الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرانَ الَّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِن رُوحِنا﴾ . بَيَّنَ تَعالى المُرادَ بِالرُّوحِ بِأنَّهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في قَوْلِهِ: ﴿فَأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم: ١٧]، وهو جِبْرِيلُ. كَما في قَوْلِهِ: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ أيْ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالقُرْآنِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ رَدٌّ عَلى النَّصارى اسْتِدْلالَهم بِها عَلى أنَّ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ابْنُ اللَّهِ ومِن رُوحِهِ تَعالى، سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وبَيانُ هَذا الرَّدِّ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا﴾ تَعْدِيَةُ أرْسَلَ بِنَفْسِهِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الَّذِي أُرْسِلَ يُمْكِنُ إرْسالُهُ بِنَفْسِهِ، وهو فَرْقٌ عِنْدَ أهْلِ اللُّغَةِ، بَيْنَما يُرْسِلُ نَفْسَهُ وما يُرْسِلُ مَعَ غَيْرِهِ كالرِّسالَةِ والهَدِيَّةِ، فَيُقالُ فِيهِ: أرْسَلْتُ إلَيْهِ بِكَذا، كَما في قَوْلِهِ: ﴿وَإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ﴾ الآيَةَ [النمل: ٣٥] . فالهَدِيَّةُ لا تُرْسَلُ بِنَفْسِها، ومِثْلُهُ بَعَثْتُ، تَقُولُ: بَعَثْتُ البَعِيرَ مِن مَكانِهِ، وبَعَثْتُ مَبْعُوثًا، وبَعَثْتُ بِرِسالَةٍ، ثانِيًا قَوْلُهُ: ﴿فَتَمَثَّلَ لَها﴾ لَفْظُ الرُّوحِ مُؤَنَّثٌ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَوْلا إذا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ وأنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ﴾ [الواقعة: ٨٣ - ٨٤]، أنَّثَ الفِعْلَ في بَلَغَتْ، وهُنا الضَّمِيرُ مُذَكَّرٌ عائِدٌ لِجِبْرِيلَ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا﴾، ولَوْ أنَّهُ مِن رُوحِ اللَّهِ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ النَّصارى، لَما كانَ في حاجَةٍ إلى هَذا التَّمْثِيلِ. (p-٢٢٦)ثالِثًا قَوْلُهُ لَها: ﴿إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ﴾ [مريم: ١٩] ورَسُولُ رَبِّها هو جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ولَيْسَ رُوحَهُ تَعالى. رابِعًا: قَوْلُهُ: ﴿لِأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ [مريم: ١٩]، ولَمْ يُقَلْ لِأهَبَ لَكِ رُوحًا مِنَ اللَّهِ. وَمِن هَذا أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى لِلْمَلائِكَةِ: ﴿إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ﴾ [ص: ٧١] يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿فَإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾ [الحجر: ٢٩]، أيْ: نَفَخْتُ فِيهِ الرُّوحَ الَّتِي بِها الحَياةُ: ﴿فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾ [الحجر: ٢٩] . فَلَوْ أنَّ الرُّوحَ مِنَ اللَّهِ لَكانَ آدَمُ أوْلى مِن عِيسى؛ لِأنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إرْسالَ رَسُولٍ لَهُ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٥٩]، فَكَذَلِكَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا بَشَّرَتْها بِهِ المَلائِكَةُ: ﴿قالَتْ رَبِّ أنّى يَكُونُ لِي ولَدٌ ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إذا قَضى أمْرًا فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٤٧]، فَكُلٌّ مِن آدَمَ وعِيسى، قالَ لَهُ تَعالى: كُنْ فَكانَ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. ⁕ ⁕ ⁕ * قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب): قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكانَتْ مِنَ القانِتِينَ﴾ . لا يَخْفى ما يَسْبِقُ إلى الذِّهْنِ مِن أنَّ المَرْأةَ لَيْسَتْ مِنَ الرِّجالِ، وهو تَعالى لَمْ يَقُلْ مِنَ القانِتاتِ. الجَوابُ هو إطْباقُ أهْلِ اللِّسانِ العَرَبِيِّ عَلى تَغْلِيبِ الذَّكَرِ عَلى الأُنْثى في الجَمْعِ، فَلَمّا أرادَ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ مَرْيَمَ مِن عِبادِ اللَّهِ القانِتِينَ وكانَ مِنهم ذُكُورٌ وإناثٌ غَلَّبَ الذُّكُورَ كَما هو الواجِبُ في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخاطِئِينَ﴾ [يوسف: ٢٩]، وقَوْلُهُ: ﴿إنَّها كانَتْ مِن قَوْمٍ كافِرِينَ﴾ [النمل: ٤٣] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب