الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولًا فامْشُوا في مَناكِبِها وكُلُوا مِن رِزْقِهِ وإلَيْهِ النُّشُورُ﴾ .
(p-٢٣٨)الذَّلُولُ فَعُولٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، وهو مُبالَغَةٌ في الذُّلِّ.
تَقُولُ: دابَّةٌ ذَلُولٌ بَيِّنَةُ الذُّلِّ، وقِيلَ في مَعْنى تَذْلِيلِ الأرْضِ عِدَّةُ أقْوالٍ لا تَنافِيَ بَيْنَها، ومَجْمُوعُها دائِرٌ عَلى تَمْكِينِ الِانْتِفاعِ مِنها عَنْ تَسْهِيلِ الِاسْتِقْرارِ عَلَيْها وتَثْبِيتِها بِالجِبالِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والجِبالَ أرْساها﴾ مَتاعًا ﴿لَكم ولِأنْعامِكُمْ﴾ [النازعات: ٣٢ - ٣٣] .
وَمِن إمْكانِ الزَّرْعِ فِيها كَقَوْلِهِ: ﴿فَأنْبَتْنا فِيها حَبًّا﴾ ﴿وَعِنَبًا وقَضْبًا﴾ [عبس: ٢٧ - ٢٨] إلى قَوْلِهِ أيْضًا: ﴿مَتاعًا لَكم ولِأنْعامِكُمْ﴾ [عبس: ٣٢]، وقَدْ جُمِعَ أكْثَرُها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفاتًا﴾ ﴿أحْياءً وَأمْواتًا﴾ ﴿وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وأسْقَيْناكم ماءً فُراتًا﴾ [المرسلات: ٢٥ - ٢٧] .
وَكُنْتُ أسْمَعُ الشَّيْخَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ - يَقُولُ في هَذِهِ الآيَةِ: إنَّها مِن تَسْخِيرِ اللَّهِ تَعالى لِلْأرْضِ أنْ جَعَلَها كِفاتًا لِلْإنْسانِ في حَياتِهِ بِتَسْهِيلِ مَعِيشَتِهِ مِنها وحَياتِهِ عَلى ظَهْرِها، فَإذا ماتَ كانَتْ لَهُ أيْضًا كِفاتًا بِدَفْنِهِ فِيها.
وَيَقُولُ: لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَها حَدِيدًا، ونُحاسًا فَلا يَسْتَطِيعُ الإنْسانُ أنْ يَحْرُثَ فِيها، ولا يَحْفِرَ ولا يَبْنِيَ، وإذا ماتَ لا يَجِدُ مَدْفَنًا فِيها.
وَمِمّا يُشِيرُ إلى هَذِهِ المَعانِي كُلِّها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فامْشُوا في مَناكِبِها وكُلُوا مِن رِزْقِهِ﴾ [الملك: ١٥]؛ لِتَرَتُّبِهِ عَلى ما قَبْلَهُ بِالفاءِ، أيْ: بِسَبَبِ تَذْلِيلِها بِتَيْسِيرِ المَشْيِ في أرْجائِها، وطَلَبِ الرِّزْقِ في أنْحائِها بِالتَّسَبُّبِ فِيها مِن زِراعَةٍ وصِناعَةٍ وتِجارَةٍ إلَخْ.
والأمْرُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فامْشُوا في مَناكِبِها وكُلُوا مِن رِزْقِهِ﴾ لِلْإباحَةِ، ولَكِنَّ التَّقْدِيمَ لِهَذا الأمْرِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولًا﴾ فِيهِ امْتِنانٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى عَلى خَلْقِهِ مِمّا يُشْعِرُ أنَّ في هَذا الأمْرِ مَعَ الإباحَةِ تَوْجِيهًا وحَثًّا لِلْأُمَّةِ عَلى السَّعْيِ والعَمَلِ والجِدِّ، والمَشْيِ في مَناكِبِ الأرْضِ مِن كُلِّ جانِبٍ؛ لِتَسْخِيرِها وتَذْلِيلِها، مِمّا يَجْعَلُ الأُمَّةَ أحَقَّ بِها مِن غَيْرِها.
كَما قالَ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكم ما في الأرْضِ والفُلْكَ تَجْرِي في البَحْرِ بِأمْرِهِ﴾ [الحج: ٦٥] .
(p-٢٣٩)وَفِي قَوْلِهِ: ﴿وَسَخَّرَ لَكم ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ جَمِيعًا مِنهُ﴾ [الجاثية: ١٣]، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وَمَن رَأى هَذا التَّسْخِيرَ اعْتَرَفَ لِلَّهِ بِالفَضْلِ والقِيامِ لِلَّهِ بِالحَمْدِ، وتَقْدِيمِ الشُّكْرِ كَما قالَ تَعالى: ﴿والبُدْنَ جَعَلْناها لَكم مِن شَعائِرِ اللَّهِ لَكم فِيها خَيْرٌ فاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإذا وجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنها وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْناها لَكم لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ [الحج: ٣٦] .
وَقَوْلِهِ: ﴿والَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها وجَعَلَ لَكم مِنَ الفُلْكِ والأنْعامِ ما تَرْكَبُونَ﴾ لِتَسْتَوُوا ﴿عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكم إذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ ﴿وَإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ [الزخرف: ١٢ - ١٤] .
أيْ: مَعَ شُكْرِ النِّعْمَةِ الِاتِّعاظُ والعِبْرَةُ والِاسْتِدْلالُ عَلى كَمالِ القُدْرَةِ.
وَمِنها المَعادُ والمُنْقَلَبُ إلى اللَّهِ تَعالى، فَقَوْلُهُ: ﴿وَإلَيْهِ النُّشُورُ﴾ بَعْدَ المَشْيِ في مَناكِبِ الأرْضِ، وتَطَلُّبِ الرِّزْقِ وما يَتَضَمَّنُ مِنَ النَّظَرِ والتَّأمُّلِ في مُسَبَّبِاتِ الأسْبابِ وتَسْخِيرِ اللَّهِ لَها، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ بَعْدَ ذِكْرِ: ﴿خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها﴾ أيِ: الأصْنافَ، وتَسْخِيرُ الفُلْكِ، والأنْعامِ، والبَحْرِ والبَرِّ فِيهِ ضِمْنًا إثْباتُ القُدْرَةِ عَلى البَعْثِ، فَيَكُونُ المَشْيُ في مَناكِبِ الأرْضِ، واسْتِخْدامُ مَناكِبِها، واسْتِغْلالُ ثَرَواتِها والِانْتِفاعُ مِن خَيْراتِها لا لِطَلَبِ الرِّزْقِ وحْدَهُ، وإلّا لَكانَ يُمْكِنُ سَوْقُهُ إلَيْهِمْ، ولَكِنْ لِلْأخْذِ بِالأسْبابِ أوَّلًا، ولِلنَّظَرِ في المُسَبَّبِاتِ والعِبْرَةِ بِالمَخْلُوقاتِ والتَّزَوُّدِ لِما بَعْدَ المَماتِ، كَما في آيَةِ ”الجُمُعَةِ“: ﴿فانْتَشِرُوا في الأرْضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: ١٠] .
أيْ: عِنْدَ مُشاهَدَةِ آياتِ قُدْرَتِهِ وعَظِيمِ امْتِنانِهِ.
وَعَلَيْهِ، فَقَدْ وضَعَ القُرْآنُ الأُمَّةَ الإسْلامِيَّةَ في أعَزِّ مَواضِعِ الغِنى، والِاسْتِغْناءِ والِاسْتِثْمارِ والإنْتاجِ، فَما نَقَصَ عَلَيْها مِن أُمُورِ دُنْياها إلّا بِقَدْرِ ما قَصَّرَتْ هي في القِيامِ بِهَذا العَمَلِ وأضاعَتْ مِن حَقِّها في هَذا الوُجُودِ.
وَقَدْ قالَ النَّوَوِيُّ في مُقَدِّمَةِ المَجْمُوعِ: إنَّ عَلى الأُمَّةِ الإسْلامِيَّةِ أنْ تَعْمَلَ عَلى اسْتِثْمارِ (p-٢٤٠)وَإنْتاجِ كُلِّ حاجِياتِها حَتّى الإبْرَةِ؛ لِتَسْتَغْنِيَ عَنْ غَيْرِها، وإلّا احْتاجَتْ إلى الغَيْرِ بِقَدْرِ ما قَصَّرَتْ في الإنْتاجِ، وهَذا هو واقِعُ العالَمِ اليَوْمَ، إذِ القُدْرَةُ الإنْتاجِيَّةُ هي المُتَحَكِّمَةُ وذاتُ السِّيادَةِ الدَّوْلِيَّةِ.
وَقَدْ أعْطى اللَّهُ العالَمَ الإسْلامِيَّ الأوْلَوِيَّةَ في هَذا كُلِّهِ، فَعَلَيْهِمْ أنْ يَحْتَلُّوا مَكانَهم، ويُحافِظُوا عَلى مَكانَتِهِمْ، ويُشَيِّدُوا كِيانَهم بِالدِّينِ والدُّنْيا مَعًا. وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
{"ayah":"هُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولࣰا فَٱمۡشُوا۟ فِی مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا۟ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَیۡهِ ٱلنُّشُورُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











