الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾ ﴿واللَّيْلِ وما وسَقَ﴾ ﴿والقَمَرِ إذا اتَّسَقَ﴾ ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ الشَّفَقُ لُغَةً: رِقَّةُ الشَّيْءِ. قالَ القُرْطُبِيُّ: يُقالُ شَيْءٌ شَفِيقٌ، أيْ: لا تَماسُكَ لَهُ لِرِقَّتِهِ، وأشْفَقَ عَلَيْهِ أيْ: رَقَّ قَلْبُهُ عَلَيْهِ، والشَّفَقَةُ الِاسْمُ مِنَ الإشْفاقِ وهو رِقَّةُ القَلْبِ، وكَذَلِكَ الشَّفَقُ. قالَ الشّاعِرُ: ؎تَهْوى حَياتِي وأهْوى مَوْتَها شَفَقا والمَوْتُ أكْرَمُ نَزّالٍ عَلى الحَرَمِ فالشَّفَقُ بَقِيَّةُ ضَوْءِ الشَّمْسِ وحُمْرَتُها، فَكَأنَّ تِلْكَ الرِّقَّةَ مِن ضَوْءِ الشَّمْسِ. وَنُقِلَ عَنِ الخَلِيلِ: الشَّفَقُ: الحُمْرَةُ مِن غُرُوبِ الشَّمْسِ إلى وقْتِ العِشاءِ الآخِرَةِ إذا ذَهَبَ، قِيلَ: غابَ الشَّفَقُ. اهـ. (p-٤٧٢)وَهَذا ما عَلَيْهِ الأئِمَّةُ الثَّلاثَةُ في تَوْقِيتِ وقْتِ المَغْرِبِ مِن غُرُوبِ الشَّمْسِ إلى غِيابِ الشَّفَقِ، وهو الحُمْرَةُ بَعْدَ الغُرُوبِ، كَما قالَ الخَلِيلُ. وَعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنَّ الشَّفَقَ هو البَياضُ الَّذِي بَعْدَهُ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ - في بَيانِ أوْقاتِ الصَّلَواتِ الخَمْسِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ ﴿وَلَهُ الحَمْدُ في السَّماواتِ والأرْضِ وعَشِيًّا وحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ [الروم: ١٧ - ١٨]، ورَجَّحَ أنَّ الشَّفَقَ: الحُمْرَةُ. وَنَقَلَ القُرْطُبِيُّ قَوْلًا، قالَ: وزَعَمَ الحُكَماءُ أنَّ البَياضَ لا يَغِيبُ أصْلًا. وَقالَ الخَلِيلُ: صَعِدْتُ مَنارَةَ الإسْكَنْدَرِيَّةِ فَرَمَقْتُ البَياضَ، فَرَأيْتُهُ يَتَرَدَّدُ مِن أُفُقٍ إلى أُفُقٍ، ولَمْ أرَهُ يَغِيبُ. وَقالَ ابْنُ أُوَيْسٍ: رَأيْتُهُ يَتَمادى إلى طُلُوعِ الفَجْرِ، ثُمَّ قالَ: قالَ عُلَماؤُنا: فَلَمّا لَمْ يَتَجَدَّدْ وقْتُهُ سَقَطَ اعْتِبارُهُ. اه. فَهُوَ بِهَذا يُرَجِّحُ مَذْهَبَ الجُمْهُورِ في مَعْنى الشَّفَقِ، والنُّصُوصُ في ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ فِيها مَقالٌ. فَقَدْ رَوى الدّارَقُطْنِيُّ حَدِيثًا مَرْفُوعًا: «الشَّفَقُ الحُمْرَةُ» . وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ الشَّوْكانِيُّ، ثُمَّ ذَكَرَ مَن يَقُولُ بِهِ مِنَ الصَّحابَةِ وهُمُ: ابْنُ عُمَرَ، وابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو هُرَيْرَةَ، وعُبادَةُ. ومِنَ الأئِمَّةِ: الشّافِعِيُّ، وابْنُ أبِي لَيْلى، والثَّوْرِيُّ، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ مِنَ الفُقَهاءِ، والخَلِيلُ والفَرّاءُ مِن أهْلِ اللُّغَةِ. فَأنْتَ تَرى أنَّ أبا يُوسُفَ ومُحَمَّدًا مِن أصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ وافَقا الجُمْهُورَ. وَفِي شَرْحِ الهِدايَةِ أيْضًا رِوايَةٌ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ. أمّا ما ذَكَرَهُ القُرْطُبِيُّ فَفِيهِ نَظَرٌ، أيْ: مِن جِهَةِ عَدَمِ غِيابِ البَياضِ، فَإنَّ المَعْرُوفَ عِنْدَ عُلَماءِ الفَلَكِ أنَّ بَيْنَ الأحْمَرِ والأبْيَضِ مِقْدارُ دَرَجَتَيْنِ، والدَّرَجَةُ تُعادِلُ أرْبَعَ دَقائِقَ، وعَلَيْهِ فالفَرْقُ بَسِيطٌ. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: ﴿واللَّيْلِ وما وسَقَ﴾، هو الجَمْعُ والضَّمُّ لِلشَّيْءِ الكَثِيرِ، ومِنهُ سُمِّيَ (p-٤٧٣)الوَسَقُ بِمِقْدارٍ مُعَيَّنٍ مِن مَكِيلِ الحَبِّ، وهو سِتُّونَ صاعًا. وقِيلَ: فِيهِ مَعانٍ أُخْرى، ولَكِنَّ هَذا أرْجَحُها. والمَعْنى هُنا: واللَّيْلُ وما جَمَعَهُ مِنَ المَخْلُوقاتِ. قِيلَ: كَأنَّهُ أقْسَمَ بِكُلِّ شَيْءٍ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ﴾ ﴿وَما لا تُبْصِرُونَ﴾ [الحاقة: ٣٨ - ٣٩] . وَقَوْلُهُ: ﴿والقَمَرِ إذا اتَّسَقَ﴾، أيْ: اتَّسَعَ أيْ تَكامَلَ نُورُهُ، وهو افْتَعَلَ مِن وسَقَ، والقاعِدَةُ الصَّرْفِيَّةُ أنَّ فاءَ الفِعْلِ المِثالِيِّ - أيِ الَّذِي فاؤُهُ واوٌ - إذا بُنِيَ عَلى افْتَعَلَ تُقْلَبُ الواوُ تاءً وتُدْغَمُ التّاءُ في التّاءِ، كَما في: وصَلْتُهُ فاتَّصَلَ ووَزَنْتُهُ فاتَّزَنَ، اوْتَصَلَ اوْتَزَنَ، وهَكَذا هُنا اوْتَسَقَ. وَقَوْلُهُ: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اخْتَلَفَ القُرّاءُ في قِراءَتِهِ، فَقَرَأهُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، وابْنُ مَسْعُودٍ وأصْحابُهُ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعامَّةُ قُرّاءِ مَكَّةَ والكُوفَةِ: ”لَتَرْكَبَنَّ“ بِفَتْحِ التّاءِ والباءِ، واخْتَلَفَ قارِئُو ذَلِكَ في مَعْناهُ، فَقالَ بَعْضُهم: يَعْنِي يا مُحَمَّدُ، ويَعْنِي حالاتِ التَّرَقِّي والعُلُوِّ والشَّدائِدِ مَعَ القَوْمِ، وهَذا المَعْنى عَنْ مُجاهِدٍ وابْنِ عَبّاسٍ. وَقِيلَ: ”طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ“: يَعْنِي سَماءً بَعْدَ سَماءٍ، أيْ طِباقِ السَّماءِ، وهو عَنِ الحَسَنِ، وأبِي العالِيَةِ، ومَسْرُوقٍ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّها السَّماءُ تَتَغَيَّرُ أحْوالُها، تَتَشَقَّقُ بِالغَمامِ، ثُمَّ تَحْمَرُّ كالمُهْلِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ. وقَدْ رَجَّحَ القِراءَةَ الأُولى والمَعْنى الأوَّلَ. وَقَرَأ عامَّةُ قُرّاءِ المَدِينَةِ وبَعْضُ الكُوفِيِّينَ: ”لَتَرْكَبُنَّ“ بِالتّاءِ وبِضَمِّ الباءِ عَلى وجْهِ الخِطابِ لِلنّاسِ كافَّةً. وَذَكَرَ المُفَسِّرُونَ لِمَعْناهُ حالًا بَعْدَ حالٍ مَعانٍ عَدِيدَةً: طُفُولَةً، وشَبابًا، وشُيُوخَةً، فَقْرًا وغِنًى، وقُوَّةً وضَعْفًا، حَياةً ومَوْتًا وبَعْثًا، رَخاءً وشِدَّةً، إلى كُلِّ ما تَحْتَمِلُهُ الكَلِمَةُ. وَقالَ القُرْطُبِيُّ: الكُلُّ مُحْتَمَلٌ، وكُلُّهُ مُرادٌ، والَّذِي يَظْهَرُ - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ -: أنَّ ذَلِكَ إنَّما هو بِعامَّةِ النّاسِ ويَكُونُ يَوْمَ القِيامَةِ، إذِ السِّياقُ في أُصُولِ البَعْثِ: ﴿إذا السَّماءُ انْشَقَّتْ﴾، ﴿وَإذا الأرْضُ مُدَّتْ﴾، ﴿فَأمّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ وذَكَرَ الحِسابَ المُنْقَلِبَ، ثُمَّ التَّعْبِيرَ بِالمُسْتَقْبَلِ ”لَتَرْكَبُنَّ“، ولَوْ كانَ لِأمْرِ الدُّنْيا مِن تَغَيُّرِ الأحْوالِ لَكانَ (p-٤٧٤)أوْلى بِهِ الحاضِرُ أوِ الماضِي، وإنْ كانَ مِنَ المُسْتَقْبَلِ ما سَيَأْتِي مِنَ الزَّمَنِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِجَدِيدٍ، إذْ تَقَلُّبُ الأحْوالِ في شَأْنِ الحَياةِ أمْرٌ مُسْتَقِرٌّ في الأذْهانِ، ولا يَحْتاجُ إلى هَذا الأُسْلُوبِ. أمّا أُمُورُ الآخِرَةِ مِن بَعْثٍ، وحَشْرٍ، وعَرْضٍ، ومِيزانٍ، وصِراطٍ، وتَطايُرِ كُتُبٍ، واخْتِلافِ أحْوالِ النّاسِ بِاخْتِلافِ المَواقِفِ، في عَرَصاتِ القِيامَةِ، فَهي الحَرِيَّةُ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْها والتَّحْذِيرِ مِنها، والعَمَلِ لِأجْلِها في كَدْحِهِ إلى رَبِّهِ، فَلِذا جاءَ بِذَلِكَ وهو مُشْعِرٌ بِاسْتِمْرارِ حالَةِ الإنْسانِ بَعْدَ الكَدْحِ إلى حالاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ودَرَجاتٍ مُتَفاوِتَةٍ. وَلَوِ اعْتَبَرْنا حالَ المُقْسَمِ بِهِ مِن حَيْثُ تَطَوُّرِ الحالِ مِن شَفَقٍ، أوْ آخَرِ ضَوْءِ الشَّمْسِ، ثُمَّ لَيْلٍ، وما جَمَعَ وغَطّى بِظَلامِهِ، ثُمَّ قَمَرٌ يَبْدَأُ هِلالًا إلى اتِّساقِ نُورِهِ - لَكانَ انْتِقالًا مِن تَغَيُّرِ حَرَكاتِ الزَّمَنِ إلى تَغَيُّرِ أحْوالِ الإنْسانِ قَطْعًا، وأنَّ القادِرَ عَلى ذَلِكَ في الدُّنْيا قادِرٌ عَلى ذَلِكَ في الآخِرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب