والرَّجُلُ هو الزّارِعُ، ونَوْعُ الزَّرْعِ يَكُونُ عَنْ طَرِيقِهِ، كَما أشارَتْ إلَيْهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ: ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣]، والحَرْثُ لا يَتَصَرَّفُ في الزَّرْعِ، وإنَّما التَّصَرُّفُ عَنْ طَرِيقِ الحارِثِ. وَيَتِمُّ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ مَبْدَأٍ مَعْلُومٍ عِلْمِيًّا، وهو أنَّ خَلِيَّةَ التَّلْقِيحِ في الأُنْثى دائِمًا وأبَدًا (p-٥٤٦)مُكَوَّنَةٌ مِن ثَمانِيَةٍ وأرْبَعِينَ جُزْءًا، وهي دائِمًا وأبَدًا تَنْقَسِمُ إلى قِسْمَيْنِ مُتَساوِيَيْنِ: أرْبَعَةٍ وعِشْرِينَ، فَيَلْتَحِمُ قِسْمٌ مِنها مَعَ قِسْمِ خَلِيَّةِ الذَّكَرِ، وخَلِيَّةُ الذَّكَرِ سَبْعَةٌ وأرْبَعُونَ، وإنَّما أبَدًا تَنْقَسِمُ أيْضًا عِنْدَ التَّلْقِيحِ إلى قِسْمَيْنِ، ولَكِنْ أحَدُهُما أرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ، والآخِرُ ثَلاثَةٌ وعِشْرُونَ، فَإذا أرادَ اللَّهُ تَذْكِيرَ الحَمْلِ سَبَقَ القِسْمُ الَّذِي مِن ثَلاثَةٍ وعِشْرِينَ. فَيَنْدَمِجُ مَعَ قَسِيمِ خَلِيَّةِ الأُنْثى، وهو أرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُهُما سَبْعَةً وأرْبَعِينَ، فَيَكُونُ الذَّكَرُ بِإذْنِ اللَّهِ. وَإذا أرادَ اللَّهُ تَأْنِيثَ الحَمْلِ سَبَقَ القِسْمُ الَّذِي هو أرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ مِنَ الرَّجُلِ، فَيَنْدَمِجُ مَعَ قَسِيمِ خَلِيَّةِ المَرْأةِ أرْبَعَةٍ وعِشْرِينَ، فَيَكُونُ مِن مَجْمُوعِهِما ثَمانِيَةٌ وأرْبَعُونَ، فَتَكُونُ الأُنْثى بِإذْنِ اللَّهِ، وهَكَذا في جَمِيعِ الحَيَواناتِ. أمّا النَّباتاتُ فَإنَّ بَعْضَ الأشْجارِ تَتَمَيَّزُ فِيهِ الذُّكُورُ مِنَ الإناثِ، كالنَّخْلِ، والتُّوتِ مَثَلًا، وبَقِيَّةُ الأشْجارِ تَكُونُ الشَّجَرَةُ الواحِدَةُ تَحْمِلُ زَهْرَةَ الذُّكُورَةِ وزَهْرَةَ الأُنُوثَةِ، فَتُلَقِّحُ الرِّياحُ بَعْضَها مِن بَعْضٍ. وَقَدْ حَدَّثَنِي عِدَّةُ أشْخاصٍ عَنْ غَرِيبَتَيْنِ في ذَلِكَ: إحْداهُما: أنَّ نَخْلَةً مَوْجُودَةً حَتّى الآنَ، في بَعْضِ السِّنِينَ فَحْلًا يُؤْخَذُ مِنهُ لِيُؤَبِّرَ النَّخِيلَ، وفي بَعْضِ السِّنِينَ نَخْلَةً تَطَّلِعُ وتُثْمِرُ. وَحَدَّثَنِي آخَرُ في نَفْسِ المَجْلِسِ: مِن أنَّهُ تُوجَدُ عِنْدَهم شَجَرَةُ نَخْلٍ يَكُونُ أحَدُ شِقَّيْها فَحْلًا؛ يُؤْخَذُ مِنهُ الطَّلْعُ يُلَقَّحُ بِهِ النَّخْلُ، وشِقُّها الآخَرُ نَخْلَةً يَتَلَقَّحُ مِنَ الشَّقِّ الآخَرِ لِمُجاوَرَتِهِ. كَمّا حَدَّثَنِي ثالِثٌ: أنَّ والِدَهُ قَطَعَ بَعْضَ فَحْلِ النَّخْلِ؛ لِكَثْرَتِهِ في النَّخِيلِ، وبَعْدَ قَطْعِهِ نَبَتَ في أصْلِهِ ومِن جِذْعِهِ وجُذُورِهِ نَخْلَةٌ تُثْمِرُ. وكُلُّ ذَلِكَ عَلى خِلافِ العادَةِ، ولَكِنَّهُ دالٌّ عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، وأنَّهُ خالِقُ الذَّكَرِ والأُنْثى. أمّا عَمَلُ هَذا الجِهازِ في الحَيَواناتِ، بَلْ وفي الحَشَراتِ الدَّقِيقَةِ وتَكاثُرِها، فَهو فَوْقَ الحَصْرِ والحَدِّ. وَقَدْ ذَكَرُوا في عالَمِ الحَشَراتِ، ما يُلَقِّحُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ، بِاحْتِكاكِ بَعْضِ فَخِذَيْةِ بِبَعْضٍ، وكُلُّ ذَلِكَ مِمّا لا يَعْلَمُهُ ولا يَقْدِرُ عَلى إيجادِهِ إلّا اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، مِمّا لَوْ (p-٥٤٧)تَأمَّلَهُ العاقِلُ لَوَجَدَ فِيهِ كَما أسْلَفْنا القُدْرَةَ الباهِرَةَ، أعْظَمُ مِمّا في اللَّيْلِ إذا يَغْشى وما في النَّهارِ إذا تَجَلّى، ولا سِيَّما إذا صَغُرَ الكائِنُ: كالبَعُوضَةِ فَما دُونَها مِمّا لا يَكادُ يُرى بِالعَيْنِ، ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّ فِيهِ الذُّكُورَةَ والأُنُوثَةَ. سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ ما أعْظَمَ شَأْنُكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب