الباحث القرآني

وَفي قَوْلِهِ تَعالى ﴿لِلْكافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ﴾ ﴿مِنَ اللَّهِ ذِي المَعارِجِ﴾ دَلِيلٌ عَلى تَأْكِيدِ وُقُوعِهِ؛ لِأنَّ ما لَيْسَ لَهُ دافِعٌ لا بُدَّ مِن وُقُوعِهِ. أمّا مَتى يَكُونُ فَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ (الطُّورِ) نَظِيرُةُ هَذِهِ أنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ يَوْمَ القِيامَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ﴾ ﴿ما لَهُ مِن دافِعٍ﴾ [الطور: ٧ - ٨]، ثُمَّ بَيَّنَ ظَرْفَ وُقُوعِهِ: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْرًا﴾ ﴿وَتَسِيرُ الجِبالُ سَيْرًا﴾ [الطور: ٩ - ١٠]، وفي سِياقِ هَذِهِ السُّورَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَكُونُ (p-٢٦٦)السَّماءُ كالمُهْلِ﴾ ﴿وَتَكُونُ الجِبالُ كالعِهْنِ﴾ ﴿وَلا يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَدْعُوا مَن أدْبَرَ وتَوَلّى﴾ ﴿وَجَمَعَ فَأوْعى﴾ [المعارج: ٨ - ١٨]؛ فَإنَّها كُلَّها مِن أحْوالِ يَوْمِ القِيامَةِ، فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلى زَمَنِ وُقُوعِهِ. ولَعَلَّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَدْعُوا مَن أدْبَرَ وتَوَلّى﴾ ﴿وَجَمَعَ فَأوْعى﴾ رَدًّا عَلى أُولَئِكَ المُسْتَخِفِّينَ بِالعَذابِ المُسْتَعْجِلِينَ بِهِ؛ مُجازاةً لَهم بِالمِثْلِ، كَما دَعَوْا وطَلَبُوا لِأنْفُسِهِمُ العَذابَ اسْتِخْفافًا؛ فَهي تَدْعُوهم إلَيْها زَجْرًا وتَخْوِيفًا، مُقابَلَةَ دُعاءٍ بِدُعاءٍ، أيْ: إنْ كُنْتُمْ في الدُّنْيا دَعَوْتُمْ بِالعَذابِ فَهَذا هو العَذابُ يَدْعُوكم إلَيْهِ ﴿تَدْعُوا مَن أدْبَرَ﴾ عَنْ سَماعِ الدَّعْوَةِ، وأعْرَضَ عَنْها وتَوَلّى، وهَذا الرَّدُّ بِهَذِهِ الصِّفاتِ الَّتِي قَبْلَهُ مِن تَغْيِيرِ السَّماءِ كالمُهْلِ، وتَسْيِيرِ الجِبالِ كالعِهْنِ، وتَقَطُّعِ أواصِرِ القَرابَةِ مِنَ الفَزَعِ والهَوْلِ مِمّا يَخْلَعُ القُلُوبَ، كَما وقَعَ بِالفِعْلِ في الدُّنْيا، كَما ذَكَرَ القُرْطُبِيُّ قِصَّةَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ. قالَ: قَدِمْتُ المَدِينَةَ لِأسْألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في أسارى بَدْرٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: ﴿والطُّورِ﴾ ﴿وَكِتابٍ مَسْطُورٍ﴾ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ﴾ ﴿ما لَهُ مِن دافِعٍ﴾ [الطور: ١ - ٨]، فَكَأنَّما صُدِعَ قَلْبِي فَأسْلَمْتُ؛ خَوْفًا مِن نُزُولِ العَذابِ، وما كُنْتُ أظُنُّ أنْ أقُومَ مِن مَقامِي حَتّى يَقَعَ العَذابُ. وَذَكَرَ القُرْطُبِيُّ أيْضًا عَنْ هِشامِ بْنِ حَسّانَ، قالَ: انْطَلَقْتُ أنا ومالِكُ بْنُ دِينارٍ إلى الحَسَنِ، وعِنْدَهُ رَجُلٌ يَقْرَأُ: (والطُّورِ) حَتّى بَلَغَ: ﴿إنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ﴾، فَبَكى الحَسَنُ وبَكى أصْحابُهُ، فَجَعَلَ مالِكٌ يَضْطَرِبُ حَتّى غُشِيَ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنَّهُ كانَ يَعُسُّ بِالمَدِينَةِ ذاتَ لَيْلَةٍ، إذْ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ بِالطُّورِ؛ فَرَبا لَها أُعِيدَ مِنها عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَكانَ هَذا الوَصْفُ المُفْزِعُ رَدًّا عَلى ذاكَ الطَّلَبِ المُسْتَخِفِّ. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. ونَأْمُلُ أنْ نَكُونَ قَدْ وفَّيْنا الإيضاحَ الَّذِي أرادَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى - .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب