الباحث القرآني

(p-٢٠٨)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الطَّلاقِ * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأحْصُوا العِدَّةَ واتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾ الآيَةَ. قِيلَ في سَبَبِ نُزُولِها أنَّ النَّبِيَّ ﷺ طَلَّقَ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - فَنَزَلَتْ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وعَلى كُلٍّ فالعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَما هو مَعْلُومٌ. وَمِمّا يَشْهَدُ لِهَذِهِ القاعِدَةِ ما لَوْ أخَذْنا بِعَيْنِ الِاعْتِبارِ النَّسَقَ الكَرِيمَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، حَيْثُ كانَ آخِرَ ما قَبْلَها مَوْضُوعُ الأوْلادِ والزَّوْجاتِ مِن فِتْنَةٍ وعَداءٍ. والإشارَةُ إلى عِلاجِ ما بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِن إنْفاقٍ وتَسامُحٍ عَلى ما أشَرْنا إلَيْهِ سابِقًا هُناكَ، فَإنْ صَلُحَ ما بَيْنَهم بِذاكَ فَبِها ونِعْمَتْ، وإنْ تَعَذَّرَ ما بَيْنَهُما وكانَتِ الفُرْقَةُ مُتَحَتِّمَةً فَجاءَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلى إثْرِها تُبَيِّنُ طَرِيقَةَ الفُرْقَةِ السَّلِيمَةِ في الطَّلاقِ وتَشْرِيعِهِ وما يَتْبَعُهُ مِن عِدَدٍ وإنْفاقٍ ونَحْوِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ﴾، بِالنِّداءِ لِلنَّبِيِّ ﷺ . وقَوْلُهُ: ﴿إذا طَلَّقْتُمُ﴾ بِخِطابٍ لِعُمُومِ الأُمَّةِ، قالُوا: كانَ النِّداءُ لِلنَّبِيِّ ﷺ والخِطابُ لِلْأُمَّةِ تَكْرِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وتَكْلِيفًا لِلْأُمَّةِ. وقِيلَ: خُوطِبَتِ الأُمَّةُ في شَخْصِيَّةِ الرَّسُولِ ﷺ كَخِطابِ الجَماعَةِ في شَخْصِيَّةِ رَئِيسِها. وَقالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ -: ولِهَذِهِ الآيَةِ اسْتَدَلَّ مَن يَقُولُ: إنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَكُونُ داخِلًا في عُمُومِ خِطابِ الأُمَّةِ. اهـ. والواقِعُ أنَّ الخِطابَ المُوَجَّهَ لِلنَّبِيِّ ﷺ عَلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ: الأوَّلُ: قَدْ يَتَوَجَّهُ الخِطابُ إلَيْهِ ﷺ ولا يَكُونُ داخِلًا فِيهِ قَطْعًا، وإنَّما يُرادُ بِهِ الأُمَّةُ بِلا خِلافٍ، مِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى في بِرِّ الوالِدَيْنِ: ﴿إمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُما وقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا﴾ ﴿واخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا﴾ (p-٢٠٩)[الإسراء: ٢٣ - ٢٤] . فَكُلُّ صِيَغِ الخِطابِ هُنا مُوَجَّهَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ وهو قَطْعًا لَيْسَ مُرادًا بِذَلِكَ لِعَدَمِ وُجُودِ والِدَيْنِ، ولا أحَدِهِما عِنْدَ نُزُولِها كَما هو مَعْلُومٌ. الثّانِي: أنْ يَكُونَ خاصًّا بِهِ لا يَدْخُلُ مَعَهُ غَيْرُهُ قَطْعًا، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وامْرَأةً مُؤْمِنَةً إنْ وهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إنْ أرادَ النَّبِيُّ أنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ [الأحزاب: ٥٠] . والثّالِثُ: هو الشّامِلُ لَهُ ﷺ ولِغَيْرِهِ بِدَلِيلِ هَذِهِ الآيَةِ، وأوَّلِ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاةَ أزْواجِكَ﴾ [التحريم: ١]، فَهَذا كُلُّهُ خِطابٌ مُوَجَّهٌ لَهُ ﷺ . وَجاءَ بَعْدَها مُباشَرَةً: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ بِخِطابِ الجَمِيعِ: ﴿تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ [التحريم: ٢] فَدَلَّ أنَّ الآيَةَ داخِلَةٌ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: ١]، وهَذا بِاتِّفاقٍ. وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ - هَذِهِ المَسْألَةَ بِأقْوى دَلِيلٍ فِيها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾، إلى قَوْلِهِ: ﴿مُنِيبِينَ إلَيْهِ﴾ [الروم: - ٣١] . وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ﴾ الآيَةَ، يُشْعِرُ بِأنَّ كُلَّ المُطَلَّقاتِ مِنَ النِّساءِ يُطَلَّقْنَ لِعِدَّتِهِنَّ وتُحْصى عِدَّتُهُنَّ. والإحْصاءُ العَدَدُ مَأْخُوذٌ مِنَ الحَصا، وهو الحَصا الصَّغِيرُ كانَتِ العَرَبُ تَسْتَعْمِلُهُ في العَدَدِ لِأُمِّيَّتِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ عِدَدٍ لِبَعْضِ المُطَلَّقاتِ ولَمْ يَذْكُرْ جَمِيعَهُنَّ مَعَ أنَّهُ مِنَ المُطَلَّقاتِ مَن لا عِدَّةَ لَهُنَّ وهُنَّ غَيْرُ المَدْخُولِ بِهِنَّ، ومِنَ المُطَلَّقاتِ مَن لَمْ يَذْكُرْ عِدَّتَهُنَّ هُنا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّهُ لا عُمُومَ ولا تَخْصِيصَ؛ لِأنَّ لَفْظَ النِّساءِ اسْمُ جِنْسٍ يُطْلَقُ عَلى الكُلِّ وعَلى البَعْضِ، وقَدْ أُطْلِقَ هُنا عَلى البَعْضِ وهو المُبَيَّنُ حُكْمُهُنَّ بِذِكْرِ عِدَّتِهِنَّ، وهُنَّ اللّاتِي يَئِسْنَ والصَّغِيراتُ وذَواتُ الحَمْلِ، وحاصِلُ عِدَدِ النِّساءِ تَتَلَخَّصُ في الآتِي، وهي أنَّ الفُرْقَةَ إمّا بِحَياةٍ أوْ بِمَوْتٍ، والمُفارَقَةُ إمّا حامِلٌ أوْ غَيْرُ حامِلٍ، فالحامِلُ عِدَّتُها بِوَضْعِ حَمْلِها اتِّفاقًا، ولا عِبْرَةَ بِالخِلافِ في ذَلِكَ لِصِحَّةِ النُّصُوصِ، وغَيْرُ الحامِلِ بِأرْبَعَةِ أشْهُرٍ وعَشْرٍ (p-٢١٠)مَدْخُولٌ بِها وغَيْرُ مَدْخُولٍ، والمُفارَقَةُ بِالحَياةِ إمّا مَدْخُولٌ بِها أوْ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِها، فَغَيْرُ المَدْخُولِ بِها لا عِدَّةَ عَلَيْها إجْماعًا، والمَدْخُولُ بِها إمّا مِن ذَواتِ الأقْراءِ فَعِدَّتُها ثَلاثَةُ قُرُوءٍ عَلى خِلافٍ في المُرادِ بِالقُرْءِ. وَأمّا مَن لَيْسَتْ مِن ذَواتِ الأقْراءِ، كاليائِسَةِ والصَّغِيرَةِ، فَعِدَّتُها بِالأشْهُرِ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ - في الجُزْءِ الأوَّلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، وفَصْلُ أنْواعِ المُطَلَّقاتِ المَدْخُولِ بِهِنَّ وغَيْرِ المَدْخُولِ بِهِنَّ، وأنْواعُ العِدَدِ بِالأقْراءِ أوِ الأشْهُرِ أوِ الحَمْلِ، وبَيَّنَ الجَمْعَ بَيْنَ العُمُوماتِ الوارِدَةِ في ذَلِكَ كُلِّهِ مِمّا يُغْنِي عَنِ الإعادَةِ هُنا. * * * * تَنْبِيهٌ كُلُّ ما تَقَدَّمَ في شَأْنِ العِدَّةِ، إنَّما هو في خُصُوصِ الحَرائِرِ، وبَقِيَ مَبْحَثُ الإماءِ. أمّا الإماءُ: فالحَوامِلُ مِنهُنَّ كالحَرائِرِ سَواءٌ بِسَواءٍ، وغَيْرُ الحَوامِلِ فالجُمْهُورُ عَلى أنَّها عَلى النِّصْفِ مِنَ الحُرَّةِ إلّا أنَّ الحَيْضَةَ لَمّا لَمْ تَكُنْ تَتَجَزَّأُ فَجُعِلَتْ عِدَّتُها فِيها حَيْضَتَيْنِ، وهَذا بِاتِّفاقِ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ. أمّا ذاتُ الأشْهُرِ، فالجُمْهُورُ عَلى أنَّها تَعْتَدُّ شَهْرًا ونِصْفًا، وخالَفَ مالِكٌ فَجَعَلَ لَها ثَلاثَةَ أشْهُرٍ، فَيَكُونُ مالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وافَقَ الجُمْهُورَ في ذَواتِ الحَيْضِ، وخالَفَ الجُمْهُورَ في ذَواتِ الأشْهُرِ، وقَدْ أخْطَأ ابْنُ رُشْدٍ مَعَ مالِكٍ في نِقاشِهِ مَعَهُ هَذِهِ المَسْألَةَ، فَقالَ في بِدايَةِ المُجْتَهِدِ: وَقَدْ اضْطَرَبَ قَوْلُ مالِكٍ في هَذِهِ المَسْألَةِ، فَلا بِالنَّصِّ أخَذَ ولا بِالقِياسِ عَمِلَ، يَعْنِي أنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِالنَّصِّ في ذَواتِ الحَيْضِ فَيَجْعَلْ لَهُنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، كَما أخَذَ بِهِ في ذَواتِ الأشْهُرِ، حَيْثُ جَعَلَ لَهُنَّ ثَلاثَةَ أشْهُرٍ بِالنَّصِّ، ولا بِالقِياسِ عَمِلَ، أيْ: فَلَمْ يُنَصِّفِ الأشْهُرَ قِياسًا عَلى الحَيْضِ، فَكانَ مَذْهَبُهُ مُلَفَّقًا بَيْنَ القِياسِ في ذَواتِ الحَيْضِ، والنَّصِّ في ذَواتِ الأشْهُرِ، فَخالَفَ في ذَلِكَ الأئِمَّةَ الثَّلاثَةَ. واضْطَرَبَ قَوْلُهُ في نَظَرِ ابْنِ رُشْدٍ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَطَّرِدِ القِياسَ فِيهِما، ولا أعْمَلَ النَّصَّ فِيهِما، ولَكِنَّ الحَقَّ في المَسائِلِ الخِلافِيَّةِ لا يُمْكِنُ أنْ يُعْرَفَ إلّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ وِجْهَةِ النَّظَرِ عَنِ المُخالِفِ، فَقَدْ يَكُونُ مُحِقًّا، وقَدْ يَكُونُ فِعْلًا الحَقُّ مَعَ غَيْرِهِ. (p-٢١١)وَفِي هَذِهِ المَسْألَةِ بِالذّاتِ أشارَ العَدَوِيُّ في حاشِيَتِهِ: بِأنَّ وِجْهَةَ نَظَرِ مالِكٍ هي الرُّجُوعُ إلى أصْلِ الغَرَضِ مِنَ العِدَّةِ وهو بَراءَةُ الرَّحِمِ، والشَّهْرُ والنِّصْفُ لا يَكْفِي لِلْمَرْأةِ نَفْسِها أنْ تُخْبِرَ عَنْ نَفْسِها عَمّا إذا كانَتْ حامِلًا أمْ لا، فَأكْمَلَ لَها المُدَّةَ المَنصُوصَ عَلَيْها. أمّا الحَيْضَتانِ: فَفِيهِما بَيانٌ لِبَراءَةِ الرَّحِمِ. اهـ. مُلَخَّصًا. وَهَذا الَّذِي قالَهُ العَدَوِيُّ لَهُ أصْلٌ مِنَ الشَّرْعِ؛ لِأنَّ ذاتَ الأقْراءِ وجَدْناها في بَعْضِ الصُّوَرِ تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ، كَما جاءَ النَّصُّ في عِدَّةِ المُخْتَلِعَةِ، وإنْ كانَ فِيها خِلافٌ، ووَجَدْنا الأمَةَ تَثْبُتُ بَراءَةُ رَحِمِها في غَيْرِ هَذا بِحَيْضَتَيْنِ قَطْعًا، وهي فِيما إذا كانَتْ سُرِّيَّةً لِمالِكِها فَأرادَ بَيْعَها فَإنَّهُ يَسْتَبْرِئُها بِحَيْضَةٍ، والَّذِي يَشْتَرِيها يَسْتَبْرِئُها بِحَيْضَةٍ قَبْلَ أنْ يَمَسَّها، ثُمَّ هو يَفْتَرِشُها ويَأْمَنُ مِن أنْ يَسْقِيَ ماءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، فَعَلِمْنا أنَّ في الحَيْضَتَيْنِ بَراءَةً لِلرَّحِمِ، فاكْتَفى بِهِما مالِكٌ ووافَقَ الجُمْهُورَ. وَأمّا الشَّهْرُ والنِّصْفُ فَإنَّهُما لا يُمْكِنُ أنْ تَتَبَيَّنَ المَرْأةُ فِيهِما حَمْلًا؛ لِأنَّها مُدَّةُ الأرْبَعِينَ الأُولى وهي مَرْحَلَةُ النُّطْفَةِ، فَظَهَرَ بِهَذا أنَّ الحَقَّ مَعَ مالِكٍ، وأنَّ ابْنَ رُشْدٍ هو الَّذِي اضْطَرَبَتْ مَقالَتُهُ عَلى مالِكٍ، وقَدْ سُقْنا هَذا التَّنْبِيهَ لِبَيانِ واجِبِ طالِبِ العِلْمِ أمامَ المَسائِلِ الخِلافِيَّةِ مِن ضَرُورَةِ البَحْثِ عَنِ السَّبَبِ ووِجْهَةِ نَظَرِ المُخالِفِ وعَدَمِ المُبادَرَةِ لِلْإنْكارِ، لِأنْ يَكُونَ هو أحَقُّ بِأنْ يُنْكَرَ عَلَيْهِ ولا يُسارِعَ لِرَدِّ قَوْلٍ قَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ هو أوْلى بِأنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾، اتَّفَقَ المُفَسِّرُونَ أنَّ المُرادَ لِاسْتِقْبالِ عِدَّتِهِنَّ وفِيهِ مَبْحَثُ الطَّلاقِ السُّنِّيِّ والبِدْعِيِّ. واعْلَمْ أنَّ الحامِلَ وغَيْرَ المَدْخُولِ بِها لا بِدْعَةَ في طَلاقِهِما عِنْدَ الجُمْهُورِ، وأُلْحِقَتْ بِهِما الصَّغِيرَةُ، والطَّلاقُ البِدْعِيُّ هو جَمْعُ الثَّلاثِ في مَرَّةٍ أوِ الطَّلاقُ في الحَيْضَةِ أوْ في طُهْرٍ مَسَّها فِيهِ. وعِنْدَ الإمامِ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُفَرِّقُ الطَّلَقاتِ عَلى الصَّغِيرَةِ كُلَّ طَلْقَةٍ في شَهْرٍ ولا يَجْمَعُها، وقَدْ طالَ البَحْثُ في حُكْمِ الطَّلاقِ البِدْعِيِّ، هَلْ يَقَعُ ويُحْتَسَبُ عَلى المُطَلِّقِ، أمْ لا ؟ والأصْلُ فِيهِ «حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتَهُ وهي حائِضٌ، فَبَلَّغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ بِذَلِكَ، فَقالَ لَهُ ﷺ: ”مُرْهُ فَلْيُراجِعْها“» . والَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ أنَّهُ يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الطَّلْقَةِ، ومَن خالَفَ فِيها السُّنَّةَ، وعَلَيْهِ أنْ (p-٢١٢)يُراجِعَها، ولْيَعْمَلْ كَما أمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ «فَلْيُمْسِكْها حَتّى تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شاءَ أمْسَكَها، وإنْ شاءَ طَلَّقَها في طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّها فِيهِ»، أيْ: لِتَسْتَقْبِلْ عِدَّتَها ما لَمْ تَكُنِ الطَّلْقَةُ الثّالِثَةُ أوْ بِالثَّلاثِ عَلى ما عَلَيْهِ الجُمْهُورُ. وَقَدْ سُئِلَ أحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنِ الِاعْتِدادِ بِهَذِهِ الطَّلْقَةِ في الحَيْضَةِ فَقالَ: إنَّ قَوْلَهُ ﷺ: ”فَلْيُراجِعْها“، يَدُلُّ عَلى الِاعْتِدادِ بِها؛ لِأنَّهُ لا رَجْعَةَ إلّا مِن طَلاقٍ. وَقَدْ أطالَ ابْنُ دَقِيقِ العِيدِ الكَلامَ عَلَيْها في إحْكامِ الأحْكامِ وغَيْرِهِ مِمّا لا داعِيَ إلى سَرْدِهِ، وحاصِلُهُ ما قَدَّمْنا، ولَمْ يَقُلْ بِعَدَمِ الِاعْتِدادِ بِها إلّا سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ وجَماعَةٌ مِنَ التّابِعِينَ. وَقالَ أبُو حَيّانَ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ عَلى إطْلاقِهِ يُشْعِرُ بِالِاعْتِدادِ بِالطَّلاقِ سُنِّيًّا كانَ أوْ بِدْعِيًّا. ⁕ ⁕ ⁕ * قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب): سُورَةُ الطَّلاقِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ﴾ الآيَةَ. ظاهِرٌ في خُصُوصِ الخِطابِ بِهِ ﷺ، وقَوْلُهُ: ﴿إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ الآيَةَ [الطلاق: ١]، يَقْتَضِي خِلافَ ذَلِكَ. والجَوابُ هو ما تَقَدَّمَ مُحَرَّرًا في سُورَةِ ”الرُّومِ“ مِن أنَّ الخِطابَ الخاصَّ بِالنَّبِيِّ ﷺ حُكْمُهُ عامٌّ لِجَمِيعِ الأُمَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب