الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَشاهِدٍ ومَشْهُودٍ﴾ لَمْ يُصَرِّحْ هُنا مَنِ الشّاهِدُ وما المَشْهُودُ، وقَدْ ذُكِرَ الشّاهِدُ في القُرْآنِ بِمَعْنى الحاضِرِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وقَوْلِهِ: ﴿عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ [الأنعام: ٧٣] . وَذُكِرَ المَشْهُودُ بِمَعْنى المُشاهَدِ بِاسْمِ المَفْعُولِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ [هود: ١٠٣] . فالشّاهِدُ والمَشْهُودُ قَدْ يَكُونانِ مِنَ المُشاهَدَةِ، وذُكِرَ الشّاهِدُ مِنَ الشَّهادَةِ، والمَشْهُودُ مِنَ المَشْهُودِ بِهِ أوْ عَلَيْهِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٤١] . فَشَهِيدُ الأُولى: أيُ شَهِيدٌ عَلى الأُمَّةِ الَّتِي بُعِثَتْ فِيها، وشَهِيدُ الثّانِيَةِ: أيْ شاهِدٌ عَلى الرُّسُلِ في أُمَمِهِمْ. وَمِن هُنا اخْتَلَفَتْ أقْوالُ المُفَسِّرِينَ إلى ما يَقْرُبُ مِن عِشْرِينَ قَوْلًا. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ ما مُلَخَّصُهُ: الشّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، والمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ أوِ النَّحْرِ، وعَزاهُ لِعَلِيٍّ وأبِي هُرَيْرَةَ، والشّاهِدُ: مُحَمَّدٌ ﷺ والمَشْهُودُ: يَوْمُ القِيامَةِ. وعَزاهُ لِابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ. والشّاهِدُ: الإنْسانُ، والمَشْهُودُ: يَوْمُ القِيامَةِ وعَزاهُ لِمُجاهِدٍ وعِكْرِمَةَ. والشّاهِدُ: هو اللَّهُ، والمَشْهُودُ: هو يَوْمُ القِيامَةِ، وعَزاهُ لِابْنِ عَبّاسٍ. ثُمَّ قالَ: والصَّوابُ عِنْدِي أنَّهُ صالِحٌ لِكُلِّ ما يُقالُ لَهُ مُشاهَدٌ، ويُقالُ لَهُ مَشْهُودٌ، فَلَمْ يَفْصِلْ ما إذا كانَ بِمَعْنى الحُضُورِ، أوِ الشَّهادَةِ، ومِثْلُهُ القُرْطُبِيُّ وابْنُ كَثِيرٍ. (p-٤٧٨)وَقَدْ فَصَّلَ أبُو حَيّانَ عَلى ما قَدَّمْنا، فَقالَ: إنْ كانَ بِمَعْنى الحُضُورِ، فالشّاهِدُ الإنْسانُ، والمَشْهُودُ يَوْمُ القِيامَةِ، ولَمّا ذَكَرَ اليَوْمَ المَوْعُودَ ناسَبَ أنْ يَذْكُرَ كُلَّ مَن يَشْهَدُ في ذَلِكَ اليَوْمِ، ومَن يَشْهَدُ عَلَيْهِ، وذَكَرَ نَحْوًا مِن عِشْرِينَ قَوْلًا. وَقالَ: كُلٌّ لَهُ مُتَمَسِّكٌ، والَّذِي يَظْهَرُ - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ -: أنَّهُ مِن بابِ الشَّهادَةِ؛ لِأنَّ ذِكْرَ اليَوْمِ المَوْعُودِ وهو يَكْفِي عَنِ اليَوْمِ المَشْهُودِ، بَلْ إنَّهُ يَحْتاجُ إلى مَن يَشْهَدُ فِيهِ، وتُقامُ الشَّهادَةُ عَلى ما سَيُعْرَضُ فِيهِ؛ لِإقامَةِ الحُجَّةِ عَلى الخَلْقِ لا لِإثْباتِ الحَقِّ. وَقَدْ جاءَ في القُرْآنِ تَعْدادُ الشُّهُودِ في ذَلِكَ اليَوْمِ، مِمّا يَتَناسَبُ مَعَ العَرْضِ والحِسابِ. وَمُجْمَلُ ذَلِكَ أنَّها تَكُونُ خاصَّةً وعامَّةً وأعَمَّ مِنَ العامَّةِ، فَمِنَ الخاصَّةِ: شَهادَةُ الجَوارِحِ عَلى الإنْسانِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى إذا ما جاءُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهم وأبْصارُهم وجُلُودُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: ٢٠]، وقَوْلِهِ: ﴿اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْواهِهِمْ وتُكَلِّمُنا أيْدِيهِمْ وتَشْهَدُ أرْجُلُهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس: ٦٥]، وهَذِهِ شَهادَةُ فِعْلٍ ومَقالٍ لا شَهادَةُ حالٍ، كَما بَيَّنَها قَوْلُهُ تَعالى عَنْهم: ﴿وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أنْطَقَنا اللَّهُ الَّذِي أنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهو خَلَقَكم أوَّلَ مَرَّةٍ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ﴿وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكم سَمْعُكم ولا أبْصارُكم ولا جُلُودُكم ولَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمّا تَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: ٢١ - ٢٢]، ورَدَّ اللَّهُ زَعْمَهم ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَذَلِكم ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكم أرْداكم فَأصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [فصلت: ٢٣] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ بَيانُ شَهادَةِ الأعْضاءِ في سُورَةِ ”يس“ وفي سُورَةِ ”النِّساءِ“ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٤٢]، وشَهادَةُ المَلائِكَةِ وهُمُ الحَفَظَةُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقالَ قَرِينُهُ هَذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ [ق: ٢٣]، وقَوْلِهِ: ﴿وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وشَهِيدٌ﴾ [ق: ٢١]، ثُمَّ شَهادَةُ الرُّسُلِ كُلُّ رَسُولٍ عَلى أُمَّتِهِ، كَما في قَوْلِهِ عَنْ عِيسى - عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا أفْضَلُ الصَّلاةِ والتَّسْلِيمِ -: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ﴾ [المائدة: ١١٧]، فَهَذا وإنْ كانَ في الحَياةِ فَسَيُؤَدِّيها يَوْمَ القِيامَةِ. وَكَقَوْلِهِ في عُمُومِ الأُمَمِ: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ في كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِن أنْفُسِهِمْ﴾ [النحل: ٨٩] . (p-٤٧٩)وَمِنها: شَهادَةُ الرَّسُولِ ﷺ عَلى جَمِيعِ الرُّسُلِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٤١] . وَمِنها: شَهادَةُ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلى سائِرِ الأُمَمِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ﴾ [البقرة: ١٤٣] . وَمِنها: شَهادَةُ الرَّسُولِ ﷺ عَلى هَذِهِ الأُمَّةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣] . وَمِنها: شَهادَةُ اللَّهِ تَعالى عَلى الجَمِيعِ. وَهَذا ما يَتَناسَبُ مَعَ ذِكْرِ اليَوْمِ المَوْعُودِ وما يَكُونُ فِيهِ مِنَ الجَزاءِ والحِسابِ عَلى الأعْمالِ، ومُجازاةِ الخَلائِقِ عَلَيْها: وسَيَأْتِي في نَفْسِ السِّياقِ قَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [البروج: ٩]، وهو كَما تَرى لا يَتَقَيَّدُ بِشاهِدٍ واحِدٍ، وأيْضًا لا يُعارِضُ بَعْضُها بَعْضًا. فاخْتِلافُ الشُّهُودِ وتَعَدُّدِهِمْ بِاخْتِلافِ المَشْهُودِ عَلَيْهِ وتَعَدُّدِهِ، مِن فَرْدٍ إلى أُمَّةٍ إلى رُسُلٍ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ، وكُلُّها داخِلَةٌ في المَعْنى وواقِعَةٌ بِالفِعْلِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ أقْوالٌ أُخْرى، ولَكِنْ لا تَخْتَصُّ بِيَوْمِ القِيامَةِ. وَمِنها: أنَّ الشّاهِدَ اللَّهُ والمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ، والمَشْهُودُ بِهِ وحْدانِيَّةُ اللَّهِ تَعالى. وَمِنها: الشّاهِدُ المَخْلُوقاتُ، والمَشْهُودُ بِهِ قُدْرَةُ اللَّهِ تَعالى، فَتَكُونُ الشَّهادَةُ بِمَعْنى العَلامَةِ. وَأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ إيرادًا في ذَلِكَ الفَخْرُ الرّازِيُّ؛ حَيْثُ ساقَها كُلَّها بِأدِلَّتِها إلّا ما ذَكَرْناهُ مِنَ السُّنَّةِ فَلَمْ يُورِدْهُ. وَقَدْ جاءَ في السُّنَّةِ تَعْيِينُ الشَّهاداتِ لِغَيْرِ ما ذُكِرَ. مِنها الشَّهادَةُ لِلْمُؤَذِّنِ: «ما يَسْمَعُ صَوْتَهُ شَجَرٌ ولا حَجَرٌ ولا مَدَرٌ، إلّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ» . (p-٤٨٠)وَمِنها: شَهادَةُ الأرْضِ عَلى الإنْسانِ بِما عَمِلَ عَلَيْها المُشارُ إلَيْهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أخْبارَها﴾ [الزلزلة: ٤] . وَمِنها: شَهادَةُ المالِ عَلى صاحِبِهِ فِيمَ أنْفَقَهُ. ومِنها: شَهادَةُ الصِّيامِ والقُرْآنِ وشَفاعَتُهُما لِصاحِبِهِما، ونَحْوُ ذَلِكَ. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. * تَنْبِيهٌ فِي هَذا العَرْضِ إشْعارٌ يَتَعَلَّقُ بِالقَضاءِ وكَمالِ العَدالَةِ، وهو إذا كانَ رَبُّ العِزَّةِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، وبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، ومُوَكِّلٌ حَفَظَةً يَكْتُبُونَ أعْمالَ العِبادِ، ومَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ الخَلائِقِ بِما يَعْلَمُهُ مِنهم ولا بِما سَجَّلَتْهُ مَلائِكَتُهُ، ويَسْتَنْطِقُ أعْضاءَهم، ويَسْتَشْهِدُ الرُّسُلَ عَلى الأُمَمِ والرَّسُولَ ﷺ عَلى الرُّسُلِ، أيْ بِأنَّهم بَلَّغُوا أُمَمَهم رِسالاتِ اللَّهِ إلَيْهِمْ، فَلِأنْ لا يَقْضِيَ القاضِي بِعِلْمِهِ مِن بابِ أوْلى. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. وَقَدْ جاءَ عَنْهُ ﷺ قَوْلُهُ: «إنَّكم تَحْتَكِمُونَ إلَيَّ، وإنَّما أنا بَشَرٌ أقْضِي لَكم عَلى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فَمَنِ اقْتَطَعْتُ لَهُ شَيْئًا مِن حَقِّ أخِيهِ، فَإنَّما أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِن نارٍ» . الحَدِيثَ. أيْ: كانَ مِنَ المُمْكِنِ أنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، ولا سِيَّما في تِلْكَ القَضِيَّةِ بِعَيْنِها، إذْ قالُوا في مَوارِيثَ دَرَسَتْ مَعالِمُها ولا بَيِّنَةَ بَيْنَهُما، ولَكِنْ إذا نَزَلَ الوَحْيُ عَلَيْهِ ﷺ فِيها فَمَن بِالوَحْيِ لِمَن يَأْتِي بَعْدَهُ في القَضاءِ ؟ وَلِذا قالَ ﷺ: «”البَيِّنَةُ عَلى المُدَّعِي، واليَمِينُ عَلى مَن أنْكَرَ“ .» وَمَعْلُومٌ أنَّ البَيِّنَةَ فَعِيلَةٌ مِنَ البَيانِ، فَتَشْمَلُ كُلَّ ما يُبَيِّنُ الحَقَّ مِن شَهادَةٍ وقَرِينَةٍ، كَما في قِصَّةِ يُوسُفَ مِنَ القَرائِنِ مَعَ إخْوَتِهِ ومَعَ امْرَأةِ العَزِيزِ. إلَخْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب