الباحث القرآني

(p-٤٠٦)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ النَّبَأِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَمَّ يَتَساءَلُونَ﴾ ﴿عَنِ النَّبَإ العَظِيمِ﴾ ﴿الَّذِي هم فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ ﴿كَلّا سَيَعْلَمُونَ﴾ ﴿ثُمَّ كَلّا سَيَعْلَمُونَ﴾ ﴿عَمَّ﴾ أصْلُهُ عَنْ ما أُدْغِمَتِ النُّونَ في المِيمِ، ثُمَّ حُذِفَ ألِفُ المِيمِ، لِدُخُولِ حَرْفِ الجَرِّ عَلَيْهِ؛ لِلْفَرْقِ بَيْنَ ما الِاسْتِفْهامِيَّةِ وما المَوْصُولَةِ. والمَعْنى: عَنْ أيِّ شَيْءٍ يَتَساءَلُونَ، وقَدْ يُفْصَلُ حَرْفُ الجَرِّ عَنْ ما، فَلا يُحْذَفُ الألِفُ. وَأنْشَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَ حَسّانٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ؎عَلى ما قامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ وَقالَ في الكَشّافِ: وعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أنَّهُ قَرَأ ”عَمَّهْ“ بِهاءِ السَّكْتِ، ثُمَّ وجَّهَها بِقَوْلِهِ: إمّا أنْ يُجْرى الوَصْلُ مُجْرى الوَقْفِ، وإمّا أنْ يَقِفَ ويَبْتَدِئَ: ﴿يَتَساءَلُونَ﴾ ﴿عَنِ النَّبَإ العَظِيمِ﴾، عَلى أنْ يُضْمَرَ ﴿يَتَساءَلُونَ﴾؛ لِأنَّ ما بَعْدَهُ يُفَسِّرُهُ. وَقالَ القُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ: ﴿عَنِ النَّبَإ العَظِيمِ﴾: لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِـ: ﴿يَتَساءَلُونَ﴾ المَذْكُورِ في التِّلاوَةِ، ولَكِنْ يُقَدَّرُ فِعْلٌ آخَرُ ﴿عَمَّ يَتَساءَلُونَ﴾ ﴿عَنِ النَّبَإ العَظِيمِ﴾، وإلّا لَأُعِيدَ الِاسْتِفْهامُ: أعَنِ النَّبَأِ العَظِيمِ ؟ وَعَلى كُلٍّ، فَإنَّ ما تَساءَلُوا عَنْهُ أُبْهِمَ أوَّلًا، ثُمَّ بُيِّنَ بَعْدَهُ بِأنَّهم: ﴿يَتَساءَلُونَ﴾ ﴿عَنِ النَّبَإ العَظِيمِ﴾، ولَكِنْ بَقِيَ بَيانُ هَذا النَّبَإ العَظِيمِ ما هو ؟ . فَقِيلَ: هو الرَّسُولُ ﷺ في بَعْثَتِهِ لَهم. وقِيلَ: في القُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ يَدْعُوهم بِهِ. وقِيلَ في البَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ. (p-٤٠٧)وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ: احْتِمالَ الجَمِيعِ وألّا تَعارُضَ بَيْنَها. والواقِعُ أنَّها كُلُّها مُتَلازِمَةٌ؛ لِأنَّ مَن كَذَّبَ بِواحِدٍ مِنها كَذَّبَ بِها كُلِّها، ومَن صَدَّقَ بِواحِدٍ مِنها صَدَّقَ بِها كُلِّها، ومَنِ اخْتَلَفَ في واحِدٍ مِنها لا شَكَّ أنَّهُ يَخْتَلِفُ فِيها كُلِّها. وَلَكِنَّ السِّياقَ في النَّبَأِ وهو مُفْرَدٌ. فَما المُرادُ بِهِ هُنا بِالذّاتِ ؟ قالَ ابْنُ كَثِيرٍ والقُرْطُبِيُّ: مَن قالَ إنَّهُ القُرْآنُ: قالَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هو نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿أنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ [ص: ٦٧ - ٦٨] . وَمَن قالَ: إنَّهُ البَعْثُ، قالَ بِدَلِيلِ الآتِي بَعْدَها: ﴿إنَّ يَوْمَ الفَصْلِ كانَ مِيقاتًا﴾ [النبإ: ١٧] . والَّذِي يَظْهَرُ - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ -: أنَّ أظْهَرَها دَلِيلًا هو يَوْمُ القِيامَةِ والبَعْثِ؛ لِأنَّهُ جاءَ بَعْدَهُ بِدَلائِلِ وبَراهِينِ البَعْثِ كُلِّها، وعَقَّبَها بِالنَّصِّ عَلى يَوْمِ الفَصْلِ صَراحَةً، أمّا بَراهِينُ البَعْثِ فَهي مَعْلُومَةٌ أرْبَعَةٌ: خَلْقُ الأرْضِ والسَّماواتِ، وإحْياءُ الأرْضِ بِالنَّباتِ، ونَشْأةُ الإنْسانِ مِنَ العَدَمِ، وإحْياءُ المَوْتى بِالفِعْلِ في الدُّنْيا لِمُعايَنَتِها. وكُلُّها مَوْجُودَةٌ هُنا. أمّا خَلْقُ الأرْضِ والسَّماواتِ، فَنَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهادًا﴾ ﴿والجِبالَ أوْتادًا﴾ [النبإ: ٦ - ٧]، وقَوْلِهِ: ﴿وَبَنَيْنا فَوْقَكم سَبْعًا شِدادًا﴾ ﴿وَجَعَلْنا سِراجًا وهّاجًا﴾ [النبإ: ١٢ - ١٣]، فَكُلُّها آياتٌ كَوْنِيَّةٌ دالَّةٌ عَلى قُدْرَتِهِ تَعالى كَما قالَ: ﴿لَخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ أكْبَرُ مِن خَلْقِ النّاسِ﴾ [غافر: ٥٧] . وَأمّا إحْياءُ الأرْضِ بِالنَّباتِ فَفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجًا﴾ ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا ونَباتًا﴾ ﴿وَجَنّاتٍ ألْفافًا﴾ [النبإ: ١٤ - ١٦] كَما قالَ تَعالى: ﴿وَمِن آياتِهِ أنَّكَ تَرى الأرْضَ خاشِعَةً فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ إنَّ الَّذِي أحْياها لَمُحْيِي المَوْتى﴾ [فصلت: ٣٩] . وَأمّا نَشْأةُ الإنْسانِ مِنَ العَدَمِ، فَفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَخَلَقْناكم أزْواجًا﴾ [النبإ: ٨]، أيْ: أصْنافًا، كَما قالَ تَعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أنْشَأها أوَّلَ مَرَّةٍ وهو بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: ٧٩] . وَأمّا إحْياءُ المَوْتى في الدُّنْيا بِالفِعْلِ، فَفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَجَعَلْنا نَوْمَكم سُباتًا﴾ [النبإ: ٩] (p-٤٠٨)والسُّباتُ: الِانْقِطاعُ عَنِ الحَرَكَةِ. وقِيلَ: هو المَوْتُ، فَهو مِيتَةٌ صُغْرى، وقَدْ سَمّاهُ اللَّهُ وفاةً في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها والَّتِي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها﴾ [الزمر: ٤٢]، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكم بِاللَّيْلِ ويَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكم فِيهِ﴾ [الأنعام: ٦٠]، وهَذا كَقَتِيلِ بَنِي إسْرائِيلَ وطُيُورِ إبْراهِيمَ، فَهَذِهِ آياتُ البَعْثِ ذُكِرَتْ كُلُّها مُجْمَلَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ - إيرادُها مُفَصَّلَةً في أكْثَرَ مِن مَوْضِعٍ، ولِذا عَقَّبَها تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ يَوْمَ الفَصْلِ كانَ مِيقاتًا﴾ [النبإ: ١٧]، أيْ: لِلْبَعْثِ الَّذِي هم فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، يَكُونُ السِّياقُ مُرَجِّحًا لِلْمُرادِ بِالنَّبَأِ هُنا. وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ أيْضًا، كَثْرَةُ إنْكارِهِمْ وشِدَّةُ اخْتِلافِهِمْ في البَعْثِ أكْثَرَ مِنهم في البَعْثَةِ وفي القُرْآنِ، فَقَدْ أقَرَّ أكْثَرُهم بِبَلاغَةِ القُرْآنِ، وأنَّهُ لَيْسَ سِحْرًا ولا شِعْرًا، كَما أقَرُّوا جَمِيعًا بِصِدْقِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وأمانَتِهِ، ولَكِنَّ شِدَّةَ اخْتِلافِهِمْ في البَعْثِ كَما في أوَّلِ سُورَةِ ”ص“ و ”ق“، فَفي ”ص“ قالَ تَعالى: ﴿وَعَجِبُوا أنْ جاءَهم مُنْذِرٌ مِنهم وقالَ الكافِرُونَ هَذا ساحِرٌ كَذّابٌ﴾ ﴿أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾ [ص: ٤ - ٥] . وَفِي ”ق“ قالَ تَعالى: ﴿بَلْ عَجِبُوا أنْ جاءَهم مُنْذِرٌ مِنهم فَقالَ الكافِرُونَ هَذا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ ﴿أئِذا مِتْنا وكُنّا تُرابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾، فَهم أشَدُّ اسْتِبْعادًا لِلْبَعْثِ مِمّا قَبْلَهُ، - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ - .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب