الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما أصابَ مِن مُصِيبَةٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ ومَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ . فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ نَصٌّ صَرِيحٌ بِأنَّ ما يُصِيبُ أحَدًا مُصِيبَةٌ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ. وَمَعْلُومٌ أنَّهُ كَذَلِكَ ما يُصِيبُ أحَدًا خَيْرٌ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلَ لَكم سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] أيْ: والبَرْدَ. وَلَكِنَّ التَّنْصِيصَ عَلى المُصِيبَةِ هُنا؛ لِيَدُلَّ أنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَنالُ العَبْدَ إنَّما هو بِإذْنِ اللَّهِ؛ لِأنَّ الجِبِلَّةَ تَأْبى المَصائِبَ وتَتَوَقّاها، ومَعَ ذَلِكَ تُصِيبُهُ، ولَيْسَ في مَقْدُورِهِ دَفْعُها بِخِلافِ الخَيْرِ، قَدْ يَدَّعِي أنَّهُ حَصَّلَهُ بِاجْتِهادٍ مِنهُ كَما قالَ قارُونُ: ﴿إنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: ٧٨] . وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾، قُرِئُ (يَهْدَأْ) بِالهَمْزِ مِنَ الهُدُوءِ، و (قَلْبُهُ) بِالرَّفْعِ، وهي بِمَعْنى يَهْدِي قَلْبَهُ؛ لِأنَّهُ يَعْلَمُ أنَّ ما أصابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، فَيَسْتَرْجِعُ فَيَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ بِهَذا ولا يَجْزَعُ، وهَذا مِن خَصائِصِ المُؤْمِنِ. كَما قالَ ﷺ: «عَجَبًا لِأمْرِ المُؤْمِنِ إنْ أصابَتْهُ سَرّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيْرًا لَهُ، وإنْ أصابَتْهُ ضَرّاءُ صَبَرَ، فَكانَ خَيْرًا لَهُ حَتّى الشَّوْكَةِ يُشاكُها في قَدَمِهِ» . وَمِثْلُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكم بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ ونَقْصٍ مِنَ الأمْوالِ والأنْفُسِ والثَّمَراتِ وبَشِّرِ الصّابِرِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ إذا أصابَتْهم مُصِيبَةٌ قالُوا إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِن رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ وأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٥٥ - ١٥٧] . أيْ: إلى ما يَلْزَمُهم مِنِ امْتِثالٍ وصَبْرٍ ولِذا جاءَ بَعْدَها: ﴿وَأطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [التغابن: ١٢] . (p-٢٠٣)وَمِن ناحِيَةٍ أُخْرى يُقالُ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ما أصابَ مِن مُصِيبَةٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾، والكُفْرُ أعْظَمُ المَصائِبِ. ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ والإيمانُ بِاللَّهِ أعْظَمُ النِّعَمِ، فَيَقُولُ قائِلٌ: إنْ كانَ كُلُّ ذَلِكَ بِإذْنِ اللَّهِ، فَما ذَنْبُ الكافِرِ وما فَضْلُ المُؤْمِنِ، فَجاءَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، بَيانًا لِما يَلْزَمُ العَبْدَ، وهو طاعَةُ الرُّسُلِ فِيما جاءُوا بِهِ، ولا يَمْلِكُ سِوى ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ مِن نِسْبَةِ الهِدايَةِ إلى القَلْبِ بَيانٌ لِقَضِيَّةِ الهِدايَةِ العامَّةِ والخاصَّةِ، كَما قالُوا في قَوْلِهِ تَعالى عَنْهُ ﷺ: ﴿وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢]، مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ [القصص: ٥٦] . فَقالُوا: الهِدايَةُ الأُولى دَلالَةُ إرْشادٍ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهم فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ [فصلت: ١٧] . والثّانِيَةُ: هِدايَةُ تَوْفِيقٍ وإرْشادٍ ويَشْهَدُ لِذَلِكَ شِبْهُ الهِدايَةِ مِنَ اللَّهِ لِقَلْبِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، بِتَكْرارِ فِعْلِ الطّاعَةِ يَدُلُّ عَلى طاعَةِ الرَّسُولِ تَلْزَمُ مُسْتَقِلَّةً. وَقَدْ جاءَتِ السُّنَّةُ بِتَشْرِيعاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ وبِتَخْصِيصِ القُرْآنِ ونَحْوِ ذَلِكَ، كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: ٧] . وَمِمّا يَشْهَدُ لِهَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: ٥٩]، فَكَرَّرَ الفِعْلَ بِالنِّسْبَةِ لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ، ولَمْ يُكَرِّرْهُ بِالنِّسْبَةِ لِأُولِي الأمْرِ؛ لِأنَّ طاعَتَهم لا تَكُونُ اسْتِقْلالًا بَلْ تَبَعًا لِطاعَةِ اللَّهِ، وطاعَةِ رَسُولِهِ، كَما في الحَدِيثِ: «لا طاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخالِقِ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب