الباحث القرآني

(p-٤٣٠)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ عَبَسَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَبَسَ وتَوَلّى﴾ ﴿أنْ جاءَهُ الأعْمى﴾ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ بِاتِّفاقِ المُفَسِّرِينَ، «أنَّهُ ﷺ كانَ مَشْغُولًا بِدَعْوَةِ صَنادِيدِ قُرَيْشٍ، فَأتاهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وهو رَجُلٌ أعْمى، وقالَ: " أقْرِئْنِي يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وعَلِّمْنِي مِمّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، وكَرَّرَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ وما هو مُشْتَغِلٌ بِهِ ﷺ، وما يَرْجُوهُ مِمّا هو أعْظَمُ، فَعَبَسَ وتَوَلّى عَنْهُ مُنْصَرِفًا، لِما هو مُشْتَغِلٌ بِهِ» . قالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ - في دَفْعِ إيهامِ الِاضْطِرابِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ جاءَهُ الأعْمى﴾ ما نَصُّهُ: عَبَّرَ تَعالى عَنْ هَذا الصَّحابِيِّ الجَلِيلِ - الَّذِي هو عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ - بِلَقَبٍ يَكْرَهُهُ النّاسُ، مَعَ أنَّهُ قالَ: ﴿وَلا تَنابَزُوا بِالألْقابِ﴾ [الحجرات: ١١] . والجَوابُ: هو ما نَبَّهَ عَلَيْهِ بَعْضُ العُلَماءِ: مِن أنَّ السِّرَّ في التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِلَفْظِ ”الأعْمى“؛ لِلْإشْعارِ بِعُذْرِهِ في الإقْدامِ عَلى قَطْعِ كَلامِ الرَّسُولِ ﷺ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ يَرى ما هو مُشْتَغِلٌ بِهِ مَعَ صَنادِيدِ الكُفّارِ لَما قَطَعَ كَلامَهُ. اهـ مِنهُ بِلَفْظِهِ. وَقالَ الفَخْرُ الرّازِيُّ: إنَّهُ وإنْ كانَ أعْمى لا يَرى، فَإنَّهُ يَسْمَعُ وبِسَماعِهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وإقْدامِهِ عَلى مُقاطَعَتِهِ يَكُونُ مُرْتَكِبًا مَعْصِيَةً، فَكَيْفَ يُعاتَبُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ . فَكَلامُهُ هَذا يُشْعِرُ بِأنَّهُ إنْ كانَ مَعْذُورًا لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ، فَلَيْسَ مَعْذُورًا لِإمْكانِ سَماعِهِ، ولَكِنْ ذَكَرَهُ بِوَصْفِهِ لِيُوجِبَ العَطْفَ عَلَيْهِ والرِّفْقَ بِهِ. والظّاهِرُ - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ -: أنَّ كَلامَ الرّازِيِّ لَيْسَ بَعِيدًا عَمّا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ؛ لِأنَّ مَعْناهُ أنَّهُ عاتَبَهُ لِعَدَمِ رِفْقِهِ بِهِ. ومُراعاةِ حالَةِ عَماهُ. فِعْلَيْهِ، يَكُونُ ذِكْرُهُ بِهَذا الوَصْفِ مِن بابِ التَّعْرِيضِ بِغَيْرِهِ مِن أُولَئِكَ الصَّنادِيدِ وسادَةِ القَوْمِ، وكَأنَّهُ يَقُولُ لَهم: ﴿فَإنَّها لا تَعْمى الأبْصارُ ولَكِنْ تَعْمى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ﴾ (p-٤٣١)[الحج: ٤٦]، فَهَذا كَفِيفُ البَصَرِ، ولَكِنْ وقّادُ البَصِيرَةِ أبْصَرَ الحَقَّ وآمَنَ، وجاءَ مَعَ عَماهُ يَسْعى طَلَبًا لِلْمَزِيدِ، وأنْتُمْ تَغَلَّقَتْ قُلُوبُكم وعَمِيَتْ بَصائِرُكم فَلَمْ تُدْرِكُوا الحَقِيقَةَ ولَمْ تُبْصِرُوا نُورَ الإيمانِ، كَما في الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿فَإنَّها لا تَعْمى الأبْصارُ ولَكِنْ تَعْمى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ﴾ والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. تَنْبِيهٌ. مِمّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ المُحَدِّثُونَ: جَوازُ ذِكْرِ مِثْلَ هَذِهِ الأوْصافِ إذا كانَتْ لِلتَّعْرِيفِ لا لِلتَّنْقِيصِ، فَقالُوا: الأعْمى والأعْوَرُ والأعْرَجُ. وفي الحِرَفِ قالُوا: الخَرّازُ، والخَرَقِيُّ، ونَحْوُ ذَلِكَ، وهَذا ما فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِتَرْجَمَةِ الرِّجالِ في السَّنَدِ. وَمِثْلُهُ لَيْسَ تَنابُزًا بِالألْقابِ في هَذا الفَنِّ. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. وَمِثْلُهُ إذا كانَ لِلتَّعْرِيفِ في غَرَضٍ سَلِيمٍ دُونَ تَنَقُّصٍ كَما قَدَّمْنا. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَبَسَ وتَوَلّى﴾، فَإنَّ فِيهِ مِثْلَ ما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ جاءَهُ الأعْمى﴾؛ لِأنَّ العُبُوسَةَ أمْرٌ لا يَتَّفِقُ في الظّاهِرِ مَعَ قَوْلِهِ تَعالى في حَقِّهِ ﷺ: ﴿وَإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤]، وقَوْلِهِ: ﴿واخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر: ٨٨] . ولَمْ أقِفْ عَلى جَوابٍ لِذَلِكَ، ولَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ - في دَفْعِ إيهامِ الِاضْطِرابِ. والَّذِي يَظْهَرُ - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ - أنَّهُ لا يَتَأتّى مَعَهُ؛ لِأنَّهُ ﷺ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِما يُسِيءُ إلى هَذا الصَّحابِيِّ في نَفْسِهِ بِشَيْءٍ يَسْمَعُهُ فَيُزْعِجُهُ، كُلُّ ما كانَ مِنهُ ﷺ إنَّما هو تَقْطِيبُ الجَبِينِ، وهَذِهِ حَرَكَةٌ مَرْئِيَّةٌ لا مَسْمُوعَةٌ. والحالُ: أنَّ هَذا أعْمى لا يَرى تِلْكَ الحَرَكَةَ، فَكَأنَّهُ لَمْ يَلْقَ إساءَةً مِنهُ ﷺ . ثُمَّ إنَّهُ ﷺ مُطْمَئِنٌّ لَهُ لِما هو عَلَيْهِ مِن خَيْرٍ في دِينِهِ. كَما قالَ في حُنَيْنٍ: «وَأكِلُ أقْوامًا إلى ما في قُلُوبِهِمْ»، أيْ: لَمّا أعْطى المُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهم، ولَمْ يُعْطِ الأنْصارَ ما هو مَعْرُوفٌ في القِصَّةِ، فَلَمْ يُعاتِبْهُ اللَّهُ عَلى ذَلِكَ. ورَضِيَ الأنْصارُ، وبَكَوْا فَرَحًا ورِضًا. ثُمَّ إنَّ تَقْطِيبَ الجَبِينِ وانْبِساطَ أسارِيرِ الوَجْهِ لِحُزْنٍ أوْ فَرَحٍ، يَكادُ يَكُونُ جِبِلِّيًّا مِمّا (p-٤٣٢)كانَ مِنهُ ﷺ، فَهو مِن بابِ الجِبِلِّيَّةِ تَقْرِيبًا، كَأنَّ المُثِيرَ لَهُ غَرَضٌ عامٌّ مِن خُصُوصِ الرِّسالَةِ ومُهِمَّتِها. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ جاءَ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ كانَ بَعْدَ نُزُولِها يَقُولُ لَهُ: «مَرْحَبًا فِيمَن عاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي»، ويُكْرِمُهُ، وقَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلى المَدِينَةِ مَرَّتَيْنِ. وَعَلى هَذا يَكُونُ المُرادُ بِهَذا أمْرانِ: الأوَّلُ: التَّسامِي بِأخْلاقِهِ ﷺ إلى ما لا نِهايَةَ لَهُ، إلى حَدِّ اللَّحْظِ بِالعَيْنِ، والتَّقْطِيبِ بِالجَبِينِ، ولَوْ لِمَن لا يَراهُ، كَما قالَ ﷺ: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أنْ تَكُونَ لَهُ خائِنَةُ الأعْيُنِ» وذَلِكَ في صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ. والثّانِي: تَأْدِيبٌ لِلْأُمَّةِ ولِلدُّعاةِ خاصَّةً، في شَخْصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَما عَلَّمَهم في شَخْصِيَّتِهِ في بِرِّ الوالِدَيْنِ، في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُما﴾ [الإسراء: ٢٣] . وَهَذا السِّياقُ بِكامِلِهِ مِن أوَّلِ السُّورَةِ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَلّا إنَّها تَذْكِرَةٌ﴾ ﴿فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ﴾ [عبس: ١١ - ١٢]، بَيانٌ؛ لِأنَّ الرَّسُولَ ﷺ لا يُراعِي في الدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ غَنِيًّا ولا فَقِيرًا، وأنْ يَصْبِرَ عَلى ضَعْفَةِ المُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّ الرِّسالَةَ تَبْلِيغٌ ولَيْسَ عَلَيْهِ ما وراءَ ذَلِكَ في مَسْئُولِيَّةٍ، فَلا يَتَكَلَّفُ لَهم. وَقَدْ حَثَّهُ اللَّهُ تَعالى عَلى الصَّبْرِ مَعَ المُؤْمِنِينَ، لِإيمانِهِمْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهم تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنْيا ولا تُطِعْ مَن أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتَّبَعَ هَواهُ وكانَ أمْرُهُ فُرُطًا﴾ ﴿وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكم فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٨ - ٢٩] . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِن حِسابِهِمْ مِن شَيْءٍ وما مِن حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهم فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٢] . وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ - شَيْءٌ مِن هَذا البَيانِ عِنْدَ هَذِهِ الآيَةِ، وبَيَّنَ أنَّ هَذا التَّنْبِيهَ قَدْ وقَعَ مِن نَبِيِّ اللَّهِ نُوحٍ إلى قَوْمِهِ، حِينَما ازْدَرَوْا ضَعْفَةَ المُؤْمِنِينَ في (p-٤٣٣)قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ ما نَراكَ إلّا بَشَرًا مِثْلَنا وما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هم أراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿وَما أنا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ ولَكِنِّي أراكم قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ [هود: ٢٧ - ٢٩] . وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ وأمْثالُها عَلى صِدْقِ مَقالَةِ هِرَقْلَ، حِينَما سَألَ أبا سُفْيانَ عَنْ أتْباعِ مُحَمَّدٍ ﷺ: أهم سادَةُ القَوْمِ أمْ ضُعَفاؤُهم ؟ فَقالَ: بَلْ ضُعَفاؤُهم. فَقالَ: هَكَذا هم أتْباعُ الرُّسُلِ. وَقالَ العُلَماءُ في ذَلِكَ: لِأنَّهم أقْرَبُ إلى الفِطْرَةِ، وأبْعَدُ عَنِ السُّلْطانِ والجاهِ، فَلَيْسَ لَدَيْهِمْ حِرْصٌ عَلى مَنصِبٍ يَضِيعُ، ولا جاهٍ يُهْدَرُ، ويَجِدُونَ في الدِّينِ عِزًّا ورِفْعَةً، وهَكَذا كانَ بِلالٌ وصُهَيْبٌ وعَمّارٌ، وهَكَذا هو ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب