الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ .
بَعْدَ الأمْرِ بِإحْصاءِ العِدَّةِ، وكَوْنِ العِدَدِ مُخْتَلِفَةَ الأنْواعِ مِن أقْراءٍ إلى أشْهُرٍ إلى وضْعِ الحَمْلِ، والمُعْتَدّاتُ مُتَفاوِتاتُ الأقْراءِ وأمَدِ الحَمْلِ، فَقَدْ تَكُونُ في أوَّلِهِ أوْ وسَطِهِ أوْ آخِرِهِ، وكُلُّ ذَلِكَ لا بُدَّ مِن إحْصائِهِ لِما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِن حُرْمَةٍ وحِلِّيَّةٍ، فَتَخْرُجُ مِن عِدَّةِ هَذا وتَحِلُّ (p-٢١٣)لِذاكَ.
كَما قالَ تَعالى: ﴿وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٥] وهَذا كُلُّهُ لا يَتَأتّى إلّا بِالإحْصاءِ.
والإحْصاءُ لا يَكُونُ إلّا لِمُقَدَّرٍ مَعْلُومٍ، وعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾، مُؤَكِّدٌ لِهَذا كُلِّهِ، وكَذَلِكَ فِيهِ نَصٌّ صَرِيحٌ أنَّهُ تَعالى قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ أيًّا كانَ هو قَدْرًا لا يَتَعَدّاهُ لا بِزِيادَةٍ ولا بِنَقْصٍ، ولَفْظُ شَيْءٍ أعَمُّ العُمُوماتِ.
وَقَدْ جاءَتْ آياتٌ كَثِيرَةٌ دالَّةٌ عَلى هَذا العُمُومِ عامَّةٌ وخاصَّةٌ، فَمِنَ الآياتِ العامَّةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩] . وقَوْلُهُ: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: ٢] . وقَوْلُهُ: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ﴾ [الرعد: ٨] . وقَدْ جَمَعَ العامَّ والخاصَّ قَوْلُهُ: ﴿وَإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر: ٢١] .
وَمِنَ التَّقْدِيرِ الخاصِّ في مَخْصُوصِ قَوْلِهِ: ﴿والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ ﴿والقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّى عادَ كالعُرْجُونِ القَدِيمِ﴾ ﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ ولا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٣٨ - ٤٠] .
إنَّها قُدْرَةٌ باهِرَةٌ وحِكْمَةٌ بالِغَةٌ، وإرادَةٌ قاهِرَةٌ، وسُلْطَةٌ غالِبَةٌ، قُدْرَةُ مَن أمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئًا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وَقَدْ قالَ عُلَماءُ الهَيْئَةِ: أنَّ حِسابَ مَسِيرِ هَذِهِ الأفْلاكِ في مَنازِلِها أدَقُّ ما يَكُونُ مِن مِئاتِ أجْزاءِ الثّانِيَةِ، ولَوِ اخْتَلَفَ جُزْءٌ مِنَ الثّانِيَةِ لاخْتَلَّ نِظامُ العالَمِ ولَما صَلُحَتْ عَلى وجْهِ الأرْضِ حَياةٌ، ونَحْنُ نُشاهِدُ حَرَكَةَ اللَّيْلِ والنَّهارِ ونُقْصانَهُما وزِيادَتَهُما وفُصُولَ السَّنَةِ كَما قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ والنَّهارَ عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ [المزمل: ٢٠] .
وَهُوَ سُبْحانُهُ وتَعالى يُحْصِيهِ، وكَذَلِكَ التَّقْدِيرُ لِوُجُودِ الإنْسانِ قَبْلَ وبَعْدَ وُجُودِهِ، قالَ تَعالى: ﴿مِن أيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ ﴿مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ [عبس: ١٨ - ١٩]، أيْ: قَدَّرَ خَلْقَهُ وصُورَتَهُ ونَوْعَهُ كَما بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿يَهَبُ لِمَن يَشاءُ إناثًا ويَهَبُ لِمَن يَشاءُ الذُّكُورَ أوْ يُزَوِّجُهم ذُكْرانًا وإناثًا﴾ الآيَةَ، إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: ٤٩ - ٥٠] .
وَهَذا أيْضًا مِن آياتِ قُدْرَتِهِ يَرُدُّ بِها سُبْحانَهُ عَلى مَن جَحَدَ وُجُودَ اللَّهِ وكَفَرَ بِالبَعْثِ (p-٢١٤)كَما في مُسْتَهَلِّها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَرَهُ مِن أيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [عبس: ١٧ - ١٨] .
ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّهُ خَلَقَهُ مِن نُطْفَةِ ماءٍ مَهِينٍ، ولَكِنْ قَدَّرَ اللَّهُ تَعالى قُدْرَتَها وصُورَتَها حَتّى صارَتْ خَلْقًا سَوِيًّا، وجَعَلَ لَهُ وهو في بَطْنِ أُمِّهِ عَيْنَيْنِ، ولِسانًا، وشَفَتَيْنِ أيْ: وأنْفًا وأُذُنَيْنِ ويَدَيْنِ ورِجْلَيْنِ وكُلَّ جِهازٍ فِيهِ حَيَّرَ الحُكَماءَ في صُنْعِهِ ونِظامِهِ.
ثُمَّ قَدَّرَ تَعالى أرْزاقَهُ عَلى الأرْضِ قَبْلَ وُجُودِهِ يَوْمَ خَلَقَ الأرْضَ، وجَعَلَهُ آيَةً عَلى قُدْرَتِهِ وعاتَبَ الإنْسانَ عَلى كُفْرِهِ: ﴿قُلْ أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ وتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدادًا ذَلِكَ رَبُّ العالَمِينَ﴾ ﴿وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِن فَوْقِها وبارَكَ فِيها وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها في أرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ﴾ [فصلت: ٩ - ١٠] .
وَبَعْدَ وُجُودِ الكَوْنِ وخَلْقِ الإنْسانِ قَدَّرَ في الإيجادِ بِإنْزالِ المَطَرِ: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى طَعامِهِ﴾ ﴿أنّا صَبَبْنا الماءَ صَبًّا﴾ ﴿ثُمَّ شَقَقْنا الأرْضَ شَقًّا﴾ ﴿فَأنْبَتْنا فِيها حَبًّا وعِنَبًا﴾ [فصلت: ٢٤ - ٢٨] .
ثُمَّ إنَّ صَبَّ هَذا الماءِ كانَ بِقَدَرٍ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ﴾ [المؤمنون: ١٨] .
وَقَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: ٢٧]، أيْ: بِقَدْرِ ما يُصْلِحُهم ولَوْ زادَهُ لَفَسَدَ حالُهم، كَما في قَوْلِهِ قَبْلَها: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ ولَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ﴾ [النور: ٢٧]، وبِقَدْرِ مَصْلَحَتِهِمْ يُنَزِّلُ لَهم أرْزاقَهم.
كَما نَبَّهَ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى﴾ ﴿أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ [العلق: ٦ - ٧] .
هَذِهِ لَمْحَةٌ عَنْ حِكْمَةِ تَقْدِيرِ العَزِيزِ الحَكِيمِ الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، والَّذِي قَدَّرَ الأشْياءَ قَبْلَ وُجُودِها كَما في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِي قَدَّرَ فَهَدى﴾ [الأعلى: ٣] .
وَكَما في حَدِيثِ القَلَمِ وكِتابَةِ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ وُجُودِهِ بِزَمانِهِ ومَكانِهِ ومِقْدارِهِ، إنَّ آيَةَ القُدْرَةِ وبَيانَ العَجْزِ قُدْرَةُ الخالِقِ وعَجْزُ المَخْلُوقِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا جاءَ أجَلُهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٤] .
وَكَقَوْلِهِ: ﴿وَما يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّرٍ ولا يُنْقَصُ مِن عُمُرِهِ إلّا في كِتابٍ﴾ [فاطر: ١١] أيْ: (p-٢١٥)لا يَتَعَدّاهُ ولا يَتَخَطّاهُ، وقَدْ تَحَدّاهُمُ اللَّهُ في ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَوْلا إذا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ﴾ ﴿وَأنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ﴾ ﴿وَنَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنكم ولَكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿فَلَوْلا إنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [الواقعة: ٨٣ \ - ٨٧] كَلّا إنَّهم مَدِينُونَ ولَنْ يَسْتَطِيعُوا إرْجاعَها.
وَهُنا يُقالُ لِلدَّهْرِيِّينَ والشُّيُوعِيِّينَ الَّذِينَ لا يَعْتَرِفُونَ بِوُجُودِ فاعِلٍ مُخْتارٍ وعَزِيزٍ قَهّارٍ، إنَّ هَذا الكَوْنَ بِتَقْدِيراتِهِ ونُظُمِهِ لَآيَةٌ شاهِدَةٌ وبَيِّنَةٌ عادِلَةٌ عَلى وُجُودِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس: ٨٣] .
كَما يُقالُ لِلْمُؤْمِنِينَ أيْضًا إنَّ ما قَدَّرَهُ اللَّهُ نافِذٌ، وما قُدِّرَ لِلْعَبْدِ آتِيهِ، وما لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ لَنْ يَصِلَ إلَيْهِ، طُوِيَتِ الصُّحُفُ وجَفَّتِ الأقْلامُ: ﴿لا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكم ولا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ﴾ [الحديد: ٢٣] .
وَيُقالُ مَرَّةً أُخْرى: اعْمَلُوا كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ، وبِاللَّهِ تَعالى التَّوْفِيقُ.
{"ayah":"وَیَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَیۡثُ لَا یَحۡتَسِبُۚ وَمَن یَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَـٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَیۡءࣲ قَدۡرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق